حملت تطورات الأسابيع القليلة الماضية إشارات مهمة على تواضعها عند آخرين، تشير إلى بداية انتباه بعض العرب وأخذهم علماً بأن عصري البخار والكهرباء قد فاتاهما، وأنهم ابعد ما يمكن عن الصراع الدائر بين الأمم على الدخول إلى العصر النووي، وإصرار أمم اخرى في احتكار هذا العصر لها.
الإشارة الأولى تبدو في الحملة الصحافية التي تقودها الصحف المصرية الرسمية (الصحف القومية)، والتي تدعو إلى استئناف مصر لمشروعها النووي الذي توقف منذ منتصف الثمانينيات، ووصلت قبل يومين إلى تبني مؤتمر الحزب الوطني لهذه الدعوة. والإشارة الثانية دعوة أمين عام مجلس التعاون الخليجي العربي دول المجلس إلى التفكير جدياً بامتلاك الطاقة النووية للأغراض السلمية. والإشارة الثالثة تمثلت في دعوة وزراء الخارجية العرب في اجتماعهم الأخير إلى التوسع في الاستخدامات النووية السلمية في المجالات كافة، وحددوا بعض الإجراءات التنفيذية، وطلبوا من الهيئة العربية للطاقة النووية تنفيذ استراتيجية عربية لامتلاك التقنيات النووية السلمية تمتد حتى عام 2020م.
تأتي هذه الإشارات التي لا تعدو أكثر من "طَرَفِ أُذُنِ الجمل" على شكل استحقاق متأخر في بيئة دولية وإقليمية متهيئة وملائمة تماماً لاستقبال أنباء عن انقلابات في الفكر والممارسة الاستراتيجية في هذا المكان أو غيره. فلحظات الاحتدام التاريخي وأجواء التوتر وازدياد حدة الصراع أكثر اللحظات ملاءمة لتطوير خيارات استراتيجية فارقة وتصعيدها وليس لحظات الهدوء والاسترخاء .
يعود طرح الملف النووي العربي بقوة هذه المرة ولو على المستوى الإعلامي، وفي الأفق ثلاثة احتمالات إقليمية يبدو تحققها مسألة وقت لا أكثر، أولها امتلاك إيران للسلاح النووي، وهو بحد ذاته ليس تحدياً استراتيجياً مباشراً للدول العربية، فإيران التي كان يطلق عليها قبل عقود قليلة (جندرما الخليج) أي شرطي الخليج في عهد الشاه، قابلة اليوم للحوار وتبادل المصالح، رغم تناقض بعض المصالح وتطاولها أحيانا اخرى؛ المشكلة ان امتلاك إيران للقدرات النووية أخذ ينعكس في الاحتمالين الآخرين؛ اولهما زيادة طموحات تركيا النووية التي تطور برامجها العلمية والبحثية بشكل حثيث وقريباً سوف نسمع عن مفاجآت مدعومة من الغرب، أما الاحتمال الآخر الأخطر؛ يبدو في ان قبول الغرب بالتعايش مع إيران نووية، سيعني من جهة اخرى الاعتراف بإسرائيل قوة نووية ضاربة في المنطقة بشكل رسمي يزيح خمسة عقود من الغموض والتكهنات عن قدراتها وبرامجها النووية، أي دخول إسرائيل في النادي النووي العالمي، حيث سيفرض التحالف الغربي إسرائيل عضواً شرعياً في النادي النووي ويكرس احتكارها للسلاح النووي تحت دعاوى إدخال الهند وباكستان وإسرائيل ضمن القوى النووية الشرعية المسموح لها بامتلاك السلاح النووي، مقابل ان تنضم الدول الثلاث إلى معاهدة حظر انتشار الأسلحة النووية.
في المحصلة ستجد الدول العربية نفسها، خلال خمس سنوات قادمة على أكثر تقدير، أمام قوة نووية إسرائيلية شرعية ومعترف بها، وحولها غابة من القوى النووية الصاعدة تحت ذرائع البرامج السلمية، أو تلك التي قبل العالم التعايش معها من دون ان يقر لها ذلك.
الخيار النووي العربي وخارج سياق مقولات نظرية القومي العربي التقليدية، اخذ يتحول إلى خيار حياة أو موت استراتيجي لا تفرضه حقائق القومية والدين والخجل من التاريخ، بل حقائق العيش المشترك فوق ارض تلتهمها الحرائق من كل الجهات، وهو خيار لحماية السلام والأمن في المنطقة. فالأطراف المؤمنة بالسلام والتسوية السياسية للصراع مع إسرائيل من الأجدر ان تكون الأكثر إدراكا لأهمية امتلاك الخيار النووي لأنه القادر على حماية السلام والأمن في المنطقة وتدشين التنمية الوطنية.
في هذه المرحلة يجب ان يذهب الخيار النووي العربي صوب الأهداف السلمية، إي ان يكون بالدرجة الأولى خيارا تنمويا يجيب على أهم تحديات المستقبل العربي التي يصل بعضها إلى أهم مصادر تهديد الأمن الوطني خلال ربع قرن قادم، ومن بينها ضائقة تحلية المياه لدول البترول العربية التي هي بأمس الحاجة اليوم لتوظيف مواردها الهائلة المتحققة من فوائض أسعار النفط لتأمين سلعة استراتيجية اخرى، وهي مياه الشرب، ولا يوجد أمامها خيار يحترم مستقبل أجيالها سوى بناء محطات بالطاقة النووية.
والخيار النووي، أيضاَ، خيار تنموي للدول العربية المحرومة من النفط أو ذات الإمكانيات المتواضعة، بهدف توفير مورد جديد بديل للطاقة التقليدية وتحديداً في إنتاج الكهرباء. وهذا كله يعني ان امتلاك العرب القدرة على إنتاج دورة الوقود اللازمة لتشغيل المحطات النووية للأغراض السلمية يعني بداية الدخول في عهد جديد من العلاقات الدولية بدأ العالم بدخوله بالفعل منذ زمن، وهو عصر يتزايد فيه الاعتماد على الطاقة النووية لاستقرار التنمية أولا وللردع ثانيا، ومن خلاله تقاس مكانة الدول وهيبتها ووزنها في التفاعلات الدولية.
هنالك أربع تجارب عربية لبناء قدرات نووية، أهمها البرنامج النووي المصري الذي توقف عام 1984، اثر كارثة انفجار تشيرنوبل، وما تزال مصر مترددة لأسباب اقتصادية وسياسية عن استئناف هذا المشروع، والمشروع النووي العراقي المعروف الذي دمرته إسرائيل عام 1981، والمشروع الليبي المحدود الذي سلمته القيادة الليبية عن طيب خاطر للغرب وقاموا بتفكيكه، وهنالك (18) مشروعاً عربياً لبناء محطات نووية أولية تحت مظلة الوكالة الدولية للطاقة الذرية، وبعضها لا يتعدى أغراض البحث العلمي الجامعي، مع العلم ان إنتاج دورة الوقود النووي يدخل ضمن حقوق الدول الأعضاء في اتفاقية منع الانتشار النووي ما دامت تلتزم بالشفافية.
البيئة الدولية الراهنة قابلة لتطوير خيارات استراتيجية جديدة، والقراءة الحكيمة للوقائع تقود إلى هذه النتيجة، تداعيات الملف النووي الإيراني ليست إلا ورقة قوة في مسعى فتح الملف النووي العربي باعتبار الأخير خيارا تنمويا استراتيجيا يطرح في سياق إصلاح مشاريع التنمية العربية.

المراجع

جريدة الغد

التصانيف

صحافة  د.باسم الطويسي.   جريدة الغد