يلفت التوجه العام للحكومة في منح القضايا التنموية الأولوية الأولى في سلم اهتماماتها الانتباه إلى أهمية تطوير الرؤية الوطنية حول دور قطاع المعلومات والقدرة على تحليلها في دعم اتخاذ القرار الحكومي، ولعل مثال مناقشات النواب الجارية حول البيان الحكومي وما سيتكرر في مناقشة خطاب الموازنة تلفت أيضا إلى الفجوة في الإدراك المتبادل للأوليات التنموية، فلقد آن الوقت للاعتراف بأن ضعف البيئة المعلوماتية والقدرة التحليلية هو احد الأسباب الحقيقية لتواضع كفاءة إدارة الموارد الوطنية.
نلاحظ خلال فترة عقد ونصف مضت يمكن مراجعتها في دائرة التذكر حجم القرارات المتخذة التي تم التراجع عنها، وتلك التي أهملت بعد ان تم إدراك ضعفها أو مخاطرها أو تلك التي دفع ثمنها غاليا، ونرصد كذلك خطط التطوير والاستراتيجيات التي تم التراجع عنها ومن بينها استراتيجية الإصلاح والتطوير الإداري نفسها التي تم التراجع عنها لأكثر من مرة، ويجسد هذا الواقع ما يشوب آلية صنع السياسات التنموية بالتحديد، واتخاذ القرار من اعتلال وارتجال وأحيانا يتم إضفاء الشرعية عليها تحت مسمى استراتيجيات تصاغ داخل المكاتب المغلقة وبعيدة عن الواقع.
إن ترشيد القرار الحكومي ودعم صنع السياسات العامة بما يخدم المصالح الوطنية الأردنية ويعزز القدرة على تحديدها بدقة وتحديد آليات الوصول إليها يحتاج إلى إطار مؤسسي يستفيد من تجارب الآخرين ويطور نموذجا محليا يستجيب لمحددات الواقع المحلي أيضا، ما ينعكس إيجابيا على معدلات التنمية الاقتصادية والاجتماعية والثقافية؛ من خلال توفير المعلومات وإجراء الدراسات والبحوث ووضع السيناريوهات والبدائل، أي بناء وتطوير نماذج اقتصادية وسياسية وثقافية تلبي احتياجات دعم القرار في القضايا الوطنية وصياغة وإصدار مؤشرات وطنية تنموية واقتصادية كلية وقطاعية يمكن من خلالها رصد الحركة التنموية بشقيها الاقتصادي والاجتماعي والتنبؤ بالأزمات الاقتصادية والسياسية وحتى الاجتماعية، ورصد مؤشراتها قبل وقوعها واقتراح سبل علاجها، وتقديم الدراسات والتقارير الدورية التي تهم متخذ القرار والمتابعة والرصد اليومي لأهم الأحداث والظواهر المحلية والإقليمية والدولية وتحليلها علميا من منظور المصالح الوطنية، والقيام بإجراء الدراسات المستقبلية التي تعنى بشؤون السياسات العامة وتقدم رؤية واضحة لمتخذ القرار حولها،هناك عدة مؤسسات تقوم ببعض هذا الجهد ولكن بآليات تقليدية وبدون تكامل ما يجعل تأثيرها في صنع السياسات واتخاذ القرار محدودا.
ويمكن ترجمة هذه الأهداف بمأسستها في إطار عمل مؤسسي لمركز متخصص في صنع السياسات ودعم اتخاذ القرار، يتبع رئاسة الوزراء مباشرة وبالتأكيد لا نقصد ما تقوم به مؤسسات قائمة مثل دائرة الإحصاءات العامة أو المركز الوطني للمعلومات، بل إطار مؤسسي آخر لا يكتفي بجمع المعلومات، بل مهمته الأساسية تحويل هذه الملومات إلى معرفة يستفيد منها متخذ القرار ضمن وحدات معلوماتية وبحثية من قبيل بناء قواعد البيانات والمعلومات المتخصصة في مختلف المجالات التي تهم متخذ القرار، وبناء خرائط تنموية قطاعية وزمنية للمحافظات، وإنشاء وحدات متخصصة بالدراسات المستقبلية ووحدة متخصصة بالتنبؤ بالكوارث والأزمات ووحدة متخصصة باستطلاعات الرأي العام المجتمعي في القضايا التنموية ووحدة متخصصة بتقنيات دعم القرار الحكومي، إضافة إلى وحدة مراقبة الأداء العام ووحدة جودة الإدارة الحكومية.
يشهد علم دعم اتخاذ القرار تغيرات كثيرة ويرجع الفضل في ذلك إلى التطور المذهل في علمي الشبكات والذكاء الاصطناعي والقدرات البشرية في تحويل المعلومات إلى قيمة اقتصادية واجتماعية، لقد ولد دعم اتخاذ القرار من خلال التكامل بين علوم الإدارة وعلوم بحوث العمليات وعلوم الإدراك، فالمأسسة في ابسط ملامحها تعني الاستغلال الأمثل للموارد والقدرة على التكيف الايجابي مع المتغيرات الإقليمية والدولية، وهنا يمكن لمركز دعم اتخاذ القرار وصنع السياسات ان يوفر شبكة عملاقة من الأكاديميين والخبراء توظف طاقاتهم لخدمة المصالح الوطنية الأردنية.
هناك خمسة آلاف أكاديمي أردني في الجامعات المحلية لا يكاد إسهامهم في التنمية الوطنية يذكر عدا دورهم في التعليم، وهناك مئات من كبار الخبراء الذين خرجوا من الإدارة الحكومية إلى التقاعد، وهناك أعداد مماثلة في القطاع الخاص، يمكن لهذه الخبرات ان تتجمع ضمن آليات محددة لتقديم الاستشارات والخبرات، فلقد آن الوقت للانتقال من عالم الارتجال إلى علم صنع السياسات واتخاذ القرار.

المراجع

جريدة الغد

التصانيف

صحافة  د.باسم الطويسي.   جريدة الغد