مازلت أذكر الهاتف الذي أحضره والدي الى بيتنا في مطلع ستينيات القرن الفائت، وما زلت أذكر الرف الخشبي الذي ثبت على الجدار كي يوضع فوقه الهاتف، مصحوباً برف صغير لبطاريتين سوداوين. وما زلت أذكر ملمسه العظمي الأسود، وهيبة سماعته التي ترتكز على نابضين. وما زلت أذكر رنته الأولى التي أشاعت فرحة صبيانية عند كل أفراد عائلتي بغض النظر عن تنوع الأعمار.
كان هذا في مطلع ستينيات القرن الفائت، وكان رقم هاتفنا في اربد هو «419»، وكان على المتصل بنّا أن يرفع سماعة الهاتف ويطلب من شخص اسمه «الترانك» رقم الهاتف المراد الاتصال به. ولم يكن يخطر ببال أحد ان هذا «الترانك» سوف يعمل على التنصت على المكالمات.
وما زلت أذكر كيف استبق والدي الامور وأحضر لنا راديو بحجم تلفزيون كبير جداً، وكيف استحضر الفني الذي ثبت «الأنتين» على سطح البيت، وكيف اختار والدي مكاناً صارماً في البيت ليحتله الراديو، بخشبه البني اللامع وبقماشته ذات اللون السكري المُشع، ومفاتيح بثه التي كانت ايدينا الصغيرة تقبض عليها بارتعاشة خفيفية، وما زلت أذكر القماشة البيضاء التي كانت والدتي تجلل بها هذا الجهاز بعد ان أحضرت قماشة بيضاء ثم قامت بتطريز بعض الاشكال الفنية ذات الخيوط المبهجة.
وما زلت أذكر كيف كنّا في اربد نذهب الى السوق مساء الى حيث محل الادوات الكهربائية الذي يقابل مبنى البريد الحالي، كي نشاهد التلفزيون بالابيض والاسود من خلف واجهة المحل الزجاجية ونهتز فرحة ودهشة ونحن نرى بعض البرامج والاغنيات للفنان الراحل فهد بلان وأم كلثوم.
وما زلت أذكر كيف احضرنا التلفزيون الى بيتنا، وكيف استنفرنا جميعا لخدمة الفني الذي وضع «الانتين» فوق سطح بيتنا، وغرقنا جميعاً في بهجة حضور الصورة التلفزيونية في بيتنا.
ولاحقاً ما زلت أتذكر كيف دخلت مبنى وزارة المالية في «أبو ظبي»، في مطلع ثمانينيات القرن الفائت، حيث قادني أحد الأصدقاء الى غرف الكمبيوتر ، حيث كانت ترقد فيه أجهزة وماتورات خرافية تعمل على برمجة البيانات والرواتب.
وما زلت أذكر فرحة استعمال الفاكس قبل ثلاثين عاماً، وكذلك فرحة استعمال « التلكس» في الاتصال والتواصل.
أتذكر كل هذه المفاصل الحياتية في استعمال التكنولوجيا السمعية والبصرية، وأقارنها جميعاً بما وصلنا اليه من قفزات هذه التكنولوجيا. وأترك روحي تحدق بالمقبل والقادم من التكنولولجيا وأتساءل برعب عن الحالة التي سوف تقودنا اليها ثقافة الصورة.
المراجع
جريدة الدستور
التصانيف
صحافة خليل قنديل جريدة الدستور