تطرح أساليب التعاطي بين الإعلاميين والحكومات والسياسيين بشكل عام في أوقات الأزمات أكثر من مشكلة، وتصبح أحيانا هذه العلاقة أداة من أدوات التأزم، وذلك وفق طبيعة الأنظمة الإعلامية السائدة في مرحلة الانتقال الديمقراطي. ولعل أهم مظاهر هذه العلاقة؛ حساسية مفرطة وغياب الوضوح من جهة، أو اللعب على المكشوف من جهة أخرى، وحالتا استقطاب حاد تفصل بينهما مساحة رمادية تحرم البلاد وكافة أشكال التنمية فيها من الآراء والخبرات الناضجة المستقلة، التي قد تلجأ أحيانا للصمت أو للهروب، وهي تراقب المشهد بأسى، بينما تزداد حدة اللهجات الدارجة، وتبرز بين وقت وآخر أصوات حمالة للأوجه تلعب على التوازنات والآخذ بالخواطر لتغلق الطريق أمام الوصول إلى بيئة معافاة توفر الحياة لتعددية حقيقية، وآراء وخبرات متنوعة ينتفع بها الناس.
لا يأتي تهديد حرية الرأي، كما هي الحالة الأردنية الراهنة، من الحكومة وحدها، بل ثمة مصادر أخرى للخوف والتردد ليس اقلها تعقيدات الحياة السياسية غير الناضجة، والحسابات التي تجعل الرأي السياسي المستقل لا يطاق ولا يحتفى به. الرأي السياسي المستقل، الذي يرى الوطن والدولة والمواطن بعين لا تكسرها المصالح ولا لعبة القوى السياسية ومراكزها الاجتماعية والاقتصادية وقدرتها على التصعيد أو التسويق، لا يجد حيزاً للحياة وسط زحام هائل من الآراء والأصوات والأقلام المتكاسرة.
من الناحية الأكاديمية الصرفة؛ ينظر إلى نظم الإعلام المقيدة وشبه المستقلة ومؤسسات التعبئة الأخرى في مرحلة الانتقال السياسي باعتبارها أدوات تمارس نمطاً من الإكراه السياسي المؤقت، الذي يخدم عملية التحول الديمقراطي ويقصر من عمرها بدل من الاستمرار في حالة تأبيد هذا التحول، بمعنى إدارة الصراع الاجتماعي سياسياً وأيديولوجيا لمصلحة ما يسمى بالغرس الثقافي للديمقراطية؛ أي تأصيلها مجتمعياً بالقيم والمعايير وتقديس التعددية، وبناء للمهنية والاحتراف يتم على أساس القدرة على ممارسة الاستقلال.
لكن ما يحدث لدينا هو تقاسم القوى السياسية والحكومية منابر وسائل الإعلام لتضيق المجال العام الوطني على ردود الفعل والموقف من الأجندات والتفاعلات الخارجية، أو تنمية اشتباكات وصراعات داخلية تترتب في ضوء تطورات إقليمية، وعلاوة على ما تنطوي عليه الحياة السياسية من ضعف، إلا ان هذا الواقع يفسر بعض جوانب العلاقة بين الإعلاميين والسياسيين ودورها في تردي الحياة السياسية، وبالتالي السؤال الأكثر أهمية، من يحدد ما يفكر فيه الناس باعتباره قضايا الساعة؟ وبكلمات أخرى: كيف يتم تعليب الرأي العام في قوالب جاهزة؟
ان نمط العلاقات بين السياسيين والإعلاميين يعد بحق احد المفاتيح التي تفهم من خلالها عملية تأبيد التحول الديمقراطي، وكأنها مرحلة أبدية لا تنتهي، تعتمد قدرة هذه العلاقة على إنتاج قضايا واولويات وأجندات جديدة، وإدارة الصراع الاجتماعي باتجاهات محددة بعينها لا مهمة لها سوى استمرار الأمر الواقع، ويتضح هذا الوصف حينما يُحتكر المجال السياسي من قبل الحكومة المركزية وقوة معارضة وحيدة لا غيرها، ما يجعل التكاسر السياسي حرباً غير مقدسة؛ لا تؤسس لتنمية عناصر قوة الدولة، وليست معنية بجدل حقيقي حول السياسات وأرقام النمو ومحاربة الفساد أو التعرف الدقيق على مصادر التهديد الداخلية والخارجية.
المقصود ان قوة وسائل الإعلام وأقلام الكتاب في أوقات الأزمات تأتي من قدرتها على تجزئة مفهوم القوة التقليدي من خلال تمكين الناس من الحقيقة والمعرفة حول ما يجري. فطالما مارست السلطة السياسية في العالم عبر التاريخ احتكار المعرفة والمعلومات وشكل ذلك احد مصادر القوة لها، بينما عملت وسائل الإعلام المعاصرة على كسر هذا الاحتكار بتمكين الناس من الحقيقة. فإذا ما أصبح الإعلاميون جزءاً من لعبة القوة مع السياسيين داخل الحكومات وخارجها ومعها أو ضدها، فإنّ السؤال المهم هنا ما هي مصادر معلومات الجمهور حول الأزمات؟ في هذا الوقت يبقى المصدر الوحيد هو الإشاعات حيث تتسع المساحات الرمادية في الحياة العامة كلما ازداد الاستقطاب، وتفتقد التعددية، أما الأكبر والأخطر من ذلك فهو تراجع قيمة التعددية التي ينساها الناس أيضا.
المراجع
جريدة الغد
التصانيف
صحافة د.باسم الطويسي. جريدة الغد