على غرابة خصال الناس لم أر أغرب من خصلة الجدال، فمن الناس من يجادلك على لون الماء وزرقة السماء وخفة الهواء، ويقتحم معارف الناس جميعا فيتدخل في شئون الطب والهندسة والإدارة بينما لا يتقن ميدان عمله الخاص! ويحيّر من يتابعه حيث ينقلب في الرأي من اليمين إلى اليسار، ويتغير حاله ببساطة مائة وثمانين درجة!
ومن فنون ذلك الجدليّ أن لا يتعب نفسه في علم أو معرفة أو معلومة أو رأي؛ بل يأتي إلى ما يقوله الآخرون فيتخذ الرأي المضاد، ويحشد له ما قد يذكره أولئك من تحفظات على رأيهم على أساس أن كل رؤية موضوعية تضع الحلول والمعوّقات.
وإذا اتخذ المجموع ميلا إلى رأي أصوب انتظر حتى انتهت الآراء وأمسك برأي أو ملاحظة جانبية واتخذها محورا للجدال والرفض والتشنج واحتفظ لنفسه بباب موارب ليعود إلى نكث رأيه من جديد إن رأى ميل الناس إليه. وإن لم يفلح في تحقيق رأيه مرة انتظر لقاء آخرا أو اجتماعا ثالثا وألحّ على طرح الفكرة من جديد وكأنها قضيته المصيرية، وحشد لها الآراء وأتعب الناس بإلحاحه عليهم لمجاراته!
يقول لك العارفون إزاء تلك الممارسات: تسمى شدة القتل في اللغة جدلاً...! ومن باب المعالجة ادّعِ إلحاحك على الرأي الذي لا تريده، وتأكد من رسوخ ذلك في ظنه، عندها ستضمن أن يأتيك بما تريد أنت لأنه يعتقد أنك لا تريده! وحتى تنجح في المرات الأخرى عليك أن لا تظهر راحتك للقرار الذي اتجه إليه!
أمّا إن أردت أن تعالج تلك الظاهرة السلبية فعليك أن تكشف له كل مرة أنك فعلت ذلك لأنك تريد الرأي الذي رفضته في البداية، وعليك أن تتحمل قليلا حتى يختلط عليه الأمر فيكف عن طرح رأيه إلا بعد تفكير، بعيدا عن المناكفة والجدل. والأفضل لو تُرك المجال له في البداية ليطرح رأيه، والأجمل لو حكيت له حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أنا زعيمٌ ببيتٍ في ربضِ الجنة لمن ترك المِراءَ وإن كان مُحقّاً"، أو كما قال عليه الصلاة والسلام. فلعل الحديث يغريه بترك المراء والجدل.
والمراء يقصد به أولئك انتقاص الآخر وإبراز نقاط ضعفه وجوانب الخلل في رأيه، أما الجدل فيقصدون به إظهار المعرفة والعلم والتميز على الآخرين، ولذلك اجتمع الاثنان "المراء والجدل" في أقوال العلماء، وبئس ما اجتمعا عليه من صرف للناس عن العمل، وإن عملوا فقد صرفهم عن الإخلاص فيه، قال معروف الكرخي: "إذا أراد الله بعبد خيرًا فتح له باب العمل ، وأغلق عنه باب الجدل ، وإذا أراد الله بعبد شرًا فتح له باب الجدل ، وأغلق عنه باب العمل"!
والصواب مع أولئك حسن المعاملة واللين في التوجيه، وخصوصا أن تلك الخصال من أهم ما ندعوهم إليه، فعلينا أن نلتزم بها تجاههم، قال عمر بن الخطاب: "البرُّ أمرٌ هين: وجه طليق، وكلام لين". وقال تعالى: " وَقُولُواْ لِلنَّاسِ حُسْناً"(البقرة: من الآية 83).
المراجع
odabasham.net
التصانيف
أدب مجتمع