انتهى يوم الإضراب اللبناني الموعود على ما انتهى عليه بقرار خارجي، ورغم أن الأزمة المحتدمة منذ شهور لم تنته بعد، ورغم ان نذر الشؤم حول احتمالات عودة الاقتتال الداخلي لا تزال قائمة، فإن ما جاءت به رياح بحر بيروت القادمة من أعماق المتوسط، والأخرى المحملة برمال السهوب الآسيوية، والتي تتحدث اليوم عن صفقة إيرانية سعودية لم تأت بالجديد حول هوية الأزمات اللبنانية المتكررة وأصحاب الكلمة الأخيرة فيها.
بل الجديد في هذه التطورات يؤكد ان لبنان ليس التفاحة الكبيرة في صراعات المنطقة، بل مجرد ساحة خلفية تدفع الثمن في كل مرة، ساحة رخوة لاختبار حرارة موازين القوى، فالكل يجرب فيها، وحينما تقترب الواقعة تصبح هذه الساحة ميدانا لتحسين الشروط لصراعات وملفات أخرى.
الدرس الذي يجب على اللبنانيين قراءته جيدا؛ ان هذه اللحظات التاريخية الحاسمة بكل ما تحمله من آلام مخاض لا يُعرف مصيره يواجهها لبنان بفراغ حاد في الوطنية اللبنانية رغم ادعاء الجميع الانتساب إليها مقابل نمو شرس لوطنيات وقوميات في محيطهم حولت هذا الوطن الصغير والهش الى مجال حيوي لصراعاتها ومصالحها، والأمر الأكثر مرارة ان أزمات لبنان وحروبه الأخيرة أثبتت انه ليس مجالا حيويا ناضجا يمكن ان يفقس به بيض الكبار، بل مجرد ساحة يمكن تدميرها والأموال "الحلال والحرام" جاهزة لإعادة بناء هذه الساحة لكي تدمر من جديد، مرة تلو الأخرى.
خطابات الحكومة والمعارضة تتهاوى مع استمرار الأزمة، وتفضح تطورات الأحداث ما يشوبها من تزييف ورهانات خارج حدود الوطن؛ وفي الوقت الذي كشفت الأحداث الأخيرة انحسار سلطة الحكومة وتحول البلاد الى جزر متلاصقة مغلقة على بعضها البعض، فإن وضع قوى المعارضة أسوأ من ذلك، وباتت التعبئة السياسية التي حقنت بها الشارع اللبناني تميل بوضوح نحو المزيد من الاحتقان الطائفي وهي المهيأة أكثر من غيرها للنزق والعنف، والأكثر من ذلك ان أحداث يوم الإضراب - الثلاثاء الماضي- أخذت تطل برؤوس جديدة على سطح الأزمة؛ انقسام محتمل داخل تحالف المعارضة، استقطاب جديد ومفاجئ داخل القوى المسيحية، وردود فعل خارج إيقاع الأزمة حينما تحسم بعض فصولها؛ بكل وضوح في سياق صفقة بين أطراف خارجية، حينها سيكتشف حتى الشارع والساحات التي تم الرهان عليها أنها مجرد أرقام سهلة قابلة للقسمة والنسيان أيضا. 
تحرير السيادة الوطنية والإصلاح وبناء الدولة المعاصرة جميعها أهداف عظيمة ونبيلة تحتاج إلى بناء قدرات ذاتية، والى نضال وتضحيات، ولكن على ان تعرف النخب الإصلاحية الوطنية من سيدفع ثمن هذه التضحيات ولمن سيذهب هذا الثمن؟ ما يعني ملاحظة كيف تتصرف النخب فوق الأوطان حينما تصبح النخبة والطائفة فوق الدولة، في حين يحق لأية نخبة حاكمة في الشرق الأوسط القديم أو الجديد ان تعقد الصفقات السياسية والاستراتيجية، وان تحقق مصالح بلادها وتكفل مستقبل شعوبها كيفما تشاء، ويحق لها ان تمارس براغماتية سياسية ما دامت تخدم مصالحها على المدى البعيد وحتى ان بحت حناجر قادتها بالشتائم والوعيد والتهديد للولايات المتحدة ومن لف لفها.
المشكلة في ان أنظمة ونخبا سياسية ستكتشف عما قريب أنها تركت تلعب وحيدة، وان ظاهرة الاستقطاب الإقليمي آنية وتقترب نهايتها ومرتبطة بمصالح محددة، وهذا يفسر سذاجة الخطاب الذي يزعم ان الشارع في لبنان والقوى التي تحرسه هما السد المانع أمام مشروع الشرق الأوسط الجديد وان رئيس الحكومة اللبنانية هو الوحيد القادر على تدشين وافتتاح هذا المتوسط الجديد!
بيروت هذه المرة تفاحة صغيرة قابلة للقسمة والمساومة، وليست التفاحة الكبيرة الموعودة، والقلب مدمى ولا يضحك، ومن يريد أن يُرقص الساحات غادر زمن الثورة ولم تبق أمامه الا رقصة الموت والخراب؛ حينها يذهب جميع الفرقاء للجحيم ولن يجدوا من بعصمهم لا الشارع ولا السرايا أو الساحات.

المراجع

جريدة الغد

التصانيف

صحافة  د.باسم الطويسي.   جريدة الغد