استدعى تواتر الأحداث المحتدمة في العالم العربي وحوله منذ مطلع القرن الجديد بكل هذه السرعة وهذا التراكم فرز مضامين جديدة لمفاهيم العدو والخصم والآخر، وربما حمل ذلك إعادة ترتيب للجهات التي تشير اليها، وجاء بمزيج جديد لمصادر التهديد ومستوياتها، وذلك بالمقارنة مع المضامين التي تشكلت على مدى عقود وفق تراكم نظريات الأمن الوطني والأمن القومي والأمن الإقليمي، حيث تبدلت الدلالات الاستراتيجية واختلطت مؤشراتها على الخرائط والأرض، والأجدر القول انها في مخاض اقرب إلى الفوضى ليس في اتجاهات الرأي العام أو حتى في وعي النخب، بل في إدراك المؤسسات وصناع الاستراتيجيات؛ فضاع من هو العدو؟ ومن هو الخصم؟ ومن هو الآخر؟
كانت مستويات التفاعلات الصراعية بين العالم العربي ومحيطه الإقليمي تتبدل في السابق حسب تبدلات القضية الفلسطينية وأحوالها، ومع ان مكانة إسرائيل العدائية أخذت في التراجع مع بدء مسارات التسوية السلمية إلا ان إدراك مصادر التهديد لم يتغير عملياً على المستويات كافة لان الصراعات التاريخية الكبرى تحتاج لمخاض تاريخي وثقافي طويل، حتى وان انسحبت إسرائيل غداً إلى حدود الرابع من حزيران 1967.
في المقابل نجد انه يجتمع في الولايات المتحدة الآخر الثقافي والحضاري والخصم والعدو الكامن لدى الكثيرين، ولكن عدواً لا بد من التعامل معه من قبل المجتمعات والتحالف معه من قبل بعض الأنظمة والتقرب منه وطلب وده من قبل الأنظمة الأخرى التي تجيد شتمه، هذا يفسر الفجوة بين التفاعلات الرسمية، التي وصلت إلى حد التحالف، مقابل التفاعلات الشعبية التي اعتادت على استدعاء دلالات العداء وإصباغها على سلوك الولايات المتحدة، وهذا ليس جزءاً من التصور العالمي الذي يصف الولايات المتحدة بأنها أسوأ دولة في العالم في الوقت الذي يتمنى الجميع العيش فيها، حيث زادت تفضيلات العداء حول الولايات المتحدة وانتقلت من الهيمنة التقليدية أي السيطرة من دون استخدام القوة المباشرة إلى الاستخدام المفرط للقوة. بمعنى اننا أمام مفارقة جديدة تتلخص في إعادة تصنيف الآخر الغربي والتمييز في المكانة العدائية والموقف الحضاري بين الولايات المتحدة واوروبا، فلم يعد الآخر الغربي يأخذ صيغة واحدة.
لو ذهبنا إلى دول الجوار لنطرح أسئلة اخرى ومنها؟ هل تشكل إيران عدواً أم خصماً أم مجرد الآخر الإقليمي، وهو الأمر الذي قد ينطبق بدرجات متفاوتة على تركيا وإثيوبيا؟ لقد كانت الدول العربية والنخب السياسية تنظر إلى دول الجوار (إيران، تركيا، إثيوبيا) على انها يمكن ان تمثل عدواً محتملاً أو حليفاً ممكناً، نظراً لتاريخ طويل من الحساسيات والتنافس الإقليمي والجيواستراتيجي، من مضيق هرمز لباب المندب، والصراع حول الخليج إلى منابع الأنهار في الشرق إلى تهديد أعالي النيل، علاوة على ان حاضر هذه الدول الثلاث يذكر دوماً انها قامت على ارث حضارات منافسة أو معادية.
بالاقتراب أكثر هل إيران، اليوم، في ضوء الحرب العربية– الإيرانية الباردة تشكل عدواً أم خصماً أم الآخر المذهبي؟ المسألة تشير إلى نوع من السيولة أو عدم الوضوح الاستراتيجي. فإيران تصل إلى مستوى الخصم والعمل العدائي بسلوكها في العراق، لكن ثمة فرقا بين العدو والعمل العدائي، وهذا يختلف حينما يتعلق الأمر بسلوكها نحو القضية الفلسطينية. المفارقة الجديدة ان الأعمال العدائية الإيرانية أخذت الحراك الصراعي إلى مستوى الخصومة الاستراتيجية مع كتلة واسعة من العالم العربي ما يجعل هذه العلاقة مرشحة لكل الاحتمالات، وهو الأمر الذي لم تصل اليه الأحداث حتى أثناء سنوات الحرب العراقية الإيرانية، ونتذكر ان وسائل إعلام العراق آنذاك كانت تتحاشى مفهوم العدو الإيراني وتستبدلة بالعدو الفارسي.
مستوى آخر من السيولة الاستراتيجية يبدو في التصور الذي يمكن ان نصف به مواقف بعض الدول العربية من المحاكم الإسلامية في الصومال مقابل الحكومة المؤقتة حليفة إثيوبيا والساحة الخلفية لإسرائيل؛ فالخصومة السياسية مع المحاكم لا ترتقي لمستوى العداء المحتمل في إثيوبيا أو العداء الكامن في إسرائيل. الغريب ان الخرائط تتبدل أسرع من تبدل المفاهيم.
المراجع
جريدة الغد
التصانيف
صحافة د.باسم الطويسي. جريدة الغد