خلال الأسبوع المنصرم شهد الأردن حراكا سياسيا اجتماعيا واسعا عنوانه الرئيسي الحملة الانتخابية ويوم الاقتراع وتداعيات نتائج الانتخابات، ثم استقالة الحكومة وانتظار حكومة جديدة، حيث شكل هذا الحراك الذي نمر به كل أربع سنوات مرة واحدة حالة من الإغراق الإعلامي والمعلوماتي وتشتيت الانتباه حول أكثر من حدث كبير، لم تقتصر هذه الحالة على أنشطة وسائل الإعلام، بل نالت كل أشكال وأدوات الاتصال الاجتماعي، كما عكستها الحملة الانتخابية والمناقشة الاجتماعية، التي ساهم فيها معظم شرائح المجتمع.
هناك زوايا متعددة تغري المراقب لتناول هذه الحالة وبالتحديد في بعدين الأول الإعلامي الذي تجسد في حالة الإغراق الإعلامي الذي تعرض له المشهد السياسي الأردني، والثاني المناقشة الاجتماعية التي تركزت خلال الأسبوع الماضي وجعلت من مختلف القضايا السياسية والاقتصادية والسياسة المحلية والإقليمية مادة للنقاش الشعبي، الملاحظة الأبرز في هذا الشأن وعلى مستوى البعدين السابقين تختصر في مقولة: "معلومات أكثر معرفة اقل". 
على الصعيد الإعلامي نالت حالة الإغراق التفاصيل كافة، لكن بمنطق المعلومات من دون ان تقدم معرفة موضوعية بواقع المشهد السياسي الأردني ولا يحصر الأمر في مستوى حريات التعبير وحدودها بل الأمر ينسحب على القدرة في اقتراح موضوعات للنقاش والدخول في وصفها الموضوعي، والإجابة عن الأسئلة الحقيقية من دون البحث عن أسئلة زائفة تزيف الواقع وتزيد من تشويهه، وهو الأمر الذي انسحب على المناقشة الشعبية التي عبرت عن بعض ملامحها الحملة الدعائية وجاءت أكثر تواضعا وفقرا وإرباكا، كم هائل من المعلومات والتفاصيل دون ان يسهم في الإشارة الى ملامح وعي سياسي أو اجتماعي. 
العالم من حولنا يتغير بسرعة تفوق قدرتنا حتى على الدهشة، ولان التكنولوجيا هي الأسرع والثقافة هي الأبطأ في استيعاب هذا التغير فأن اللقاء التاريخي بين الثقافة والمعلوماتية، يمثل الصدمة الأكثر قسوة في تاريخ التحولات الحضارية الراهنة. وفي الأردن حيث تزداد قوة التعولم وتتغول المعلوماتية بسطحية تخسر الثقافة واكبر الخاسرين هي الثقافة السياسية، ولعل هذا المدخل يوضح لنا زاوية من زوايا الإجابة على سؤال مهم، عن صعوبة تشكل الرأي العام الأردني، وأحيانا عدم القدرة على رصده أو كشف ملامحه رغم ما تقول به الاستطلاعات، فالرأي العام ظاهرة اجتماعية سياسية ذات قدرة اتصالية عالية.
وكما هي مرتبطة بدرجة الوعي ومستوى الحريات فإنها ترتبط بقدرة الناس على الكلام أي اقتراح المناقشات وتصعيدها، وهنا تبدو العلة فيمن يصيغ الرأي العام؛ المعلومات أم المعرفة، فالمعلومات وحدها تبقى عاجزة وباردة ومن دون حياة، إذا لم تتحول الى معرفة ترتبط بواقع الناس وتفاصيل حياتهم ومعاشهم وأولوياتهم، المعرفة هي الرواية الواقعية للإحداث وهي التي تملك القدرة على تفسير الإحداث واستشرافها. 
في عالم ثورة الاتصال والمعلوماتية تبقى الثقافة تحيا عزلتها في الساحات الخلفية وفي الضواحي والأطراف والهوامش؛ بينما ينضج العالم الجديد ويدشن على هدير الآلات الناعمة وسط ثورة صامتة ومن دون شغب وازدحام حيث تدخل البشرية ولأول مرة في التاريخ في فضاء معلوماتي مشترك مفرغ الى حد ما من الوعي، يجعلنا نعيد النظر بمفاهيم الزمان والمكان والخيال وحتى الإبداع.
كلنا قرأنا سطحية الحملة الدعائية في الانتخابات الأخيرة من زوايا التحولات السياسية والاقتصادية وسلبية النخب السياسية وانسحاب القوى الفاعلة وذات الاطروحات الفكرية والقدرة على طرح البرامج والتعبير السياسي، وكل ذلك صحيح، لكنه لا يجب ان يسقط السؤال عن كيفية اسهام المعلوماتية بسطحية في تزييف الواقع، لأنها تبدو تحتل مكانة المعرفة وبالتالي تصادر ثقافة الناس وتاريخهم وتتجاوز حاجاتهم الحقيقية وأولياتهم، انها أيديولوجيا جديدة تتشكل في هذا الوقت.

المراجع

جريدة الغد

التصانيف

صحافة  د.باسم الطويسي.   جريدة الغد