أتت قمة الرياض بعد مرور حوالي 60 عاماَ على قمة انشاص عام 1946، تلك القمة التي شكلت أول تنبيه عربي رسمي للخطر الصهيوني، ودشنت بداية الذاكرة العربية الرسمية في التفاعل الصراعي مع المشروع الصهيوني قبل نشأة الكيان الإسرائيلي، فإذا كان تاريخ القمم العربية في معظم تفاصيله حرجاً، فإن القمة الراهنة التي تواجه ثلاثة احتلالات جاثمة في فلسطين والعراق والصومال وأزمات تنذر بحروب أهلية في أقاليم عربية متعددة، تضع النظام العربي الرسمي أمام لحظة فارقة تلتقي عند عقدة صعبة يمثلها الصراع على مستقبل التسوية وما يحمله من فائض  القلق السياسي، وهذه واحدة من أعقد لحظات الصراع، على الرغم مما قد يبدو من أفق سياسي للحل.
الأفق السياسي المنتظر، كما قد يكون الممر الآمن لتسوية تاريخية، قد يكون أيضاً برزخاً يؤدي إلى نفق مظلم لا نهاية له، فكما هناك نوع من التفاؤل باحتمالات قبول إسرائيلي حذر ومشروط بالمبادرة العربية يعده البعض تطوراً مهما في مسار التسوية ولحظة مهمة يجب على العرب المراكمة عليها واستثمار الانفتاح الأميركي على القضية الفلسطينية بعد سنوات من تراجعها، فثمة وجهة نظر لا تقل وجاهة عن السابقة- تحتكم لخلاصة الخبرة التاريخية في إدارة الصراع وما أفضت إليه من خبرات مهمة في فهم لعبة التعطيل والمماطلة- ترى أن الانتباه الأميركي الأخير للقضية الفلسطينية لا يفسر بشيء أكثر من الأزمة الأميركية في العراق من ناحية، واستمرار تعثر الولايات المتحدة في حسم الصراع على الملف النووي الإيراني. فالاقتراب الأميركي من مسك اليد العربية الموجوعة لا يعني الاقتراب من الأمل بتسوية سياسية قريبة، فهناك مكاسب إستراتيجية أميركية حيوية في المنطقة تفسر هذا الانفتاح إذا ما اضطرت واشنطن لإجراء استراتيجي إزاء إيران في ضوء ما تم تسريبه مؤخراً عن احتمالات ضربة عسكرية أميركية حسب مصادر عسكرية روسية أو صفقة كبرى حسب مصادر متعددة أخرى.
المهم، البحث عن حجم الحقيقة في هذه اللحظة المتمثلة في مدى الاقتراب من حافة الحسم النهائي لمصير التسوية، كنت قبل ستة أعوام قد طرحت هذا السؤال حول ملامح لحظة الحقيقة في الاقتراب من حسم التسوية السياسية على حوالي 20 خبيراً أو باحثاً استراتيجياً عربياً، وكان ذلك في ضوء ما آلت إليه نتائج التفاعلات السياسية في نهاية إدارة الرئيس الأميركي السابق بيل كلينتون من نتائج مخيبة بعد أن قيل ما قيل عن الاقتراب لتلك اللحظة على المسارين الفلسطيني والسوري، فماذا تغير منذ ذلك الوقت؟
في منزله بمصر الجديدة فرق أمين الهويدي، الخبير الإستراتيجي ووزير الحربية المصرية ومدير الإستخبارات المصرية سابقاً، بين التسوية السياسية والسلام الدائم، فالتسوية السياسية تعمل لصالح جيل التسوية في حين لا يركز السلام على جيل بعينه، فالتسوية يحتمل أن تكون مؤقتة، بينما السلام يرتبط بالديمومة، والتسوية أيضاَ تعتمد على توازن القوى بينما السلام يعتمد على (توازن المصالح)، والأمران لا يمتلكهما العرب.
ويمضي هويدي بأن الوصول إلى تسوية دائمة مع إسرائيل واستقرار عام لن يتم باتفاقيات ناقصة إلا في ظل الوصول إلى "الردع المؤكد المتبادل" عن طريق إدراك كل طرف قدرة الآخر أي التدمير المؤكد المتبادل، وما دام هذا الوضع قائما فالمصلحة الإسرائيلية أن تبقى حالة غموض الرؤية حول مستقبل الصراع هي المهيمنة، والتي تفسر بالرغبة بالاستمرار في التوسع والاحتلال والحاجة الملحة للأمن.
ما لفت الانتباه هو رأي الدكتور سعد الدين ابراهيم قبل ست سنوات بأن العرب سيجدون أنفسهم فجأة أمام المتشددين الإسرائيليين في الوقت الذي يتراجع فيه الإصلاحيون الذين أسسوا إسرائيل حينها لن يكون هناك عمليا شركاء في السلام، بينما كان المؤرخ الفلسطيني الراحل أحمد صدقي الدجاني يرفض قبول فكرة انتظار تغييرات عميقة في الداخل الإسرائيلي تسهم في حسم مصير التسوية.
حركة التاريخ أكبر من العرب والإسرائيليين ولا يمكن تصور أن يقف طرف واحد خلف قوة الدفع التاريخية، وحسب رأي عبد المنعم سعيد فنظرية النفي المتبادل انتهت، ويبدو أن المواقف الأخيرة لحركة حماس آخذة في الاقتراب من سؤال كيف نعيش مع بعضنا البعض بعد أن مرت حماس بعملية تكييف أمني تجاوزتها الحركة بنجاح أقل وبآلام أكبر، في المقابل مايزال المشهد أكثر تعقيداَ على الطرف الإسرائيلي، وعكس الرؤية السائدة لدى المجتمع الدولي، فالطرف الإسرائيلي يتكيف بسرعة مع التطورات المتلاحقة في النظام الدولي ويرفض التكييف الواقعي مع المطالب العربية، حيث يرى محمود أمين العالم وحسب المعطيات الراهنة أنه يمكن تصور استمرار الصهيونية من دون إسرائيل، لكن لا يمكن تصور إسرائيل من دون الصهيونية، ما لم يحدث فك ارتباط تاريخي في العلاقة بين إسرائيل الصهيونية ومراكز قيادة الرأسمالية العالمية، أي علاقة إسرائيل بالقوى الكبرى، وستبقى هذه المراوحة قائمة وفق منطق المساومة ما لم تظهر كتلة رأسمالية في المنطقة العربية تملك عناصر القوة القادرة على فرض فك هذا الاشتباك. في هذا الوقت تُستدعى المراجعة الاستراتيجية وتتوفر المسوغات لها أكثر من أي وقت مضى، وكل طرف يدرك ضرورتها وأهميتها أمام تقلص الخيارات وانحسار مساحة المناورة ومداها، المشكلة في حجم تضخم قلق الحسم كلما باتت في الأفق مؤشرات تدل عليه، بعدما فشلت إسرائيل منذ كامب ديفيد الى اليوم في بناء الحد الأدنى من الثقة والمصداقية.
لم تشهد المنطقة منذ عام 1967 حالة من الرهانات السياسية كما نشهده هذه الأيام. فاحتمالات الحرب والسلام مطلقة، ويتوفر لكل منها الحجة والنصيب بنفس القدر، فالحرب الشاملة التي قد نراها ابعد ما تكون هي في الوقت نفسه قريبة جداً، وفي الحقيقة لم تتوقف، وكذلك السلام! فقد بات اللاعبون الإقليميون فاقدين للبوصلة، والدليل أكثر من أي وقت مضى منذ قرابة أربعة عقود لم يتوقف خلالها جدل المبادرات والمحاججات السياسية، وان استبدلت أحيانا الكلمات بالطلقات.
الفراغ السياسي الراهن يعني عدم قدرة الأطراف الإقليمية والدولية وعدم نضوج إرادتها في إجراء جراحات عاجلة وجذرية لمشاكل الإقليم وتحمل آلامها، بعد ان بات من الواضح أين تكمن جذور كل هذه التعقيدات، الرهانات المتباعدة تجعل التفاعلات السياسية الحرجة محكومة بالغموض والأسرار والتفاهمات الخفية والقنوات السرية، وهذا النمط من التفاعلات، لا يقود إلى انفراج حقيقي بل يعتم الأفق السياسي أكثر، وهذا ما نخشاه.

المراجع

جريدة الغد

التصانيف

صحافة  د.باسم الطويسي.   جريدة الغد