منذ القدم والبشر يتوقون لبذل ما لديهم من أفكار، ومناقشة ما بحوزة غيرهم منها، حتى أن الحوارات المعروضة في القرآن الكريم بينه سبحانه وتعالى وبين أنبيائه، أو بينه عز وجل وبين الناس يوم القيامة تندرج في هذا السياق، فليس مستغربا إذن حوار الناس ومناقشتهم والتعليق على كلامهم ورده أو قبوله، فهو من فطرة الله التي فطر الناس عليها، وما تقوم به الحكومات الجائرة والمتسلطون من سياسية تكميم الأفواه إلا معارضة لتلك الفطرة، فمن يستطيع أن يمنع أحد من التفكير أو مناقشة أفكار الآخرين؟؟ فإذا الله سبحانه وتعالى قد سمح بذلك للكفرة والمجرمين وعلى رأسهم إبليس اللعين نعوذ بالله منه ومن سيرته، فكيف البشر؟ ولله المثل الأعلى.
وليس من شروط التفكير السليم لعرض أفكارك على غيرك أن تكون هذه الأفكار جديدة مبتكرة، بل قد تكون بدهية معروفة، ولكن الآخرين ناسون لها أو متناسون، فيلجأ المتحدث لتذكيرهم بها، ولذلك أنت واجد آيات القرآن تعرض كثيرا من المسلمات الفكرية لدى البشر، ولم تكتف بعرضها مسلمة بل أفرغتها بقالب تأكيدي لما يشير ذلك من دلالات بلاغية خطابية تحدث عنها المفسرون والمشتغلون بالإعجاز البياني للقرآن، وأكتفي هنا بعرض حقيقة واحدة من حقائق القرآن، وهي حقيقة الموت.
 تلك الحقيقة التي لا يماري فيها أحد، فلو استعرض أحدنا الموت وسياقاته القرآنية لتبين أن حديث القرآن عن الموت لا يناقش في صحتها أو خطئها بل هو يبني على تلك الحقيقة الفكرية المطلقة حقائق أخرى، فعندما يخاطب الله جل ثناؤه نبيه صلى الله عليه وسلم: "إنك ميت وإنهم ميتون" يعرف المخاطبون أنهم لا شك ميتون، ولكن لماذا يعرض القرآن أفكارا مسلما بها؟؟
ولذا فإن الجدة أو عدمها ليس شرطا من شروط الحديث ناهيك عن أن المتحدث قد يتبنى رأي غيره ويعده رأيه ويدافع عنه، فيتفق الناس في الآراء كما قد يختلفون فيها، وهم مع ذلك لا يملون من النقاش والأخذ والرد، حتى أن البشرية قد اخترعت ما عرف بالفلسفة أو بصورة أخرى ما عرف عند سلفنا من فلاسفة المسلمين من علم الكلام، ووجود الفرق الإسلامية الفلسفية ناشئ من تقدير عظمة هذه الفكرة، فوجدنا أثرها واضحا جليا في صورة المؤلفات العظيمة لهؤلاء من سنة أو شيعة أو معتزلة، أو حتى زنادقة!
ولم تترك البشرية مجالا من المجالات إلا وتحدثت فيه، حتى تناولت أقدس الأفكار وأعظم الشخصيات بالحديث، وعندما نركز الذهن قليلا سنرى أن الموئل الأخير لكل تلك المناقشات هو الفكرة ولا شيء غير الفكرة، فإذا ما مدح الشخص لشخصه أصبحت هذه فكرة أو تعرض السلوك للنقد تحول هذا النقد إلى فكرة، فبالتالي كل مآل ما نتحدث به هو الفكر ولا شيء غيره، ومن هنا فإنني أرى أن الشخص هو الفكرة، فقد صدق الشاعر الجاهلي عندما صدحت أشعاره:
لسان الفتى نصف ونصف فؤاده        فلم يبق إلا صورة اللحم والدم
وقول الرسول الكريم في التركيز على هذه الفكرة: إن الله لا ينظر إلى صوركم، ولكن ينظر إلى قلوبكم وأعمالكم. فهذا التوافق بين اللسان والفكر توافق بدهي وحقيقة فكرية غاية في الصحة، ولذا تجد الأخطل قد أصاب كبد الحقيقة عندما قال في بيته المشهور:
إن الكلام لفي الفؤاد وإنما        جعل اللسان على الفؤاد دليلا
فالفؤاد عند العرب هو العقل أي هو التفكير، ولذا كان اللسان ترجمان العقل، ومن هذا القبيل جاء التحذير الرباني من عدم التوافق بين الفكر واللسان، وهي إحدى سمات المنافقين، قال جلت صفاته وتقدست أسماؤه:" يخفون في أنفسهم ما لا يبدون لك"، فهؤلاء لم يتوافق فكرهم مع كلامهم أضمروا غير ما أظهروا فكانوا يحاولون خداع الناس بهذا، ولكن:
تأبى القلوب الغارقات بشرها        إلا الحديث بما تكن وتضمرُ
 فتجد هؤلاء في مواقف معينة يظهرون بعض ما أخفوا، فقد قال سبحانه وتعالى: "قد بدت البغضاء من أفواههم وما تخفي صدورهم أكبر".
وعلى هذه الحقيقة الفكرية بنيت حياة الناس وسلوكياتهم، فالأصل في المرء ألا يتصرف إلا حسب فكره، الفكر يوجه ويبني، والحذر الحذر من مخالفة القولِ للفعل؛ ففيه المنقصة وعدم التوازن، ففي خطاب القرآن للمؤمنين كان التحذير الشديد من مثل هذا، فقد قال تعالى: "يا أيها الذين آمنوا لم تقولون ما لا تفعلون، كبر مقتا عند الله أن تقولوا ما لا تفعلون".
وتأخذ هذه الحقيقة الفكرية أبعادا أشد دلالة في حياة البشرية، حتى أنها حكمت أمما بأكملها، فبرمجت قناعات الناس على ما يعتقدون، فلو صدق المعتقد عند شخص ما، سيكون مستعدا للتضحية بحياته من أجل معتقده ، فالمتعارف عليه عند البشر أن الإنسان أسير قناعاته ومعتقداته، وعليها يدور الحديث والنقاش والتصرف. ولم يكن مستغربا والحالة هذه من ناحية فكرية خالصة أن تحاكم بعض الدول المجرمة بعض مواطنيها بناء على ما يحملون من فكر أو معتقد لما سينتج عن هذا المعتقد من عمل مستقبلي ليس هذا وقته، على الرغم من أن القوانين واللوائح المرعية في تلك الدول لا تجرم مثل هؤلاء، وقد وجد هذا قبل مجتمع مكة القرشي وبعده.
فماذا يضير أهل مكة من ثلة مستضعفة ذليلة، كانت على هامش السلم الاجتماعي أن تسلم هذه الفئة وتتبع محمدا عليه صلوات الله وسلامه؟ لولا أنهم رأوا منهم في طبيعة دعوتهم أن أهدافاً أخرى يريدون تحقيقها في المستقبل، ولا بد أن يأتي هذا الزمن شاءوا أم أبوا، لذلك كانت المحاربة والقتل والتشريد والنفي، وكانت كذلك أيضا الحوارات الفكرية العنيفة، والادعاءات والحرب الإعلامية من أجل الحد من سرعة الزمن، وإطالة عمر ما يتمتعون به من امتيازات منتزعة من بين أعمار الفئات الهامشية المهمشة مهضومة الحقوق. وهذا النمط من التفكير موجود في كل زمان ومكان، وهذا من مستلزمات الفكرة ومتطلباتها ولا بد كائن، حتى وإن ادعت أمة من الأمم أو حكومة من الحكومات أنها لا تحاسب على ذلك.
فها هي الدول المزعومة ديمقراطية تحارب انتشار الإسلام في بلادها بكل سبيل، وهي تعلم أن الإسلام لم ينتشر في بلادها بالسيف أو بالإرهاب الفكري ولا بأي طريقة غير مشروعة في قوانينها إلا أنها تكيد وتكيدُ للحد من مظاهر أسلمة مجتمعاتها، وهي بلا شك غير قادرة على وقف التدفق الإسلامي إلى عقر دارها لأن الإسلام يغذي الفكر بالدرجة الأولى مشفوعا بالشعور العميق بالحاجة لمثل هذا الفكر، وكل من له فكر سليم يفكر بطريقة عقلية سيتوصل إلى عظمة فكرة الإسلام، ولا يستطيع بعدها إلا أن يسلم وجهه لله رب العالمين، إذا ما تجرد من هواه ومصلحته، فماذا سيكون رد تلك الحكومات لو انتبهت فإذا هي تحكم شعبا غالبيته من المسلمين؟؟
ولا يدرك حقيقة خطورة الفكر إلا من كان له عقل يعي أنه لا حياة إلا بالفكر، فلا يعقل ولا بأي حال من الأحوال أن يعيش الناس كالبهائم برجع غريزي شعوري، إن الإنسان أكرم على الله من ذلك، ولذا تجد أن من رفض تكريم الله له بإعمال عقله اعتبرته الآيات القرآنية " إن هم إلا كالأنعام بل هم أضل سبيلا" فعلا إنهم أضل سبيلا؛ لأن الأنعام لم تخالف طبيعتها، في حين أن الإنسان خالف سنة الله فيه، فكان هذا اللوم الشديد له.
وعلى ذلك فإن من أغرب الدعوات المعاصرة التي تسمعها تتردد بين الناس، قولهم: إن الكلام لا يأتي بنتائج، ومتى كان الكلام يغير واقعا، والناس في هذا متلهفون للتغيير ولكن القاعدة الأساسية لعمر الله هي الفكر ولا شيء غيره، ولكن هل يقتنعون بهذه القاعدة الذهبية، والتي لم يغفل القرآن الكريم لفت الأنظار إليها في قوله تعالى:" إن لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم"، ولنسأل هؤلاء عن هذا الذي في النفوس ما هو؟ أليس الفكر.
وهذا لا يعني بحال من الأحوال أن العمل المادي ليس مهما بل هو مهم وخطوة لا بد عنها، ولكنه في المرتبة الثانية بعد الفكر، فالفكر أولا والعمل ثانيا، يؤسس الفكر للعمل طريقا ورؤية، والعمل يُنفذ على بصيرة، ولعل المتنبي قد أشار إلى هذا المعنى في قوله:
الرَأيُ قَبلَ شَجاعَةِ الشُجعانِ        هُوَ أَوَّلٌ وَهِيَ المَحَلُّ الثاني
والعمل الناجح هو العمل المسبوق بفكر عميق ومستنير، لترى آخر المشوار وأنت في البداية، ولا يصلح أن نقول مرددين المثل الشعبي" ليوم الله بعين ألله"، وليكن شعارنا ومنهاج حياتنا التفكير بروية على قاعدة الحبيب محمد صلى الله عليه وسلم:"اعقل وتوكل"، ولا نستهين بعظمة التفكير ودوره في الحياة، فهو الذي يبعدنا عن الارتجالية، ويجعل حياتنا يسودها التخطيط السليم واستثمار الإمكانيات إلى أقصى مدى متاح.
 

المراجع

assabeel.net

التصانيف

أدب  مجتمع