دخلت الولايات المتحدة الأميركية الآن في مرحلة العدّ العكسي ليوم الانتخابات الرئاسية في الرابع من شهر نوفمبر القادم، وهو اليوم الذي سيختار فيه الأميركيون ليس فقط شخص رئيسهم الجديد بل أيضا ثلث أعضاء مجلس الشيوخ وكامل أعضاء مجلس النواب، إضافةً إلى مناصب محلية ومسؤوليات مختلفة في ولايات عدّة.
أيضاً، فإنّ يوم 4 نوفمبر ليس حدثاً هامّاً على المستوى الانتخابي الأميركي فقط بل هو أيضاً محطّة فاصلة في تاريخ السياسة الأميركية، حيث أنّ فوز أيٍّ من مرشّحي الحزبين الديمقراطي أو الجمهوري للبيت الأبيض سيحمل حالة جديدة في حاكمية الولايات المتحدة. ففوز أوباما/بايدن سيؤدّي إلى كسر تقليد عنصري في أميركا كان يمنع من وصول شخص أسود البشرة (أميركي من أصل أفريقي) إلى بيت الرئاسة الأميركية.
أمّا فوز ماكين/بالين فسيكون كسراً لتقليد اجتماعي أميركي منع حتى الآن وصول امرأة إلى سدّة الرئاسة أو نيابتها.
في الحالتين، هناك خروج عن المألوف وعن التقاليد لكن ليس خروجاً عن الدستور بل تطبيقاً حسناً له.
فالدستور الأميركي العريق أعطى حقّ الترشيح لكل مواطن أميركي بغضّ النظر عن دينه أو جنسه أو أصوله العرقية، تماماً كما هي دساتير أخرى في العالم نصوصها جميلة لكن نفوس المعنيّين بتطبيقها مرهونة ومحكومة بتقاليد وعادات تتناقض أحياناً كثيرة مع مضامين الدساتير وأهدافها.
(هي أيضاً حالة شبيهة بما يحصل مع أتباع الرسالات السماوية حيث الفارق كبير بين مضامين نصوص الرسالات وبين الممارسات التي تحصل باسمها!).
طبعاً، بالنسبة للمرشح باراك أوباما، فإنّ اختياره ليكون مرشّحاً باسم الحزب الديمقراطي كان حصيلة شهور طويلة من الانتخابات التمهيدية والمنافسة الشعبية بينه وبين مرشحين آخرين، كانت أبرزهم هيلاري كلينتون، ولم يكن مجرّد قرار من شخص أو من كبار النافذين بالحزب كما حصل في اختيار الحزب الجمهوري لسارة بالين لتكون المرشّحة لموقع نائب الرئيس.
إذن، فإنّ اختيار الملايين من الأميركيين (البيض والسود) لباراك أوباما، ليكون مرشّحهم لموقع الرئاسة في الانتخابات الحزبية التمهيدية التي حصلت، يعني بداية نموّ نمط جديد من مفهوم المواطنة الأميركية، وتجاوزاً لتراث وتاريخ عادات من العنصرية والتمييز الظالم بين أبناء الأمّة الواحدة.
لكن أمام هذا "النمط الوطني" الأميركي الجديد تحدّيات كثيرة تواجهه في طريقه إلى البيت الأبيض، أبرزها الشعور العنصري الدفين في المجتمع الأميركي وما عليه أوباما من أصول إثنية أفريقية، ودينية إسلامية (لجهة والده)، وبرنامج سياسي واجتماعي متناقض مع برنامج اليمين الديني الأميركي الذي يصل تأثيره إلى خمس الأميركيين تقريباً، إضافةً إلى الانقسام السياسي التقليدي بين "ديمقراطيين" و"جمهوريين" وما في كل معسكر من برامج صحّية واجتماعية واقتصادية مختلفة، وتأثيرات هامّة لشركات كبرى ومصالح ونفوذ "قوى الضغط" الفاعلة بالحياة السياسية الأميركية.
العامل الإيجابي المهم الفاعل الآن لصالح حملة المرشّح أوباما، يتمثّل في ثلاث فئات كانت مهمّشة في الانتخابات السابقة أو لم تكن مؤثّرة فيها؛ وهي فئة الجيل الجديد والطلبة الذين ينشطون بمعظمهم الآن في حملة أوباما، ثمّ فئة المهاجرين الجدد الذين يتجنبّون عادةً العمل السياسي والتصويت الانتخابي لكنّهم الآن وجدوا في أوباما نموذجاً لما يأملون به لأولادهم من مشاركة فعّالة في المجتمع الأميركي. فأوباما ابن لمهاجر جديد لأميركا مولود في كينيا.
أمّا الفئة الثالثة، فهي الأعداد الضخمة من الأميركيين عموماً، والأميركيين السود تحديداً، الذين كانوا يمتنعون عن ممارسة حقّهم الدستوري الانتخابي فلا يشاركون بالمعارك الانتخابية لفقدان ثقتهم بالمرشّحين وبالعملية الانتخابية عموماً نتيجة استمرار أحوالهم المعيشية الصعبة بغضّ النظر عمّن كان يفوز في كل جولة انتخابية. هؤلاء يأملون الآن أن يكون باراك أوباما ممثّلاً لهم في أعلى موقع للقرار الأميركي، ويجدون فيه حالة مشابهة للرئيس الراحل جون كنيدي الذي كان أيضاً ينتمي لأقليّة دينية كاثوليكية، ووصل إلى موقع الرئاسة وهو في الأربعينات من عمره، وعمل على إحداث تغيير اجتماعي وسياسي في الفترة القصيرة التي قضاها بالحكم قبل اغتياله عام 1963.
أيضاً، فإنّ ظروفاً موضوعية تساهم الآن في دعم حملة المرشّح أوباما نتيجة سوء سنوات الحكم الماضية من إدارة بوش الجمهورية. فالاقتصاد الأميركي يزداد تدهوراً وتراجعاً، والحرب في العراق أكّدت صحّة مواقف أوباما من حيث أنّها كانت حرباً خاطئة ولا علاقة لها بالحرب على الإرهاب، وبأنّ هذه الحرب ساهمت في سوء الأوضاع الاقتصادية وفي أضرار كثيرة بالسياسة الخارجية الأميركية.
وهناك تساؤلات مشروعة كثيرة يطرحها الآن المؤيّدون لحملة أوباما حول مرشّح الحزب الجمهوري جون ماكين وما حصل في مؤتمره الحزبي الأخير. فالحديث "الجمهوري" الآن عن "التغيير والإصلاح" لا يقترن بنقد لإدارة بوش الجمهورية ولا ما قامت به هذه الإدارة داخلياً وخارجياً، وكأنّ حملة المرشّح ماكين تتعامل مع فترة سابقة من حكم "الديمقراطيين" وليس "الجمهوريين" أنفسهم.
ثمّ بالنسبة للعراق، فإنّ السؤال ليس ما يحدث الآن في العراق ومدى نجاح الخطّة الأمنية بل لِمَ حصلت أصلاً الحرب هناك وماذا نتج عن هذا القرار الخاطئ الكبير من خسائر بشرية ومالية وسياسية، وأيضاً التضليل السياسي الذي رافق هذه الحرب لتبرير حدوثها.
أيضاً، كان أولى بمؤتمر "الحزب الجمهوري" أن يمارس تقييماً وتقويماً للانتخابات النصفية التي حدثت في خريف العام 2006 حيث فاز الديمقراطيون بأغلبية أعضاء مجلسي الشيوخ والنواب، وما حملته هذه الانتخابات من رسالة واضحة لإدارة بوش وللحزب الجمهوري الحاكم.
وقد أدرك الحزب الديمقراطي معنى الرسالة السياسية التي بعث بها الناخب الأميركي في العام 2006. فهي كانت رسالة موجّهة ضدَّ الحزب الجمهوري الحاكم لكنّها ليست رسالة مبايعة للديمقراطيين. فالكثير من استطلاعات الرأي العام التي جرت قبل تلك الانتخابات بفترة قليلة كانت تؤكّد على عدم ثقة معظم الأميركيين بأداء أعضاء الكونغرس من الحزبين معاً. أيضاً، فإنّ أصوات المستقلين غير المنتمين لأيٍّ من الحزبين الرئيسين كانت بنسبة كبيرة مرجّحة لكفّة الديمقراطيين، وعلى هؤلاء "المستقلين" يحصل الآن التنافس.
إنّ يوم 4 نوفمبر القادم، سيكون يوماً مهمّاً وحاسماً للأمّة الأميركية وللعالم كلّه. فسيرة إدارة بوش وما خلفها من شركات ومصالح وتيّار ديني متطرّف وعنصري، تجعل من الانتخابات القادمة يوم الاختيار بين الدستور الأميركي وبين عفونة بعض العادات والتقاليد. بين الانتخاب على أساس مفهوم المواطنة الصحيحة أو الانغلاق في تجمّعات انعزالية. بين أمل بمستقبل أفضل للأميركيين وللعالم وبين استمرارية لنهجٍ إدارة بوش التي حوّلت "الحلم الأميركي" إلى كابوس طويل!

المراجع

alraimedia.com

التصانيف

أدب  مجتمع