يجب أن تؤخذ المعطيات حزمة واحدة لكي تُفهم، فالإعلام قد يكون كهدايا الأطفال الملغمة، إذ يعلن الملك رأس كل السلطات وعلى أكثر من منبر موقف الدولة الأردنية الرافض لفكرة مناقشة الفدرالية أو الكونفدرالية، ويكرر ذلك رئيس الوزراء ورؤساء كل السلطات المعنية وغير المعنية، وتصر بعض المنابر على دق هذا المسمار في واجهة كل حدث جديد، وتختلق القصص لتفسير الأحداث وشرح التطورات، ويذهب الخيال السياسي نحو الشروح الفضفاضة وبناء السيناريوهات التي تبدو محكمة، وكأن الدولة الأردنية الأقدم بين كل الكيانات المحيطة مصابة بفقدان المناعة، كلما حل الرشح هنا أو هناك يكون قدرنا ان نُصاب به.
هذا النمط من الإصرار على العبث المشبوه تلجأ اليه نخب سياسية متقاعدة، وتمارسه الصناعة الإعلامية المعاصرة على طريقة لعبة الدمى المتحركة بينما مرجعية هذا كله نظرية قديمة هي التأثير الإعلامي؛ نتحدث عن "الرنين الإعلامي": كيف تبقى القصة حاضرة وقابلة للاسترجاع والاستدعاء من الإطار المرجعي للأفراد والجماعات في أي وقت؛ الرنين الإعلامي يعني الاستعداد الدائم لإبقاء أطروحة واحدة حاضرة لا تموت ولا تفنى ولا حتى تؤجل، لذا يجب اعادة التذكير بها وترديدها بمناسبة أو بدون مناسبة مرة بتحويلها فزاعةً للخوف، ومرة أخرى بتزيينها وجعلها أول حلول وآخرها.
نمط آخر من العبث على طريقة نظرية الرنين؛ الإصرار العجيب على دفع الحركة الإسلامية الأردنية نحو زاوية ضيقة وخلق المسوغات لاستفزاز جيل جديد من القيادات التي تتشكل نحو المزيد من التطرف؛ المشكلة أن الجانب الأكبر من التصعيد الذي يوصف بأنه حكومي هو في الحقيقة إعلامي يمارسه من تم ترويضهم ثم هربوا على الطريقة الوطنية القديمة، فالحركة الإسلامية قد تربطها علاقات روحية وأيديولوجية مع حركات وأطر مدنية وسياسية في عرض العالم الإسلامي وطوله، يجب أن توطد هذه العلاقة بالوطنية الأردنية وتتوشح بها، نريد أن تكون هذه الوطنية مرة واحدة على محك القانون والهوية والتاريخ، دون ان نفقد البوصلة في ازدحام المزايدات، كذا الأمر يتكرر بشأن الاستحقاقات الدستورية في ملف الانتخابات، فالإصرار العجيب الذي يأبى كلما وقع انفجار في منطقة متفجرة من العالم على قصة التأجيل والإلغاء والعودة للتأكيد، لم يعد أمرا يحترم.
هناك مشكلة حقيقية لدى النخب المدنية في ادراك مصادر التهديد، ثم في طريقة التعامل مع ما يُطرح من مصادر مفترضة أو وهمية، وهذه الحالة تسهم بشكل واضح في تشويه خيارات الرأي العام وطرق تعاطيه مع الأحداث والتطورات، ما يجعل حتى قادة الرأي ومن مختلف الصفوف، ومن ألوان متعددة ضحية سهلة للعبة الرنين السياسي والإعلامي، وهناك أسئلة غير منطقية تقود عادة الى نتائج مغايرة للواقع لكنها قابلة لأن تكون مادة جاذبة في سباق ان تبقى القصة ذاتها حاضرة لا تغادر، ترن في الوعي والممارسة حتى يصل البعض الى شك في موطئ قدمه.
المؤسسة السياسية الرسمية تصر على ان اتفاقية السلام قبرت أحلام الوطن البديل عند الاسرائيليين وأنهتها دون رجعة، في المقابل ما تزال الساحة المحلية الأردنية وبعض المنابر العربية تصر على إعادة دق ناقوس هذا الخطر كلما لاح في الأفق شائبة ترتقي إلى مستوى هذا الخطر أو لا تمتّ له بِصلة، المعنى: ان بعض المنابر اتخذت من هذا التهديد، الذي مازال قائماً بالفعل، أداة للتدخل في الساحة السياسية بين فترة وأخرى، في حين لا احد يتذكر ان التطرف على الساحتين والتناقض الحاد بينهما يلتقي في مفارقة عجيبة عنوانها الوحيد للأسف هو "الوطن البديل" لا غيره.
التطرف السياسي على الساحتين الأردنية والفلسطينية مازال يتمسك بحلم وحدة الضفتين في الوقت الذي ماتزال الضفة الأخرى تحت الاحتلال، وقبل إنجاز مشروع الدولة الفلسطينية، ويطمح بوجود تحالف نضالي إسلامي على جبهتين مفتوحتين في مواجهة إسرائيل، وعلى واجهة هذا الطرح من الناحية النظرية والتعبوية، لكنه ليس مغامرة سياسية وحسب. بل ومصيرية أيضا، لأنه في لحظة ما سيخدم الخيار الإسرائيلي المتطرف، وسيصب في مصلحة فكرة الوطن البديل لا غيره.
إسرائيل، من ناحيتها، لم تحسم مصير هذه الفكرة التي تجمع لديها بين الأيديولوجيا والاستراتيجيا، لأنها كيان ديناميكي قابل للتغيير والتكييف السريع وفق الفرص والمصالح المتاحة، فإنه قد تصعد في أي وقت قوة سياسية متطرفة تجد الظروف الملائمة للشروع بهذا المخطط أو ذاك، ولكن الدروس الإسرائيلية تفيدنا ان حجم المغامرة الإسرائيلية ونوعيتها يحددها بالدرجة الأولى الموقف المقابل على الساحة العربية، حان الوقت لأن نتعلم وندرك ان لعبة الرنين الإعلامي لعبة إسرائيلية بالدرجة الأولى.
المراجع
جريدة الغد
التصانيف
صحافة د.باسم الطويسي. جريدة الغد