وتسألنا يا أستاذ: بماذا تشعرون حين يفكّر كلّ منكم بكلمة (وطن)؟
وأفكر وأنا أتأمّل سقف الغرفة كأني أراه للمرّة الأولى منذ خمسة أشهر، أحدّق فيه جيّدا، في بُقَعِه وفي المروحة العتيقة، أتأكد أنّه متماسك ولن ينهار من حرارة زفرتي وأنا أجيبك:
أشعر أنَ أحدهم يُـمَزِّع* روحي!
لا مشكلة في كلّ هذا، سوى أنني لا أعرف كيف أقولها.. بالألمانيّة! ومن أين لي بقاموس عربي/ألماني يعرف معنى (يمزّع)؟!
وتقول لنا: أجيبوا عن السؤال رقم 3.
وأرى متن السؤال الكئيب: اكتب عن نفسكَ حين تفكّر بكلمة (وطن) في أربعة أسطر:
ماذا ترى؟ ماذا تسمع؟ ماذا تشمّ؟ ماذا تشعر؟
وأحاول أنظر إلى السماء الرائعة عبر الحائط الزجاجيّ الممتدّ أماميّ، وفي وجوه زملاء الصفّ علّ أحدهم يلقي دعابة سخيفة، يقول شيئاً.. أيّ شيء يكسر حاجز الدمع المتعالي، لكنّهم مطرقون صامتون، حتى صاحب الدعابة الحاضرة والقلب الطيّب (السيدّ الغانيّ أمجي) صامتٌ أيضاً، يعرك جبهته، أترى محتارٌ هو بالمضمون أم بالقواعد؟.
ماذا تَرى حين تفكر بالوطن؟ وكتبتُ جملا قصيرة وأنا أحاول التركيز على صحّة القواعد وترتيب الجمل السليم: طفولتي، منزل أهلي القديم، وأنا وأخي نلعب في الساحة الترابيّة جوار المنزل، مدرستي الابتدائيّة.
ماذا أسمع؟ مواء قطط، ضوضاء السيّارات، أصوات أولاد يلعبون.. وحين أرى صورتي مع أخي لا أسمع شيئاً كأنّ العالم كان أخرساً في تلك اللحظات، أسمع صوته وضحكته الواسعة فحسب(ولم أقرأ هذه الجملة الأخيرة، كتبتُها بالعربيّة لي).
ماذا أشمّ؟ رائحة تراب الأرض بعد المطر، رائحة البنزين والديزل، رائحة الإسفلت الجافّ.
ماذا أشعر؟… وكتبتُ بين قوسين بالعربيّة وأنا مطمئنّة ألا أحد سواي سيفهم ما كتبت: (تبّاً)!
وحان دوري، فقرأتُ إجابتي بحياد مُغفلةً السطر الخاصّ بالشعور، ولم يعلق الأستاذ على تجاهلي إياه.
ثمّ دوّنتُ على هامش الورقة: لأكتب شيئا عن (الوطن)، لا بدّ أن أقرّر أين هو أوّلا.
هكذا القانون في ألمانيا، هكذا التعليم في ألمانيا، هكذا السياسة في ألمانيا، هكذا الديموقراطية في ألمانيا….. وفي كلّ مرّة يكون السؤال: وكيف هو الحال في أوطانكم؟
وفي كلّ مرّة يرجئ الأستاذ إجابتي أنا حتى النهاية، لأنني في كلّ مرّة أجيب إجابتين: الأولى عن البلد الذي أحمل جواز سفره وأزور فيه الأقارب والبحر والسماء كلما سنحت الفرص، والثانية عن البلد الذي فيه ذكرياتي وطفولتي وعالمي.
وفي كلتا الحالتين.. تقف كلمة (الوطن) حائرة لا تعرف أين تمدّ (أنفها) الذي يسيل دائماً من كثرة البكاء.
يقولون إنّ (الأوطان لا تفصّل على مقاساتنا).
لكنهم يفصّلونها كلّ يوم، ونقف نحن بانتظار أن يصلنا الخبر ما إذا كنّا لم نزل (داخل الوطن) أم صرنا (خارجه) حسب التفصيل الجديد!
(الدين لله، والوطن.. للجميع). نعم هو لجميع من يُقرَّر أنهم ضمن (الجميع)!
وفي تفصيل كلا الوطنين نبقى نحن خارجاً، وكأنّ مقصّات التفصيل تجنّبتنا عمداً، وتركتنا نهوي من خارطة العالم في الفراغ.
ومن قال إنّه لا يجوز أن يحمل القلب أكثر من وطن؟، إنّ في القلب متّسع.. لكنّ أنانيّة الخرائط لا تقبل المنافسة، وتقف صارخة في وجوهنا: إمّا أنا، أو سواي.
وقد نسمع هتافين، ذاك أوّلهما، أمّا الثاني، فيبصق قبل أن يقول شيئا وكأنه يعلن قرفه مسبقاً: لا أنا ولا غيري!
وأختبئ داخل نفسي خجلاً حين أقول: هنا، لم أشعر بعُشر الغربة التي عشتُها في (وطنٍ) استقبلني على مضَض ثلاثا وعشرين سنة. ليس لأنّي لا أملك حبّا ولا شوقاً إليه، ليس لأني أنتمي لهذه الأرض أو أجد شيئا من نفسي فيها، لكنها على الأقل، لم تطالعني يوماً -حتى الآن- بذلك السؤال الذي كان يتربّع واجهة صباحاتي كلها هناك متساءلاً بتكشيرة: لماذا أنتِ هنا؟
لم يتجرّأ أحدٌ هنا أن يعاملني (كطفيليّ)، ربّما ليس احتراماً لشخصي، لكن احتراماً لقانون لا يريدون التورّط معه.
فما بال القانون هناك يعلنني على الملأ بملصق دعائيّ أخضر اللون: كائن طفيليّ، نفسُه مباحة لكم؟!
وما بال القانون عند الآخرين يعلنني (شيئاً) لا يستحقّ حتى أن يكون (حيّاً)؟
أختبئ خجلا، لأنّي لم أتخيّل يوماً أن أرى أناساً يقفون متهيّبين من مجاوزة قانون أرضيّ خوفاً من عقوبة البشر، ولا يلتفت أولئك الآخرون ولا حتى التفاتة لقانون ديني العظيم، ولحقّي كبشر الذي يضمنه لي ربّ العالمين، حقّي الذي يقول باختصار وبكلمة واحدة: المساواة.
أختبئ وأرتعش خوفاً حين أتخيّل كم ستبتلع جهنّم من خلق، من أولئك الذي منحوني جنسيّتي وهم يقولون: خذيها، وعليك اللعنة إن لم تكوني مثلنا!
ماصرتُ مثلهم، وما حلّت بي لعنة أسوأ من الشوق والحيرة: ما يسعني أن أفعل؟ هل أنكره وأتناساه، أم أثبت وأطالب به؟
أنا لا أريد أن أشتري ورقة تجعل هذا العالم يعاملني كـ(إنسان)، يُفترض أننا نحن من نعطي الأوراق قيمتها؛ لا العكس.
لكن ماذا لو كانت هذه الورقة هي الخيار بين القلق الدائم والسلام الروحي؟
أيفترض أن أدفع ثمنها، أيّاً كان ذلك الثمن؟
وما معنى الوطنيّة إن كان انتماؤنا الأوّل هو للدين؟
أفلا يعني هذا أنّ أيّ مكان في العالم سيكون وطني؟
وهل يعني هذا أن يكون ولائي لهذا الوطن الذي استقبلني بلا تمييز، حتى لو وقف في مرحلة ما ضدّ الوطن الذي تفرّعتُ منه، وما زالتْ جذور أهلي باقية فيه؟
هل الوطن هو المكان، أم الرّزق، أم الأهل، أم الذكريات، أم الأمن والاستقرار، أم حاجةٌ اخترعناها لنفسّر الانتماء والتعلق بالتراب؟
أ هو مجرّد هواء نتنفّسه، وحلمٌ نتمنّاه؟
ويبقى سؤال أخير يختصر المسافات كلها:
آلوطن هو ذاك الذي يسكننا، أم الذي نحن نسكنه؟

المراجع

odabasham.net

التصانيف

قصص   روايات   فنون   كتب   روايات وكتب ادبية   الآداب