الوجه القبيح للجيش الأميركي كشفته مرة أخرى قصة العار في المحمودية بدون مواربة ولا خجل لتضاف إلى سجل جرائم هذا الجيش، التي تعدت سلوك العصابات المتوحشة. ويبدو ان قصص وجرائم الجيش الأميركي قد حولت اكبر جيش في العالم إلى ميلشيا صغيرة تدور في حمى الصراع على الساحة العراقية، لكنها ميلشيا من نوع آخر من دون قضية ولا عقيدة تحركها غرائز الموت والقتل والشهوات.
الجيوش الكبرى عبر التاريخ، في أوقات النصر والهزيمة وحينما تمارس الاحتلال أو تناضل في سبيل التحرير، تبقى تحافظ على الحد الأدنى من القيم والأبعاد الأخلاقية في عقيدتها القتالية، فما بالك بالجيش الذي يحرس قيم الحضارة الإنسانية المعاصرة، بعد خمسة آلاف عام على اختراع الكتابة وعشرة آلاف عام من التابو والمحرمات، وفي البلاد التي أنجزت أول منظومات القوانين والشرائع دفاعاً عن آدامية الإنسان وكرامته قبل أكثر من أربعة آلاف عام، بعد هذا كله يمارس هذا الجيش المحمل بنياشين النصر وأناشيد الفخار اغتصاب طفلة قاصرة أمام عيني والديها، ثم يعدم الوالدين والابنة وترمى الضحية بالرصاص وتحرق، وبدل ان يحرس الجنود الأميركيون، كما روجوا في العالم، حلم العراق بالتحرر والديمقراطية، بقي رفاق السلاح يحرسون الجندي ستيفن جرين لحين الانتهاء من جريمته البشعة!
خلال شهور قليلة ازدحمت فضائح الجيش الأميركي ذات الصفة الأخلاقية والإنسانية حيث تم النظر قانونيا بخمس جرائم من هذا النوع منذ مطلع العام، إضافة إلى جرائم سجن أبو غريب وجريمتي حديثة والاسحاقي، وعشرات الجرائم الأخرى التي لم يكشف عنها ولن تنتهي بقضية العار في المحمودية، وجرائم أخرى، نسبت إلى المقاومة أو الميلشيات المتصارعة، كما نسبت الجريمة الأخيرة في بداية الأمر إلى الإرهابيين وقادت الأحداث أو الصدفة لإثبات تورط الجيش الأميركي فيها. ما يثبت ان هذا الجيش لم يعد أكثر من ميليشيا صغيرة هي جزء من الفوضى الكبيرة التي تعم البلاد. هل هذه هي عقيدة الجيش الذي حرر أوروبا في حربين عالميتين؟! الم يقرأ قادة القيادة الوسطى مذكرات ايزنهاور وغيره من القادة الاميركيين حول شرف الجيوش؟!
كان أمام الأميركيين بعد أن جرى الاحتلال، وبغض النظر عن الموقف من الاحتلال في الأصل وفي الأساس، فرصة تاريخية لتحقيق مصالحهم وإنقاذ المنطقة على غرار ما دشنت من ديمقراطيات هامة في اليابان وألمانيا قبل أكثر من نصف قرن، لكنهم فشلوا حتى في إدارة الحياة اليومية للعراقيين كما يفشلون في هذا الوقت في العملية السياسية التي سلموها لرجال دين من الشيعة والسنة وحولوا العراق إلى دولة دينية تتقاتل فيها الطوائف والملل ويغيب عنها مفهوما الوطن والدولة.
ولعل موقف الجيش الأميركي هو الأكثر إحراجا، فيما الصورة الذهنية حوله أخذت تتعمق في الحضيض على المستوى الأخلاقي والإنساني بعد سلسلة الجرائم والفضائح التي لا بد ان تصل إلى مرحلة تحدث تحولات نوعية في الرأي العام الأميركي، وهو الرهان الأخير لإنقاذ شرف الجيش الأميركي.
أعود بالذاكرة إلى شهر كانون الثاني من عام 2004، وفي آخر خطاب له في ولايته الأولى روى الرئيس الأميركي، في معرض دفاعه عن استراتيجيته العسكرية في العراق، بأن طفلة أميركية تدعى (شيلي بيرسون) ذات عشر سنوات بعثت إلى الرئيس رسالة تطلب فيها ان يدلها على الطريقة التي تساعد بها العالم والآخرين وترجوه ان يضيف عبارة ان "شيلي تثق بكم " حينما يرسل خطابه إلى الجنود الأميركيين وراء الحدود، وبعد ان أثنى عليها الرئيس دعاها ان تقول "شكراً" لأي مواطن أميركي تراه بالزى العسكري على المهمة النبيلة التي يقوم بها الجنود وراء الحدود، اليوم نعود إلى بيرسون التي قريباً سيصبح عمرها من عمر ضحية المحمودية الطفلة العراقية عبير قاسم وسنعود اليها كثيراً، ونريدها ان تعيد طرح السؤال نفسه على الرئيس الأميركي: أي مهمة نبيلة ذهب من اجلها الجنود إلى العراق؟
المراجع
جريدة الغد
التصانيف
صحافة د.باسم الطويسي. جريدة الغد