هنالك تقليد في الثقافة اللاتينية القديمة، يذهب إلى تسمية الشيء بنقيضه، لكي يحمل دلالة بلاغية دامغة، كقولهم للغامض واضح وللأبيض أسود وهكذا! وأحد الأمثلة التاريخية على هذه الثقافة تسمية الإمبراطورية الرومانية المقدسة التي لم تكن إمبراطورية ولا مقدسة ولا رومانية في تفاصيلها كلها.
وكذا الأمر في نظام القطبية الأحادية، أي الوصف الذي يطلق على النظام الدولي السائد اليوم، وبالقياس على المسطرة ذاتها في النظم الإقليمية وخطاب إدارة الأزمات والصراعات في الشرق الأوسط المعاصر، حيث تتماهى المسميات ودلالاتها في شبكة تعقيد وتناقض تطبيقات نظريات الألعاب السياسية المعاصرة وغموضها التي تدير المشهد السياسي الراهن وتوظف التراث العلمي لنظريات الألعاب السياسية بكل كفاءة في أزمات الشرق الأوسط، على الرغم من شدة غلواء الخطابات ونزقها المتبادل الذي يجعلنا في لحظة وكأننا أمام لعبة قمار كبرى تتشابك فيها الأدوار وتتداخل فيها الساحات وتتبادل فيها البنادق وتستعار الحناجر وأوراق اللعب أيضا.
في نظريات الألعاب السياسية التقليدية يتم رصد سلوك اللاعبين بكل ما يحمله هذا السلوك من أفعال ودلالات رمزية ضمن محاولة توقع الخطوات القادمة، وقد يشير هذا الرصد الى مدى وجود صيغ من التفاهمات الداخلية الصامتة بين أطراف اللعبة. فاللعبة السياسية عملية تقنية في الأصل؛ حتى تستمر بحاجة الى حدود دنيا من التفاهم على قواعد محددة للعب بينما تتعدد مستويات وضوح هذه القواعد أو غموضها، فقد يصل مستوى التفاهم الصامت الى درجة تعود بنا الى قصة التقليد الثقافي اللاتيني السابق الذي يسمي الأشياء بنقائضها.
هناك ألعاب سياسية ساكنة حيث على اللاعبين أن يقوموا بتحديد وإعلان استراتيجياتهم وخياراتهم مرة واحدة وفي نفس الوقت، وهي سمة الألعاب السياسية المنجزة التي تغلفها الأهداف الإيديولوجية، وألعاب سياسية ديناميكية غير مكتملة للاعبين أن يتخذوا قراراتهم الواحد بعد الآخر بمعنى وجود استراتيجيات غير مكتملة وبدائل يحدد اختيارها على أساس خيارات الطرف الآخر، واللعبة هنا ليست لعبة شطرنج تجعل من يقدم على الخطوة الأولى الأكثر فرصة بالفوز باللعبة بأكملها، أما اللعبة السياسية المنقوصة فتشير الى نقص المعلومات وغموض قواعد اللعبة ما يجعل سلوك أطرافها يتسم بعدم اليقين، أي أن طرفا من أطرافها ليس له علم كامل بنوايا منافسيه وربما بعض حلفائه.
انتقل المشهد السياسي الشرق أوسطي منذ احتلال العراق من صيغة قواعد اللعبة الواضحة على مختلف الجبهات وفق نسيج الأزمات المتكررة والمتشابهة، الى صيغة قواعد اللعبة الغامضة التي تتسم بغموض الأهداف ونقص المعلومات وعدم اليقين بالنوايا بين الحلفاء أكثر مما قد يبدو بين أطراف اللعبة المتناقضين، كما انتقلت الألعاب الساكنة الى حالة من الديناميكية غير المعتادة، بينما أصبحت الهوة تزداد بين التفاهمات الصامتة والقواعد المعلنة للعب.
كيف نلاحظ هذه الاستنتاجات على أرض الواقع، أي في ساحات اللعب في هذا الوقت، نجد أن التصعيد الأخير في قضية الملف النووي الإيراني وقرع طبول الحرب يرتبطان بتسريبات حول صفقة محتملة وبالتزامن مع اتفاق مكة بين الفلسطينيين، الذي تبعته زيارة الرئيس السوري بشار الأسد الى طهران وزيارة وزيرة الخارجية الأميركية الى بغداد مروراً ببعض العواصم العربية وإسرائيل وكلها سلوكيات سياسية تحمل دلالات متناقضة في طريقة اللعب، بمعنى اننا أمام حالة سيولة سياسية عالية لا تعني أكثر من الدوران حول الذات، وهذه الصيغة قد لا تتفق مع المنطق التقليدي القائل بالرغبة في شراء الوقت من قبل بعض الأطراف بغية الرهان على استحقاقات قادمة.
عدم اليقين باللعبة السياسية يعني اطالة عمر الأزمات السياسية والرغبة من قبل أطرافها بالمزيد من الوقت قبل حسم خياراتهم، ولكن ربما تكون هذه العملية تقنية متفقا عليها لتحقيق المزيد من المصالح، وهذا الأمر هو الأرجح، ويدل عليه تحليل سلوك الفاعلين في مربع الأزمات والاحتلالات الراهنة من غزة الى بيروت، وصولاً الى بغداد وطهران، فلقد استطاعت إيران كما يبدو نسج تفاهمات صامتة مع الولايات المتحدة لإطالة أمد اللعبة بالقدر الذي يحقق لكل من الولايات المتحدة وإيران معاً تحقيق مصالح غير منظورة للوهلة الأولى، بمعنى اننا أمام حالة تبادل مصالح قلقة ومغلفة بدعاية متوترة، ومصدر القلق في هذه الحالة يتمثل في عدم يقين طرفي اللعبة بحقيقة نوايا الطرف الآخر، والى أي مدى يستمر تماسك هذا التبادل الصامت، لهذا نجد أن كلا من الطرفين يسعى لإبقاء الآخر في حالة من القلق والتوتر والتحفز المستمر، بينما تستخدم هذه التقنية في نفس الوقت لتحقيق أفضل استثمار للبيئة الإقليمية التي تجري على ساحاتها اللعب المكشوف أي الدول العربية والتي يتعامل معها الطرفان على أساس انها حجارة خفيفة الوزن يمكن زحزحتها من مكان الى آخر، أو ازاحتها من الملعب بأكمله.
التفاهمات الصامتة تقودنا الى تكنيك آخر في الألعاب الراهنة تكشفه طبيعة اللعب على الساحة العراقية بين الالتقاء السوري الإيراني المفترض والتحالف المشترك مع حليف الغريم والمقصود بالأولى الحكومة العراقية بكل تعبيراتها الطائفية والمذهبية والثانية دولة الاحتلال الأميركي، حيث لا يمكن فهم التناقضات الغامضة من دون فهم التفاهمات الصامتة، وحقيقة دور الحجارة الخفيفة الوزن أي ما يسمى دول الاعتدال وهذه التسمية يصلح قياسها على مسطرة القاموس اللاتيني أيضا.
خلاصة هذه المقدمة توضح احد الأوهام التي تروج اليوم والتي تردد هنا وهناك مقولة أن الولايات المتحدة في مأزق في العراق وأن مشروعها الاستعماري الإمبراطوري يتحطم في هذا الجزء من العالم، للأسف فالفهم الاعمق للعبة يذهب نحو نتيجة مناقضة حينما تكشف الأحداث أن اصطناع المأزق هو جزء من الاستراتيجية، وان تشتيت اللعبة على جبهات متعددة من الملف النووي الإيراني الى الساحتين اللبنانية والفلسطينية يعني تكريس الهيمنة وتثبيت قلاع المحتلين.
المراجع
جريدة الغد
التصانيف
صحافة د.باسم الطويسي. جريدة الغد