آجلاً أم عاجلاً سنصل إلى قناعة بان أحد البدائل الأساسية للتعامل مع الازمة المزمنة للطاقة في الأردن، والتي ارتبطت بأزمات الاقتصاد الوطني منذ عقود يتمثل في اللجوء إلى الحل الذي توصلت إليه العديد من دول العالم التي تشابهنا في ظروف ندرة الطاقة، وأخرى وصلت إلى هذا الحل من منظور مستقبلي انطلاقا من إدراكها لمستقبل أزمة الطاقة في العالم، بالاعتماد على الطاقة النووية السلمية كمصدر أساسي للطاقة.
يكاد يكون الأردن البلد الوحيد في العالم الذي يدفع ثلث ناتجه الوطني لقاء حصوله على الطاقة  مقارنة مع المعدل العالمي لكلفة الطاقة الذي لا يتجاوز 3% من الناتج العالمي، حيث لا مناجم فحم ولا مشاريع استراتيجية للاستفادة من الطاقة الشمسية ولا سدود عملاقة توفر طاقة الكهرباء. ومع توقف المنح النفطية وتراجع المساعدات الدولية ولم يبق على حد تعبير جلالة الملك إلا "تحمل صبرنا على أنفسنا بدل صبر الآخرين علينا" حيث تقف الدولة الأردنية أمام أحد المنعطفات الخطرة في تاريخها يفرضها الاقتصاد السياسي العالمي في ضوء تغيير قائم وقادم للخرائط وللتحالفات والاصطفافات في الشرق الأوسط بدأ منذ ثلاث سنوات ويحتاج ما بين سبع إلى عشر سنوات أخرى كي تعود الأوضاع إلى الاستقرار حسب رؤية الكثير من الاستراتيجيين، إذ ستخرج دول من الخرائط وتدخل دول جديدة وتندمج مجتمعات وتنقسم أخرى وستدور تفاعلات هذه السنين على محاور بناء القدرات الذاتية والتحالفات الإقليمية، والقاسم المشترك لهذه التفاعلات سيدور حول مدار الطاقة وأمنها.
إن انشغال الحكومات الأردنية خلال الفترة الأخيرة بتمرير عمليات رفع الدعم عن المشتقات النفطية لموازاة جنون سوق النفط العالمي في ضوء غياب أي بدائل أخرى لديها وحرصها على كسب تفهم الشارع الأردني جعل الكثير من النخب الأردنية العاقلة تحسب مائة حساب قبل أن توغل في طرح أسئلة واقعية هي في المحصلة أسئلة الدولة والحكومة والرأي العام؛ ماذا بعد؟؟ ماذا حول البدائل الواقعية في المدى المتوسط والمدى البعيد؟ حيث لا بدائل في المدى القريب, وما هي استراتيجيات التعامل مع نتائج أزمة الطاقة على واقع التنمية التي بدأت نذرها بالتحقق وستأخذ مداها خلال عام أو أكثر بقليل في اتساع قاعدة الفقر وارتفاع معدلات البطالة وتراجع قطاعات الإنتاج الأساسية وبالتحديد الصناعة وبعض قطاعات الخدمات؟ لنا ان نتصور حجم هذا التأثير إذا ما علمنا، على سبيل المثال، أن نفقات الطاقة التي تدفعها مصانع الاسمنت تشكل حوالي 70% من كلفة الإنتاج، وفي المحصلة يصبح من الصعب في ضوء استمرار هذه الأوضاع الحديث عن التنمية والإصلاح أو المطالبة بتسجيل معدلات نمو حقيقية في الاقتصاد.
ومن زاوية أزمة الطاقة في الأردن؛ تطرح هذه الظروف أسئلة أخرى حول استراتيجيات واليات التعامل مع المحيط الإقليمي المشحون بالاقتتالات والحروب الداخلية ونذر الحروب الكبرى وأعباء الاحتلالات القائمة، وما هو الثمن المطلوب أردنيا وسط هذا المشهد المزدحم بالصفقات والتحالفات الجديدة المغلفة بدخان النفط ورائحة الغاز.
وسواء كان الأردنيون يتحدثون اليوم بشغف حول قصة الزيت الصخري، كأحد بدائل الطاقة الموعودة أو يشككون بجدواها، فإننا - في النهاية- ربما أكثر دولة في العالم يجب ان يقلقها تحدي امن الطاقة، ونحن بأمس الحاجة إلى بناء استراتيجية وطنية لأمن الطاقة لمدة ربع قرن على الأقل؛ فأمن الطاقة بالنسبة للأردن يعد واحدا من بين ثلاثة تحديات أساسية للأمن الوطني خلال العقدين القادمين، وهي فترة قصيرة في عمر الشعوب وفي مسيرة بناء الأوطان، تفترض بناء رؤية واقعية واضحة لمصادر الطاقة واستمرار تدفقها وتطورها بالتوازن مع تطور الاحتياجات التنموية الوطنية بالأخذ بالأسباب وما يتوفر في العالم من فرص وتجارب سابقة؛ وفي بلد بظروف الأردن وبحجم التحديات التي يواجهها تصبح الندرة أداة للمبادرة والمبادأة والمغمارة التاريخية أحيانا.
السيناريو الأكثر واقعية يقوم على  استمرار زيادة الطلب العالمي على النفط بمعدل 1.5% سنوياً مقابل تراجع الإنتاج العالمي بمعدل 2.5% سنوياً، فالأرقام والحقائق وخبرات الماضي تشير إلى ان سعر برميل النفط سيتجاوز خلال العقدين القادمين حدود 150 دولارا في الوقت الذي ستبدأ هذه السلعة الاستراتيجية بالانسحاب من ساحة الحضارة الإنسانية. ومن المتوقع بعد أربعة عقود أن تكون خريطة الطاقة العالمية قد تغيرت حتى تصل مشاركة النفط بحدود (7%) والغاز (10%) والطاقة النووية(40%) والطاقات المتجددة (35%). والسيناريو الفرعي الآخر يقول أن  انتاج النفط سيتراجع في العالم وستدب الفوضى بالأسعار وسيعم الظلام نصف الكرة الأرضية التي نامت شعوبها على أمل يستمر تدفق النفط الرخيص أو الغالي إلى ما لا نهاية.
في ضوء هذه المتغيرات وصلت الكثير من دول العالم إلى قناعة بأنه لم يعد أمامها سوى الاعتماد على الطاقة النووية التي تنتج حالياً (16%) من حجم الطاقة التي يستهلكها العالم ويتم توليدها في 443 محطة نووية منتشرة في الولايات المتحدة والصين وفرنسا وروسيا والهند وكوريا الجنوبية وغيرها من دول آسيا واوروبا. ولنا ان نتصور بأنّ فرنسا تحصل على ما يقارب (80%) من احتياجاتها من محطات الطاقة النووية، وهناك زيادة مطردة في عدد الدول التي تلتحق بنادي الطاقة النووية السلمية وهناك اليوم 26 محطة للطاقة النووية تحت الإنشاء في آسيا وأميركا اللاتينية، ويوجد نوايا لدى المغرب وتركيا لبناء محطات مشابهة.
قبل عقدين من الزمن ساد تشاؤم عالمي حول مستقبل الطاقة النووية السلمية بعد تشرنوبيل الروسية والتكاليف الباهظة لعملية بناء المحطات والفترة الزمنية التي تحتاجها، إلا ان الجيل الثالث من هذه المحطات الذي بدأ يدشن منذ منتصف التسعينيات قلب المعادلة رأساً على عقب، فأصبحت هذه المحطات هي الأكثر أمناً وكلفها أقل بكثير، ولا تتجاوز نصف مليار دولار ومدة تدشينها ما بين (6 الى 8) سنوات.
ان البديل الوطني لأزمة الطاقة يتلخص في سلة الطاقة المحلية وأساسها بناء محطة للطاقة النووية لسد حاجات الأردن من الكهرباء ومن الطاقة المحركة لبعض قطاعات الإنتاج، وبإمكان الأردن وفق تجارب الآخرين ان يوفر ما بين 40 إلى 50% من احتياجاته للطاقة من هذا المصدر، وبالامكان تطوير طاقاتنا العلمية بسهولة، فقيم الأردن السياسية وصداقاته مع دول العالم المنتجة لهذه الطاقة توفر له الغطاء اللازم من الشرعية والحق في استيراد هذه التكنولوجيا، بل وتمويل جانباً منها، وفي شأن التمويل يجب أن نتذكر قصة صندوق الأجيال وعوائد الخصخصة التي كان من المفترض ان تستثمر في هذا النوع من المشاريع.
ان خيار الطاقة النووية بالنسبة للأردن خيار مصيري وبحجم التحدي، وان لم نبدأ به اليوم سوف تنعتنا الأجيال القادمة بقصر النظر وقلة الحيلة.

المراجع

جريدة الغد

التصانيف

صحافة  د.باسم الطويسي.   جريدة الغد