إن النظام العالمي الجديد في موقفه من الإنسانية اليوم لا يسعى لحمايتها أو النهوض بها أو حتى لمحاولة انتشالها من محنتها التي تحياها، والسبب واضحٌ وجليٌّ لكل ذي عينين؛ فلا يمكن للعالم أن يسعى للتحرر عبر طريق مرصوف بأشلاء أبنائه، ولا يمكن للإنسانية أن ترتفع إلى العلا على درَجٍ من جماجم إنسان القرن الحادي والعشرين.
إن استكبارًا يقود العالم ليدور في فلك الدمار والتخريب ليُحيل الإنسان إلى رقم في قوائم الضحايا وعدد في بيانات الشجب والتنديد الدولية، وتبقى الأسئلة حائرة:
فأي رقم ذلك الذي يعادل الأمان المفقود؟
وأي ثمن مهما بلغ يمكن أن يحصل عليه مليون إنسان عراقي طالتهم آلة التحرير الدولية ليعوضهم عن حياتهم أو ذويهم أو منازلهم أو أحلامهم ومعها أوطانهم؟
وأي حياة تلك التي يحياها 40% من أبناء أفغانستان الذين شرَّدتهم حرب العالم الجديد على إرهاب صنعته آلتهم الاستخبارية وراحت تتسلَّل تحت أستاره لتحتل وتفتك وتشرّد وتشوّه؟
وأي إنسانية تلك التي تذرف الدمع على السفَّاح الصهيوني وتدَّعي له حقًّا في وطن اغتصبه وشعب يسعى لإبادته ومقدسات يقوم بتدنيسها ثم تدميرها؟
وأي حقوق للإنسان عند نُظُم ترى الإنسان مجرد رقم في آلتها؛ فتدفعه ليَقتل ويُقتل ويستعمر ويخرب ويعود إلى وطنه في تابوت الحلم الاستعماري أو على كرسي العجز الذي يجره حلم مجنون في السيطرة على العالم؟
أليست هذه الأسئلة ترسم واقعًا محدَّدًا لمدنية الغرب التي ترى في علومها ازدهارًا لحضارة زائفة؛ سرعان ما بدأت تفلس وتندحر، وتندكُّ أصولها وتنهدم نظمها وقواعدها، بفعل الدكتاتوريات السياسية والأزمات الاقتصادية التي يكتوي بنيرانها ملايين البائسين من العاطلين والجائعين وحتى الموسرين وذوي القدرة المالية، بل صار الإنسان بحاله ومبادئه الاجتماعية أحد أهمِّ ضحاياها؛ حين سيطرت على حياته قيم شاذة وأخلاقيات منحرفة؛ فصار إما ترسًا في صناعة جهنمية يحكمها الاستبداد، أو رقمًا في معادلة المادية تائهًا في دروب الملذات والانحطاط المقنَّع باسم الفن وتحت دعاوى الحرية؛ لتُستباح الأعراض والأجساد وتُنتهك الخصوصيات وتحار الألباب، ليبتلع يَمُّ الطغيان العالمي سفينة الإنسانية وتهب عليها العواصف من كل مكان.. ﴿مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ نَارًا فَلَمَّا أَضَاءَتْ مَا حَوْلَهُ ذَهَبَ اللَّهُ بِنُورِهِمْ وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُمَاتٍ لا يُبْصِرُونَ (17)﴾ (البقرة).
* إن المسلمين يذكِّرون العالم بصفحات التاريخ التي حفلت بطغاة رفعوا شعارات الحرية، ملوِّحين بالسيف في يد وبالكتاب المقدَّس في اليد الأخرى، وهو ذات النهج الذي يتبعه بوش الابن وهو يقود حرب استيلائه على العالم، مستلهمًا مقولة ملك فرنسا لويس الخامس عشر عام 1770م: "إننا لم نتلقَّ التاج إلا من الله، فسلطة سن القوانين هي من اختصاصنا وحدنا".
ومن ثم قال بوش الابن عند بدء ولايته الثانية: "طالما أن هناك مناطق كاملة من العالم، غارقة في النقمة والطغيان، وخاضعة لأيديولوجيات تغذي الحقد وتستبيح القتل.. فإن العنف سيزداد وسيتحول إلى قوة مدمرة، وسيعبر الحدود الأفضل حراسة ليصبح خطرًا قاتلاً"، ومن ثم أكد بوش يومها: "إننا سندافع عن أنفسنا وعن أصدقائنا بقوة السلاح عند الحاجة"، وبعد ذلك راح يتوِّج أطماعه بعلم الحروب "الصليبية" الجديدة!.
واليوم وبعد أن مرت سنوات شَهَر بوش الابن وأذناب سياساته في العالم سلاحهم في وجه الإنسانية كلها، فماذا بقى من أحلامهم الاستعمارية إلا خراب سياسي واقتصادي وأمني واجتماعي؟!
ولا عجب أن تمتد سياسة الطغيان العالمية إلى عالمنا العربي والإسلامي؛ ليصير الطغيان المحلي ظلاًّ لآخر عالمي، وليكون بنو جلدتنا هم صدى النظام الجديد الذي يسلب حريتنا ويسحق إرادتنا ويسجن أمانينا ويغتال غدنا، متوهمًا أن تترسه بالطغيان العالمي سيحميه من يقظة الشعب، ويحول بينها وبين قدر الله المحتم ﴿فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ أَنْجَيْنَا الَّذِينَ يَنْهَوْنَ عَنْ السُّوءِ وَأَخَذْنَا الَّذِينَ ظَلَمُوا بِعَذَابٍ بَئِيسٍ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ (165)﴾ (الأعراف).
* آن للعالم كله أن يعيد النظر في واقعه ليعيد اكتشاف علاقة مآسيه بسيادة الطغاة، وهذه هي نقطة الانطلاق صوب الخلاص؛ لأن ما يضرب العالم حاليًّا من أزمات سياسية واقتصادية وأخلاقية وأمنية وثقافية مرده إلى حالة الفساد الناتجة عن الطغيان، والتي هي محصلة طبيعة له وفقًا للسنن الإلهية التي قررها القرآن وهو يتحدث عن فراعين الأمم الغابرة، وكيف كانت عاقبتهم بقوله في سورة الفجر: ﴿ الَّذِينَ طَغَوْا فِي الْبِلادِ (11) ﴾ فكانت المحصلة ﴿ فَأَكْثَرُوا فِيهَا الْفَسَادَ (12)﴾ ومن ثم صارت النتيجة ﴿فَصَبَّ عَلَيْهِمْ رَبُّكَ سَوْطَ عَذَابٍ (13) إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصَادِ (14)﴾ (الفجر).
والحقيقة التي لا مناص عنها أن الله عز وجل بالمرصاد لا يغفل ولا ينام، لكن عاقبة ركون الإنسان إلى الظلم وخيمة ﴿وَلا تَرْكَنُوا إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا فَتَمَسَّكُمْ النَّارُ وَمَا لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ أَوْلِيَاءَ ثُمَّ لا تُنصَرُونَ (113)﴾ (هود)، ولقد شرع ونظَّم للإنسانية سبيل الخلاص عبر الإسلام ونهجه؛ الذي قال عنه برنارد شو: "ما أشد حاجة العالم في عصره الحديث إلى رجل ( كمحمد ) يحل مشكلته القائمة المعقَّدة بينما يتناول فنجانًا من القهوة".
وهذا ليس تعصُّبًا لدين أو انحيازًا لفكرة قدرَ ما هو دعوة للإنسانية إلى أن تتخلص من قيودها حتى تنال حريتها، ويرجع إليها ما فقدت من استقلالها وسيادتها، ولتبدأ مرحلةَ بناءٍ جديدٍ تسعى فيه للوصول إلى درجة من درجات الأمان والعدل والحرية التي لا ترعبها فيه دانات المدافع ولا دوي انفجارات القنابل، ولا تكمم أفواهها قوانين الاستثناء، أو تحول دون شمسها أسوار السجون والمعتقلات ونقاط التعذيب السوداء.
إن المسلمين يدعون الإنسانية إلى كرامة الإنسان المكفولة بدستور الله ﴿وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنْ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلاً (70)﴾ (الإسراء)..
إنه ميثاق تأسيس لكرامة البشرية بغير خضوع الإنسان لسيطرة غيره؛ ليصير بحريته الأقدر على الإمساك بزمام الحياة على سطح الأرض مكفولاً له الحرية في الاختيار التي لا تحتكر حتى اختيار العقيدة ﴿لا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنْ الغَيِّ﴾ (البقرة: من الآية 256).
والمسلمون حين يدعون الإنسانية إلى العودة إلى فطرتها فإنهم يحذرون من الانسياق خلف مشروع الطغيان الغربي؛ الذي يسير بالإنسانية صوب هاوية من الصراعات والحروب والمهالك التي تأتي على الأخضر واليابس ﴿وَمَا ظَلَمْنَاهُمْ وَلَكِنْ ظَلَمُوا أَنفُسَهُمْ فَمَا أَغْنَتْ عَنْهُمْ آلِهَتُهُمْ فَمَا أَغْنَتْ عَنْهُمْ آلِهَتُهُمْ الَّتِي يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ لَمَّا جَاءَ أَمْرُ رَبِّكَ وَمَا زَادُوهُمْ غَيْرَ تَتْبِيبٍ (101) وَكَذَلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذَا أَخَذَ الْقُرَى وَهِيَ ظَالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ (102)﴾ (هود).
ويا ولاة الأمر في عالمنا العربي والإسلامي.. اعلموا أن كلكم راعٍ، وأن الله مستخلفكم وسائلكم، وأن رعيتكم أمانة، وأن الدنيا ساعة، والحق قادم، والظلم دولته هشة، ولن تَحُول بينكم وبين الله وأمره- إن جاء- قصور أو حشود أو حرس أو سجون أو دروع أو معتقلات؛ فراجعوا أنفسكم، وزنوا أعمالكم بميزان الحق، واضبطوا بوصلة ولائكم وفق المنهج الرباني؛ فإن روحًا جديدًا تسري في بدن الإنسانية توقظ خدرها، وتجمع شتاتها، وتوحدها في مواجهة الطغيان والاستبداد فاحذروا..
﴿وَأَنذِرْ النَّاسَ يَوْمَ يَأْتِيهِمْ الْعَذَابُ فَيَقُولُ الَّذِينَ ظَلَمُوا رَبَّنَا أَخِّرْنَا إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ نُجِبْ دَعْوَتَكَ وَنَتَّبِعْ الرُّسُلَ أَوَلَمْ تَكُونُوا أَقْسَمْتُمْ مِنْ قَبْلُ مَا لَكُمْ مِنْ زَوَالٍ (44)﴾ (إبراهيم).
إن سنن اللَّهَ لا تتغير ولا تتبدل:
﴿سُنَّةَ اللَّهِ فِي الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلُ وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلاً (62)﴾ (الأحزاب)
وإنه سبحانه لا يخلفُ وعدَه رسلَه، وإن وعده ثابت لا يتخلَّف:
﴿إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ ذُو انتِقَامٍ﴾ (إبراهيم: من الآية 47)
واتقوا:
﴿يَوْمَ تُبَدَّلُ الأَرْضُ غَيْرَ الأَرْضِ وَالسَّمَوَاتُ وَبَرَزُوا لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ (48) وَتَرَى الْمُجْرِمِينَ يَوْمَئِذٍ مُقَرَّنِينَ فِي الأَصْفَادِ (49) سَرَابِيلُهُمْ مِنْ قَطِرَانٍ وَتَغْشَى وُجُوهَهُمْ النَّارُ (50) لِيَجْزِيَ اللَّهُ كُلَّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ (51)﴾ (إبراهيم).

المراجع

odabasham.net

التصانيف

أدب  مجتمع