هذه الأزمة الاقتصادية "العالمية" والتي تنذر بشر مستطير ، ينبغي لنا أن نعترف أن تسعين في المائة من سكان المعمورة لايفقهون أبعادها ولاالكيفية التي تضرب فيها الواقع السياسي والاقتصادي العالميين ، كما أن هؤلاء التسعين في المائة أنفسهم لايملكون أي طوق نجاة يعرفونه في مواجهة الأخطار التي تنذر بها وسائل الإعلام العالمية مجتمعة .
ثلاثة أمور رئيسية تسببت في أزمة بدأت ولايستطيع أحد حتى اليوم أن يتكهن بما يمكن أن يكتنف العالم بسببها ، أولها :السرقة المنظمة الدؤوبة وتكديس ثروات الأرض التي تنوء بحمل مفاتحها العصب من أولي القوة لدى جهة واحدة فيها ، ثانيها: العولمة الاقتصادية التي جعلت كل الأنظمة السياسية والاقتصادية في العالم تدور حول فلك تلك الجهة المهيمنة على الغرب بشطريه الأمريكي والأوربي وأتباعهما في الشرق والغرب ، ثالثها: انعدام النية والرغبة والتفكير أصلا في ملايين البشر الذين يعيشون على سطح هذا الكوكب ، بل واعتبارهم مجرد " عبيد" تقدر قيمتهم بقدر إنتاجهم الذي يصب في مصلحة تلك الآلة الاقتصادية الجبارة .
جاء في صحيفة "الباييس " الصادرة يوم الجمعة 17/10/2008 وفي مقالها الافتتاحي : "إن خطط الانقاذ التي يحاولها المهيمنون على الاقتصاد العالمي ، يجب أن تمر من خلال أطر الحوار في سبيل مراجعة شاملة " ، هذه المراجعة الشاملة التي بُحت أصوات معظم المفكريين وصناع الرأي في طول العالم وعرضه وهم ينادون بها ، أثناء تنبيههم الدائم إلى أنه يستحيل أن يستمر وضع الاقتصاد العالمي على ماهو عليه من تمركز الثروة العالمية بيد 6% من أهل الأرض ، بينما بقية البشر يرزحون تحت نير ظروف غير إنسانية ، لقد تسبب النظام الرأسمالي بطبعته الأمريكية الأوربية الحالية بانهيار أسس الحياة الانسانية وشروطها الكريمة على ظهر هذا الكوكب ، وكان من المنتظر أن يضج المظلومون والمحرومون بثورات تستطيع أن تغير هذا الواقع الكريه ، ولكن المفاجأة جاءت من هذا الواقع نفسه ، إن النظام الاقتصادي العالمي اليوم كان ينطوي على آليات تدمير ذاتية ، منبعها الظلم المتمثل بالاستبداد السياسي الفاحش ، والقهر الاجتماعي الموجع ، وسوء توزيع الثروة غير الانساني .
قسرا أو اختيارا .. لقد حُرم البشر العاديون في معظم أرجاء الأرض - باتباعهم سنن الغرب في الحياة كما يفند المفكر العالمي روجيه جارودي في كتابه "كيف نصنع المستقبل"- من حقهم في أن يزرعوا أراضيهم أو يربوا مواشيهم أو يغزلوا أنسجة بيوتهم وملابسهم بأيديهم – إلا من رحم ربي- ، كما حُرموا من المشروعية الإنسانية الطبيعية في أن يحصلوا على مايحتاجونه لاستمرار حياة كريمة عن طريق آليات إنسانية بسيطة كتبادل السلع المباشر والاستغناء عن العملة النقدية ! ، لكن بلدا عظيما كروسيا وفي القرن الواحد والعشرين اضطر أهلها إلى استعمال هذه الآليات "البدائية" وفي أكبر مدنها وأهم مراكزها الحضارية طلبا للعيش الانساني!!.
وكما يدعوها الباحث العراقي في القانون الدولي في جامعة الأوتونوما في مدريد الأستاذ "فتحي محمد" : "ثقافة التسول" التي انتشرت في بلدان كانت تعيش ولمئات السنين في مواقع سيادة عالمية حضارية ، فأصبحت بلدان كاملة بأهلها وثرواتها تستجدي كل شيء بدءا بإبرة الخياطة وانتهاءا بالدواء ، "الكل فيها فقد كرامته وأصبح متسولا ، الطبيب في عيادته والصيدلي في صيدليته وسائق التاكسي وشرطي المرور" !! .
لقد استيقن الجميع في هذه الأعوام الثمانية الأخيرة وهم يشهدون استحكام السيطرة الغربية العسكرية والاقتصادية والسياسية على مقاليد الأمور في مختلف أنحاء الأرض ، أن شيئا ما سوف يحدث ، لأنه مامن قوة على هذه الأرض استطاعت أن تُحكم السيطرة عليها أمدا طويلا في اتجاه يضرب عرض الحائط إنسانية وكرامة البشر فيها ، لقد كانت عيوب النظام الرأسمالي بطبعته الغربية الحالية أكثر من بادية للعيان ، وكانت جراثيمه تفتك في جسده كما في جسد العالم ، وظن أهله أنهم بمنأى عن المآسي والكوارث التي يشهدها البؤساء من حولهم بسببهم ، ولم يتوقعوا أن يؤتوا من عند أنفسهم .
إن الحقيقة صعبة الهضم التي يعيشها الغرب اليوم هي أنه وجد نفسه وجها لوجه أمام الواقع الذي صنعه بيده جنون العظمة الذي يعيشه ، ضاربا عرض الحائط آلام المعذبين والمحرومين والمظلومين، لكن الحقيقة الجرباء التي تعيشها حكومات مااصْطُلح على تسميته بالعالم الثالث ، هي أن هذه الحكومات افتُضحت أمام مواطنيها وأمام العالم وأمام التاريخ ، لأنها وبتبعيتها العمياء للغرب حفاظا على مصالحها الشخصية والعائلية ، وبسرقاتها ونهبها ثروات البلاد ، تسببت بانهيار الهياكل ليس الاقتصادية فحسب ، بل والسياسية والاجتماعية والانسانية في هذه البلاد ، وأصبحت معظم دول العالم "الثالث" جديرة بتصنيفها في العالم التاسع والعشرين أو مابعد الثلاثين هبوطا في سلم الأمن والازدهار .
هذا الوضع الذي تستعصي أبجدياته الاقتصادية إلا على أولي الاختصاص الرفيع الضالعين في علوم الاقتصاد والسوق – ولستُ منهم- ، نرى رموز انعكاساته الإنسانية والاجتماعية تنبسط وبكافة لغات العالم أمام أعين بني البشر جميعاً ، إذ تتوحد فيه القراآت الأخلاقية لهذه الأزمة وبكل الأبجديات ، انهارت الجدران التي كانت تفصل بين اللغات أمام مخاوف هول زحف للفتن يمكن أن يكون غير مسبوق في تاريخ العالم! .
الحديث عن انهيار قادم للولايات المتحدة الأمريكية على الطريقة "السوفييتية" ، أمر قابل للاستيعاب ولكنه عصي على التطبيق ، ذلك أن انهيار النظام الاقتصادي الأمريكي اليوم يعني انهيار 70% من اقتصاديات العالم الذي يتداول معاملات أسواقه اليوم بالدولار الأمريكي ، والمرشح الوحيد لخلافة الولايات المتحدة في هذا المجال على الساحة الدولية إنما هو العملاق الاقتصادي الآخر المهيمن اليوم على شبكة العلاقات الاقتصادية العالمية وهو الاتحاد الأوربي ، الذي ينقسم على نفسه على هامش القمة التي يعقدها لاستنقاذ الوضع العالمي ، مابين من يتهافت للعب دور دولي بارز عن طريق تزعمه لمجموعة الأغنياء الأقوياء الذين يريدون أن يعيدوا صياغة "الرأسمالية" في ظل النظام العولمي السائد ، وبين من يصر على الاصلاح من وجهة نظر قُطرية محلية سياسية اقتصادية ، وبينهما ، يكون العالم قد سلم البشرية لحراميها لكي يحميها ! ، وبالعربي : فإن الذي تسبب بمثل هذه الزلزلة الاقتصادية العالمية ستسند إليه مهمة إخراج العالم منها!! .
هذا من جهة الاتحاد الأوربي ، أما من جهة "المنطقة العربية " فإن كل التكهنات تنصب على ازدياد الأغنياء غنى فاحشا ، وربما شهدت المنطقة حركة هروب غير مسبوقة ، ليس نزوح المهاجرين إلى أوربة ، لأن أوربة سوف تقوم بإخراج من هم بين ظهرانيها بسبب هذه الأزمة في موجات طرد جماعية ، ولكنه هروب لمسؤولين كبار بما اختلسوه من أموال الأمة إلى حيث يكونون في ظل "من يؤيهم" في مأمن من غضب الجوعى والبؤساء ، الذين سيزدادون فقرا وذلا وضياعا في غياب سياسات إنسانية اجتماعية تأخذ بعين الاعتبار طبيعة المنطقة ومواردها الاقتصادية والبشرية ، وربما.. ربما .. شهدنا تكتلا غير مسبوق في تاريخ المنطقة العربية ، تكتلا سياسيا يقوم بإرادات سياسية جبارة ، تقف من هذه المحنة موقف رجال التاريخ ، فتسمو فوق الأزمة وفوق الخلافات وفوق ارتدادات الزلزال العالمية ، فيبذل أصحابها أموالهم وخبرتهم وأنفسهم لاللتنافس في بناء الأبراج السخيفة في زمن الزلازل ، ولكن لزراعة القمح والقطن والخس والبندورة، لتشغيل اليد التي طالما عُطِلت عن العمل إحباطا وجهلا ، ولتحقيق اكتفاء غذائي ذاتي عن طريق التكامل الاقتصادي والتبادل التجاري بين مختلف الأقطار في هذه المنطقة.
توقعات كهذه تراوح بين أقصى مشاعر اليأس من الطبقة الحاكمة في المنطقة العربية ، وأبعد الآمال التي يمكن أن تعلقها أمة على حكامها ساعة الشدة ، توقعات كهذه مع البعد الحضاري الأخلاقي الذي لايجد الناس ترجمة له في حياتهم تحت ضغط لسع سياط البحث عن اللقمة ، أضف الى ذلك تراكم لثروات الأرض المتوزعة على مختلف أقطار هذه الأمة ، كل ذلك يجعلنا على الرغم من هذه الحقائق الجرباء صعبة الفهم التي تلف العالم اليوم ، نتأمل في تغيير جذري قادم ، لقد استطاعت دول أوربية أن تنأى بنفسها عن أتون الحربين العالميتين اللتين اندلعتا في قلب أوربة قبل قرن من الآن ، وباستطاعة هذه المنطقة من العالم وعلى عكس كل التوقعات أن تكون في مأمن من أسوأ المخاوف الممكنة التي تجوب أروقة الاقتصاد العالمي ، بقليل من الصدق ، وشيء كاف من الارادة ، وكثير من العدل، يمكننا أن نتجاوز الأزمة.
المراجع
odabasham.net
التصانيف
أدب مجتمع