قد نجد ما يبرر نسيان العراقيين للذكرى الخامسة والسبعين لاستقلال بلادهم عن الاحتلال البريطاني؛ فالحال لا تحتاج إلى شرح أو تفسير؛ فأكثر ما يحتاجه العراقيون اليوم الاستقلال الثاني والحقيقي من الاحتلال والحفاظ على وحدة بلادهم التي هي الرمز الحقيقي للاستقلال والبقاء معا، وهي الوحدة المهددة اليوم أكثر من أي وقت مضى، ولا حاجة لأسف الجامعة العربية على هذا النسيان.
تزامن مرور ذكرى استقلال العراق في الثالث من تشرين الحالي مع سلسلة من الأحداث التي لا تبشر بأن هذا البلد المحتل والمخترق يسير في طريق الاستقلال الثاني وبناء الدولة الوطنية؛ بعد ما جاء به قرار الكونجرس الأميركي الداعي إلى تقسيم العراق إلى ثلاثة كيانات على أسس دينية ومذهبية وعرقية، بينما تسير الأحداث لمن يراقب البوصلة العراقية نحو المزيد من الاستقطاب المذهبي والاثني الذي يخدم خيار المشرعين الاميركيين على الرغم من الرفض المتبادل له من قبل الرئيس الأميركي ورئيس الوزراء العراقي فهناك صيرورة تاريخية تسير.
مطلب تقسيم العراق إلى كيانات وارد في أدبيات المشاريع الأميركية للمنطقة، وتواتر الحديث حوله في وثائق إستراتيجية وأكاديمية أميركية منذ مطلع التسعينيات، كما ان استقلال أكراد العراق جزء من الأماني التاريخية لهم، وأسهمت الأحداث والتحولات التي أوجدتها ماكينة الاحتلال في تراكم نوايا كيانية لدى شيعة العراق تعود جذورها إلى سنوات الحصار وممارسات النظام السابق، للأسف فإن ثمة جذور ومحددات عراقية داخلية قابلة للاستثمار بها وتوظيفها في سياق مشاريع التقسيم التي تلتقي مع مصالح دولية وإقليمية.
على طريق التقسيم يبدو ان الدولة الدينية هي الجسر الذي يشيد في هذا الوقت نحو المزيد من التغلغل في هذا الطرق على الرغم من الهجاء الذي يصب عليها من المريدين والرافضين، وفي هذا السياق يعاد فهم التفاهمات الجارية في هذا الوقت، ونتمنى الا يكون التفاهم الذي جرى بين كتلتي الحكيم والصدر مطلع هذا الأسبوع تذهب بهذا الاتجاه، حيث جاء التفاهم على حرمة الدم العراقي والعودة إلى التحالف السابق في مرحلة فرز دقيق، وبعد فترة من الاحتراب والحملات الدعائية المتبادلة، وكان التيار الصدري (30) مقعدا في البرلمان انسحب من كتلة الائتلاف الموحد الحاكم، والتي يرأسها الحكيم (85 مقعدا) احتجاجا على سياسيات وصفت بالازدواجية خاصة بعد دخول المجلس الأعلى بتحالف رباعي مع حزب الدعوة الشيعي والحزبين الكرديين الرئيسين.
في هذا السياق سنجد مساحات جديدة لتفاهمات إيرانية قادمة مع الكيانات العراقية القائمة والمنتظرة، وأولها التوافق على إعادة فتح الحدود مع إقليم كردستان يحمل قيمة رمزية هامة حيث يأتي بعد مجرد إغلاق لأقل من شهر، ويدل على ان العلاقات بين الطرفين مرشحة لتحولات كبيرة بما يخدم مسار المياه العراقية المتدفقة في الجنوب.
خلال سنوات الاحتلال سادت عملية تعبئة واسعة النطاق صوب العملية السياسية في العراق؛ وعلى أهمية عملية التعبئة من حيث الشكل إلا ان المراجعة العلمية المتأنية لمضامينها تثبت كيف وصلت التعبئة المناهضة للحرب الأهلية والدولة الدينية والعمى المذهبي إلى النتيجة المناقضة تماما، حدث ذلك حينما تواطأ الجميع ومارسوا على الأرض عكس ما كانت تقول به حملات الترويج والدعاية، بينما بات الناس أكثر قناعة بالعودة إلى مرجعياتهم الاجتماعية والدينية الأولية للاحتماء بها.
هناك درس يفهمه جميع الفرقاء ان المجتمع العراقي صلب ويصعب ان يتنازل عن دولته الوطنية على الرغم من كل الأوضاع التي يعيشها ويبقى الرهان على مدخل الكيانات الدينية.
الدولة الدينية في مجتمع تعددي مصيرها مظلم ولا مستقبل لها سوى الدمار والانتحار، إن جل ما يمارس تحت مسمى العملية السياسية في العراق منذ أربع سنوات هو حكم سياسيين دينيين ومذهبيين يتنافسون في إرضاء مرجعياتهم الدينية إما بالاستحواذ على السلطة والرضوخ لهيمنة الامتدادات المذهبية في الداخل والخارج، وممارسة الإقصاء والمحو للآخرين، وإما بممارسة العنف أو العزلة من قبل سياسيين دينيين آخرين.
بقلم: د.باسم الطويسي
المراجع
alghad.com
التصانيف
صحافة د.باسم الطويسي العلوم الاجتماعية جريدة الغد