أمس قادتني قدماي الى شارع الثقافة في الساعة الثانية عشرة ظهراً، وهالني ما رأيت من شباب وصبايا على تنوع أعمارهم وهم يتمشون في تلك الاستطالة التي تتوسط شارع الثقافة وكل واحد يضع جهازه النقال على أذنه، كأن الأردن بمجمله يمر في هذه اللحظة في انضباط هاتفي عام، يتطلب مثل هذا الاصرار على تحقيق هذا المشهد الهاتفي
|
ونحن اذا خرجنا من شارع الثقافة وحاولنا متابعة المشهد فسوف نرى أن الرجل الخمسيني يضع على جهازه النقال مجموعة «رنات» متنوعة، فقد خصص نغمات مغناجة، للحبيبة الصبيّة التي ترطب جفاف العمر، وخصص نشيداً دينياً لـ «رنة «أم العيال، وخصص ابتهالات دينية وقرآنية لباقي الأحبة والأصدقاء. والرجل المطلوب دائماً بالحاح غريب يبدو وهو يتمشى في الدائرة الوظيفية التي يعمل فيها، يبدو فخوراً وهو يستقبل كل هذا التنوع العجيب من «الرنات».
ومن يتاح له المسير راجلاً في شوارع عمّان لا بد وأن يدهش من هذا الاقبال الفاحش والمثير على استعمال الأجهزة النقالة، فهناك الصبية الممشوقة التي تقطع الدوار مغامرة بعمرها الشبابي الغض وهو تلصق الجهاز بأذنها متجاوزة كل الأصوات التي تطلقها أبواق السيارات حولها على اعتبار أن الدوار الذي تعبره هو امتداد لباحة بيت أبوها. وهناك الفتاة التي تبدو بأرجلها الدجاجية داخل بنطال الكابوي ترتعش حزناً أو فرحاً وهي تكلم فتاها على ناصية الشارع. بعيداً عن أعين العائلة الذكورية التي تتربص بخطواتها الأنثوية.
أما عن الشباب الذين يضعون السماعات في آذانهم لسماع الموسيقى المنبعثة من اجهزتهم الجوالة فحدث ولا حرج، لا بل أن البعض منهم بدأ بنحله واستطالة جسده النحيل جداً اضافة الى بنطال الكابوي الساحل، وشعره الذي تعمد في اظهاره بشكل فوضوي، بدأ وكأنه يُشبه جهازه النقال تماماً.
والبعض من جيلنا الخيلوي هذا وحينما يرن هاتفه النقال يقفز كمن لدغته أفعى، ويبدأ بالسير السريع، ولا يتحدث في مكالمته الا واقفاً أو ماشياً، ربما ليوحي لمن حوله بأن المكالمات التي يتلقاها هي مكالمات مهمّة دائماً ولا يجوز استقبالها وهو في حالة جلوس.
والبعض الآخر يصر على ان يظل هاتفه شغالاً في سرداق الجنازات وفي القاعات والمحاضرات التي يطلب فيها من الحضور ضرورة اغلاق الهاتف النقال، والبعض حينما يصعد الى أي حافلة يشرك الجالسين في الحافلة بمكالماته وبطبيعة تنوعه النفسي المتناقض.
اللعنة ... لقد صرنا مخلوقات مكهربة بحمى الاتصال.
المراجع
جريدة الدستور
التصانيف
صحافة خليل قنديل جريدة الدستور
|