في اللحظة التي أعلنت فيها إسرائيل نهاية حلقة من عملياتها العسكرية الدموية في قطاع غزة، كانت القطع الحربية الأميركية، تجول السواحل الشرقية للمتوسط من الجنوب اللبناني إلى بحر غزة، في ذات الوقت كان الرئيس الإيراني احمدي نجاد يتبادل النكات مع الرئيس العراقي جلال طالباني ورئيس وزرائه نوري المالكي في المنطقة الخضراء تحت الحراسة الأميركية. هذا ما يحدث على الأرض في المنطقة العربية، وما يزال يتكرر؛ بينما يشرق الخيال السياسي العربي ويغرب في اختلاق منطقه الخاص لفهم الوقائع وفي بناء التحالفات وتزييف المستقبل.
ليس أسهل من إطلاق صفة الإدانة على الجميع؛ على كل الفاعلين في جبهة الاعتدال السياسي وفي جبهة المواجهة والمقاومة؛ فالإدانة وحدها لن تبرد نار المحرقة الإسرائيلية على غزة، ولن تصحح الشرخ العميق الذي قسم الوعي العربي إلى معسكرين، والكل يتعقد انه يملك الحقيقة، ولديه من الحجج والأدلة ما يكفي لإثبات صحة موقفه، حتى أصبح عمليا لا فرق بين التشيع السياسي للولايات المتحدة أو التشيع السياسي لايران.
في غزة حيث أوقعت عملية "الشتاء الحار" الإسرائيلية من الضحايا الفلسطينيين خلال خمسة أيام أكثر من ستة أضعاف ما قتلته صواريخ حماس خلال سبعة أعوام، وفي بغداد حيث تسقط عشرات الضحايا بدم بارد في نفس الوقت الذي يصل إليها الزعيم الإيراني الذي لم يتردد بالقول انه سعيد بزيارته لبغداد "بعد رحيل الطاغية" تحت حراب الاحتلال الأميركي، وبموافقة مسبقة من جنرالات الاحتلال، وتحت ترتيبات أمنية غير مسبوقة، في تزامن هذين المشهدين يبدو واضحا حجم الأمية السياسية العربية، ووهن رهانات التحالفات العربية التي أدارت القضايا المصيرية ومستقبل أجيال بأكملها بخيال سياسي مريض شغلته تصفية حسابات ثأرية أكثر من قراءة الواقع بأبجديات إدارة مصالح الشعوب.
كان الجميع لوقت قريب يُقر أن الوضع الفلسطيني قد تجاوز الحافة، ولا يوجد أسوأ مما هو عليه، بينما نكتشف أن الوضع يسير نحو الكارثة وبما يفوق خيالنا الكارثي، وان الحلقة المفزعة التي تتدحرج من غزة نحو الضفة الغربية تجد طريقها إلى المنطقة الرخوة في لبنان وصولا إلى المنطقة الخضراء في بغداد.
قد يُفهم أن استراتيجيات التحرر في التاريخ قامت على معادلة "الطلقات والكلمات"، ولا توجد معركة تحرر حقيقية خلت من النار والمقاومة، كما انه لم يتحقق النصر والتحرر من دون التفاوض والأخذ والرد، وكلاهما يعتمدان على مدى امتلاك القدرة على توظيف الموارد بكفاءة في الإدارة السياسية للصراع. ولعل احد أهم هذه الموارد هو القدرة على بناء التحالفات وتفسير الواقع السياسي؛ وهما أكثر ما يفتقده كل من المعسكرين العربيين. إنها الحلقة المفزعة في إدارة الصراع، فلكما ازداد عجز العرب عن تفسير الواقع السياسي في المنطقة ازداد غلوهم في تحالفاتهم الإقليمية والدولية، وازدادت غربتهم عن شعوبهم وعن مصيرها.
لا يمكن أن تحرم شعبا من التضحية والمقاومة في سبيل وطنه وحريته، فالتضحية أغلى وأنبل ما يقدمه المغلوب على أمره، ولا يمكن أن تقف عائقا في وجه شعب أنهكته الحروب والاقتتال والتجويع والحصار وفقد أجيالا من أبنائه من الوصول إلى الحد الأدنى من حقوقه؛ ولو صيغت العبارة بشكل آخر نقول كيف وصلنا إلى هذا الحد من الغموض وضبابية الرؤية والعجز عن تفسير الواقع، ومن المسؤول عن هذا الشرخ العميق في الوعي العربي الممتد على ثلاث ساحات لإدارة الصراع ولو بدرجات متفاوتة وهي الساحات الفلسطينية واللبنانية والعراقية.
على احد مواقع وكالات الإنباء القريبة من إيران، وصف احد المعلقين السياسيين زيارة نجاد إلى بغداد بأنها تتوج نهاية المهمة، بينما كان الرئيس الإيراني يردد استعداده لفتح صفحة جديدة مع القيادة الأميركية القادمة بعد الانتخابات، كما ترددت أيضا معلومات عن تفاهمات إيرانية- أميركية سوف تتحول إلى نوايا معلنة.
ترى ماذا لو كانت نهاية الخيال السياسي العربي الممتد من القاهرة إلى دمشق باكتشاف أنهم أصبحوا جمعيا خارج اللعبة؟.

المراجع

جريدة الغد

التصانيف

صحافة  د.باسم الطويسي.   جريدة الغد