قبل أسبوعين نشرت صحيفة "المصري اليوم" القاهرية قصة إخبارية تدمي القلوب عن طالبة عمرها (11) عاما في إحدى مدارس قرى المحافظات المصرية انهارت ميتة بعد اكثر من ساعتين من الوقوف في طابور احتفالي إجباري تحت شمس تجاوزت حرارتها الأربعين درجة انتظارا لقدوم معالي وزير التربية والتعليم لزيارة تلك المدرسة وتفقد أحوالها، ماتت بهية ولم يشرف حضرة الوزير.
تحمل هذه القصة على ما فيها من ألم أنساني وحسرة لعائلة نكبت بأغلى ما لديها لمجرد استعراض بائس؛ دلالات هامة على مدى هيمنة تنشئة وثقافة احتفالية تحتفي بالموت اكثر من الحياة، وبالهدم اكثر من البناء وبكل أسف تعم هذه الثقافة في كافة مجتمعاتنا فهي إرث أممي عربي نزداد تمسكا به كلما انفك عنه العالم.
تنتشر هذه الثقافة في كافة تفاصيل حياتنا اليومية، وهي جزء من المظاهر الخائبة لقدسية الفرد والسلطة، وهي عدة قديمة وبالية لصناعة النجوم في عالم اختلفت فيه كل معايير النجومية إلا في هذه البقعة من الأرض، وهي أيضا حالة من حالات التسويغ والتبرير الاجتماعي للرضى بالواقع وتجميله، حينما يدار من قبل فئات محدودة ولمصالح ضيقـة وبائسة، ما يشير إلى دلالة واضحة على الافتقاد لثقافة الاكتشاف والمبادرة والنقد الذاتي، وهي في المحصلة ثقافة أنتجتها كافة أشكال السلطة في المجتمع لمقاومة التغيير، وشكل من أشكال الفساد الذي يمارس على المجتمع من قبل الأفراد والمؤسسات، ويأخذ أحيانا أشكال الكذب والتضليل والتزييف، ويعطل القوى الحية في مجتمع ويتم إعادة إنتاجه على شكل نفاق سياسي سافر، أو ما يسمى في علم النفس الاجتماعي انعدام الكفاءة الاجتماعية، أي انتشار العلاقات الزائفة التي تبحث عن مصالح آنية موغلة في التزييف، وممتدة من ادعاء القيم السامية والتزييف في ادعاء المعرفة الى التزييف بادعاء استخدام القوانين، وصولا الى مستوى التزييف في الإيمان.
تزدهر هذه الأنماط من الثقافة والتنشئة السياسية في المجتمعات العربية؛ لتزيين الواقع ومقاومة التغيير ورفض الجديد والمختلف، نجد حول كل نخبة سياسية أو ثقافية هوامش تمارس النفاق والتبطيل والتصفيق، وتمارس التضليل باسم الحوار، لا لشيء اكثر من الرغبة في استمرار الواقع.
لقد عمقت وسائل الإعلام هذا الشكل من أنماط الثقافة المقاومة للتغيير، بل أصبحت هذه الوسائل أداة طيعة لها، حيث تحتل إعلانات الشكر والامتنان والتهاني كل يوم مساحات واسعة من الصحف، وهي في الأغلب ظاهرة تقتصر على مجتمعاتنا وعلى صحافتنا المزدهرة بهذا النمط من التضليل، حيث يغيب تماما الفرق بين الواجب وحدود المسؤولية من جهة وبين التميز والإيثار والتطوع أو حتى التضحية من جهة أخرى.
المشكلة الكبرى أن تتحول الدولة أو المجتمع إلى وكالة علاقات عامة كبرى، تبحث عن الشكر والثناء على هوى المقولة التقليدية " لا يكفي أن اسمع منك الشكر والثناء بل يجب أن يعلم به الجميع"، وهنا تمأسس لدينا شكل آخر من الفساد البراق له جاذبية مختلفة وحساسة أيضا، والخطورة الكبرى أن المؤسسة الاحتفالية ذات الجذور الراسخة والتقاليد المحمية اجتماعيا قادرة على التجدد واعادة انتاج نفسها حسب محددات وشروط كل مرحلة، حينما تتحول مخرجات المؤسسات والتنظيمات الإدارية إلى مجرد أنشطة تبحث عن خبر في صحيفة أو ابتسامات على شاشات التلفزيون مناقضة تماما للواقع.
يترسخ هذا النمط من الثقافة الاستهلاكية حينما تتحول القيم إلى سلع قابلة للمساومة وتخضع للعبة تبادل الأثمان، وتتحول منتجات هذه الثقافة إلى سلالم وروافع للطامحين وتصبح جزءا من صناعة الرموز بدون استحقاق وشكلا آخر من أشكال إفساد الرأي العام، في الغرف الخلفية تعمل ثقافة الحمد والشكر على منح الأوسمة والنياشين وتضفي على طلابها النجومية وتخترع حولهم القصص، في المقابل يتم اغتيال الآخرين بالصمت والتجاهل أحيانا وبالتسطيح وعدم المبالاة أحيانا أخرى، وتتحول أعمال كبيرة وإنجازات مبدعة إلى اقل من عادية وتمر مرور الكرام ولا أحد يذكرها بخير أو بشر لأن التجاهل والصمت اشد عقوبة من الرجم.
ان استئجار المنابر والأقلام وإعلانات التهنئة والشكر والتقدير وتبادل الثناء لا يبني الأوطان ولا يدشن التنمية، بل أصبح مصدرا من مصادر إضفاء الشرعية على الأفراد ومواقعهم وأداة للتسويغ الاجتماعي والسياسي، وأداة أخرى للتحرش بوعي الناس. ويتعمد مروجو هذا النمط من الثقافة استثمار عطش الجمهور وتلهفه للجديد، بل فضوله من خلال التسريبات والتكهنات لكسب الود والثناء غير المبرر، وهم بالمناسبة يطبقون إحدى نظريات التأثير الإعلامي وتدعى(التماس المعلومات)، حينما يصبح المتلقي يجري خلف المعلومات والأخبار وتتحول سيكولوجيا التلقي إلى فضول بائس، لا يحتاج اكثر من إشارات لينقاد طوعاً نحو التفسير المطلوب.
لا توجد ثقافة بالمفهوم الإنساني تتميز بسمو أخلاقي عن ثقافـة أخرى، بل توجد تقاليد إدارية وسياسية تشكل بيئات خاصة بها، تزدهر من خلالها أنماط من الاستهلاك المعنوي والنفاق السياسي والاجتماعي، وهذا اقرب ما يكون سمة من سمات بيئة فساد وفساد سياسي قاد في المحصلة إلى هذه الأنماط من الثقافة السياسية التي تدير التنمية بالفرجة وتدير الأوطان بالاحتفالات.
المراجع
جريدة الغد
التصانيف
صحافة د.باسم الطويسي. جريدة الغد