خلال ثلاث سنوات ماضية تغير الشرق الأوسط التقليدي بقوة السلاح والنار ولم يتغير بفعل السياسية والدبلوماسية أو حتى الايدولوجيا، وتذهب هذه الخلاصة إلى ان التغيرات التي جرت بقدر عدم امتلاكها أسسا واضحة الرؤية للمستقبل الذي يزداد غموضاً، وبقدر ما فيها من خلط بين القوة والايدولوجيا والعنف جعلت دول المنطقة وأنظمتها الحاكمة والنخب السياسية وربما نخبها الفكرية، كما يبدو في سلوكها خلال الشهور القليلة الماضية، أكثر حرصاً على السياسة وإعادة تعريف المصالح، لكن بصيغة براغماتية، وأحيانا نفعية وضيقة الأفق.
وعلى الرغم من ان سلوك دول المنطقة بأكملها سادها بعد احتلال العراق ما يشبه ظاهرة القطيع المذعور، إلا ان تراجع حدة الموجات الارتدادية للحادثة العراقية الكبرى، وما ارتبط بذلك من متغيرات، ومن تحريك البحيرات الراكدة، والضرب على المناطق الحساسة؛ جميعها أعادت تشكيل مزاج الذعر الإقليمي وجعلت الكثير من النخب السياسية التي كانت لا تعرف إلا لغة الايدولوجيا أمام شعوبها تجيد ممارسة براغماتية من نوع جديد بتفوق ومهارة، وها هي الولايات المتحدة تكتشف كم كانت نظرتها استشراقية وسطحية للسياسة والايدولوجيا والنخب في الشرق الأوسط.
المقدمات التي تصاغ هذه الأيام تنذر بشتاء سيغسل الغبار عن الكثير من الحقائق التي أخفتها حقبة المشروع الأميركي في العراق بالعودة المنتظرة لحالة من العزلة الاستراتيجية التي ستضفي بظلالها على مجمل التفاعلات في المنطقة، حيث ستحسم الصفقات السياسية القادمة الحراك الدولي في المنطقة، لمصلحة تكريس استعراض مشهد الرجل الواحد. شتاء الشرق الأوسط القادم سوف يعقبه خريف طويل تتكرس فيه التفاعلات السياسية في اتجاه واحد صوب واشنطن، بينما تتراجع دراما الفوضى الخلاقة وتنحصر لغة الايدولوجيا وتزداد التناقضات البينية، ويزداد اكتشاف السياسة البراغماتية في حدودها الضيقة.
يحق لأية نخبة حاكمة في الشرق الأوسط القديم أو الجديد ان تعقد الصفقات السياسية والاستراتيجية، وان تحقق مصالح بلادها وأن تكفل مستقبل شعوبها كيفما تشاء، ويحق لها ان تمارس براغماتية سياسية ما دامت تخدم مصالحها على المدى البعيد، وحتى ان بحت حناجر قادتها بالشتائم والوعيد والتهديد للولايات المتحدة ومن لف لفها؛ المشكلة في ان أنظمة ونخبا سياسية ستكتشف عما قريب انها تركت تلعب وحيدة، وان ظاهرة الاستقطاب الإقليمي آنية وتقترب نهايتها ومرتبطة بمصالح محددة، فبينما يتم الاقتراب من وضع اللمسات الأخيرة على الصفقة الإيرانية الاميركية، ويتراجع الخيار العسكري، يتداول الحديث عن استعادة سورية عربياً وتذهب الأمور في لبنان نحو اتجاهات غامضة وتجد دول خليجية وعربية أخرى راهنت على سيناريوهات بعينها نفسها حائرة في حجم الهوة بين ممارسة السياسة من منظور استراتيجي عقلاني يحسب حساب اليوم والغد وبين ممارسة السياسة بمنظور براغماتي ضيق يحسب حساب اللحظة لا غير.
ان التغيرات التي لحقت بالقيم السياسية في العلاقات الدولية مؤخرا ليست كما أشاع البعض على خلفيات تهديدات الرئيس الإيراني وسلوك الرئيس الفنزويلي وما شهدته بعض دول أميركا اللاتينية من تحولات بأنها حصار إيدولوجي حول الولايات المتحدة، بل ان الأدق وصف هذه التطورات بأنها لغة جديدة في البحث على المصالح، هي ما يتجاوز الماركسية وخطابات اليسار لأنها تملك درجة عالية من المرونة والحركة جرياً وراء المصالح في نموذج الأنظمة الجديدة في أميركا اللاتينية من جهة، وهي نمط من استراتيجية المصالح الإيرانية التي أضفت بظلالها على سياسات المحافظين في طهران منذ صفقة (إيران– كونترا) في الثمانينيات من جهة أخرى.
التغير الوحيد الذي نال الأنظمة العربية في فهمها للمصالح الوطنية، هو حالة الذعر التي جعلت القطعان الهاربة كلا على رأسه يتصرف ببراغماتية يومية ضيقة الأفق لا تحسب أكثر من حساب يومها؛ انها ذهنية الخوف وليست عقلية السياسة.
المراجع
جريدة الغد
التصانيف
صحافة د.باسم الطويسي. جريدة الغد