تضع الحرب الإسرائيلية المفتوحة على لبنان وغزة والمنطقة بأكملها الخيار السياسي العربي أمام اختبار قوة حقيقي، إما ان تدير المنطقة تفاعلاتها الصراعية والسياسية من داخلها وفق تقدير دقيق لمصالحها الاستراتيجية، وإما ان تعود هذه التفاعلات إلى سابق عهدها تتلقفها إسرائيل مرة وتفرض من خلالها نمط مصالحها وإرادتها بالقوة والسياسة معاً، أو تخطفها أطراف خارجية وإقليمية وتدير من خلال مصالحها قرار المواجهة والتسوية، وتحدد زمن المعركة وظروفها من دون ان تملك القدرة على التحكم بحدود المعركة وابعادها.
العدوان الإسرائيلي على لبنان هذه المرة ليس مجرد نزهة صيفية للطيارين الإسرائيليين فوق جبال لبنان؛ انها حرب مفتوحة تستهدف الوطن اللبناني والدولة اللبنانية، وهي اكبر بعشرات المرات من حجم حزب الله وقدرته على إيقاع الألم بإسرائيل، وهي كما وصفت ليست العين بالعين، بل كأنها العين بالرأس. فالعدوان الإسرائيلي يكرر المنطق الاستراتيجي نفسه الذي استخدمه أيضا في عملية أمطار الصيف في قطاع غزة؛ استهداف البُنى التحتية والمراكز الحيوية وعزل البلاد عن محيطها؛ بمعنى تدمير الدولة اللبنانية هنا وتدمير العناصر، والأسس التي يمكن ان تبنى عليها الدولة الفلسطينية في المستقبل هناك، ما يمنح إسرائيل المدخل الذي تبحث عنه للمساهمة بإعادة ترتيب المنطقة الجاري على قدم وساق.
الأمر المتداعي، في هذا الوقت في ضوء الانكشاف الاستراتيجي الفلسطيني واللبناني والسوري أيضا، ابعد من المنطق الذي يذهب إلى ان المنطقة سئمت حالة السكون وهي بأمس الحاجة إلى تحريك وربما زلزال يعيد وضع قواعد جديدة للعبة، وهذا جائز إذا ما تغير الملعب واتسع حجم اللاعبين، وهو الأمر الذي لن يحدث في هذه الظروف، بل ان الموقف قد يقود إلى ان إمساك إسرائيل بزمام المبادرة الاستراتيجية بيدها بقوة أكثر، بعد صمت طويل على التحولات التي نالت المنطقة خلال السنوات الثلاث الماضية، وكانت خلالها تتلقى النتائج من دون ان تحرك ساكنا، آن لها الوقت لاختبار مجال الهيمنة الجديد الذي وفرته هذه التحولات، والأخطر من ذلك حجم الانكشاف السياسي الذي كشفته التطورات الفلسطينية واللبنانية الذي مازال يعجز عن توفير غطاء سياسي للمطالبة بوقف العدوان.
المعركة استراتيجيا طلقات وكلمات، وحينما تبدأ سيطرة صوت الرصاص تصبح القدرة على إسماع الكلام السياسي ثمينة وغالية، بمعنى ان المجال الإقليمي العربي معرض لانكشاف سياسي أقسى من حالات سابقة لأن ما نلمسه ببساطة فقدان القدرة على الحراك السياسي، بل والتعبير السياسي الذي يوظف الأحداث ويستثمرها لجانب ما يراه من مصالح حيوية. فإذا ما أضيف لمنهج التدمير الإسرائيلي الذي تتبناه العدوانية الإسرائيلية في فلسطين الوضع في لبنان فإن التدمير الشامل لمصادر الحياة يقصد ضرب الإرادة الشعبية العربية ما يكمل حالة الانفكاك الشعبي العربي العاطفي عن القضايا المصيرية؛ أي استكمال حالة الانكشاف السياسي الرسمي المتمثل في ضعف قوة التأثير في مسار الأحداث بصمت شعبي عربي مطبق.
السياسة تفعل الكثير في لحظات التأزم الاستراتيجي، وهي في المحصلة القادرة على جني المغانم، واللاعبون الكبار هم القادرون على تحويل نتائج التأزم لمصالح بلدانهم، وأحيانا بغض النظر عن مواقفهم السابقة. الأسئلة الكبيرة اليوم ليست في قرار المواجهة ولا مرجعياتها؛ فالجميع يعرف اصل المرجعيات والدوافع. المسألة ان عمليات عسكرية تدور على الأرض ودولة عربية تستباح وعاصمتها تنتهك، والعالم من حولنا يتبادل الكلام السياسي خلف الكواليس وأمام العدسات، ولا جدوى من صوت العقل ولا الخطوات المحسوبة والدقيقة إذا ما وظفت هذه الإزاحة الاستراتيجية في أعمال سياسية يمارسها العرب الذين لديهم مفاتيح الأبواب السياسية. فالحرب كما يقال اكبر من ان تترك للجنود وحدهم.
استمرار هذا الانكشاف لا يعني الانتظار طويلا؛ لمعرفة من يصبر على عض الاصباع أكثر من الآخر، بل ان احد أهداف إسرائيل الحقيقية هو ضرب المجتمع السياسي اللبناني من جديد كما فعلت ذلك مرات عديدة، وتحويل المواجهة إلى اقتتال داخلي؛ وليذهب الجمل بما حمل.
العدوانية الإسرائيلية الجديدة يجب ان تفهم في سياقها الدولي والإقليمي، وإمساك زمام المبادرة السياسية يعني على اقل تقدير ان تمسك دول الطوق العربي قضية الأسرى الفلسطينيين واللبنانيين على محمل الجد بأبعادها السياسية والإنسانية وفي ذهنها أدوار أطراف أخرى متحفزة، وان لا تبقى الحركات السياسية هي وحدها القادرة على حمل هذه الملفات، وذلك بخلق حشد دولي لهذه القضية وحراك سياسي ضاعط، ليس لتبييض ماء وجه هذه الدول، بل لأنها هذه هي السياسة.
المراجع
جريدة الغد
التصانيف
صحافة د.باسم الطويسي. جريدة الغد