يرتكز التحليل النخبوي للمجتمع السياسي على سلوك عدد صغير نسبياً من النشيطين وصناع القرار ليس على مستوى مؤسسات الحكم فقط. فالنخبة السياسية هي أقلية تستأثر بالقوة السياسية وتسهم فِي صناعة القرارات المهمة التي تؤثر فِي حياة المجتمع، وهم غالباً يشكلون مجموعات متماسكة وواعية أو شبه واعية تتحقق لها السيطرة، إما بفعل الانتماء العائلي أو الأيديولوجي أو المصلحي أو التحكم فِي موارد الإنتاج، أو تجسيد القيم الاجتماعية والدينية السائدة، أو ارتقاء المستوى التعليمي أو حيازة مهارات معينة، وعادة ما تقاس قدرة الدولة على الاستقرار والاستمرار بمدى قدرتها على تجديد نخبها.
بات واضحاً أن الأعوام القليلة الماضية قد شهدت محاولات جادة لإعادة صياغة النخب الرسمية الأردنيّة والخروج من قبضة القانون الحديدي الّذي طالما سيطر على تكوين تلك النخب وآليات إنتاجها، لكن الحقيقة تفيد باستمرار الآليات التقليدية رغم الضجيج حول صراعات داخل تلك النخب، فلا يوجد قديم يستميت من اجل البقاء ولا جديد يناضل من أجل إثبات الوجود، مما يعني ضرورة تكوين رؤية نقدية وطنية حول آليات تكوين النخب بكل أطيافها والأسماء التي توصف بها وكشف ضروراتها التاريخية، وتقييم الآليات الجديدة ودفعها إلى الأمام نحو تنمية الاستثمار الامثل بالإنسان على قواعد الجدارة والإبداع والاستحقاق.
مرت النخب الأردنيّة بتحولات عديدة عبر مراحل تطور الدولة الأردنيّة، ولقد التقت إرادة الدولة مع طموحات النخب المتنامية إلى جانب محددات حالة الطوارئ التاريخية في إنتاج تقاليد تحكم إنتاج هذه النخب وتشكيلها فِي كل مرحلة، وإذا كان تشكل النخب الاجتماعية الأردنيّة ذات الطموح السياسي قد سبق تأسيس الدولة فإن النخب السياسية الرسمية الأردنيّة لم تتبلور بشكل موضوعي واضح، إلاَّ مع بدايات مشروع التحديث السياسي الّذي تبناه الملك الراحل الحسين رحمه الله في الخمسينيات، إذ بدأ منذ تلك المرحلة تكوين الأطر المرجعية لإعادة إنتاج النخب السياسية الرسمية والتي بدأت في جذورها الأولى من رموز جهوية وأقليات ثم رموز قبلية تحقيقاً لفرضية التوازن الجهوي التي بدأ النظام السياسي من ذلِكَ الوقت تبنيها، وتعني توزيع المناصب السياسية في مواقع الدولة المختلفة توزيعاً جهوياً حسب المناطق الجغرافية والقوى الاجتماعية ذات الثقل السياسي والاجتماعي، مما يتيح توزيع الأدوار وانتقالها، ولم تغفل هذه الفرضية الجذر الاجتماعي الّذي ينتمي إليه الأفراد الذين توكل إليهم مهام ومسؤوليات عليا.
ويبدو أن جذور مقولات القانون الحديدي لتكوين النخب الرسمية الأردنيّة قد وجدت في هذه المناخات التي وفرت لقبائل محدودة ومراكز قوى معنية وفئات صغيرة أخرى من الملاك ورجال الأعمال فيما بعد فرص الاستمرار في تمثيل النخبة السياسية الرسمية وإعادة تشكيلها وتوارثها في كل مرحلة، ولعل ذلك المنهج قد أفاد البلاد في تلك المرحلة وربما كان يعبر عن ضرورة تنموية ما.
لقد أسهمت هذه الفرضية في نمو مراكز قوى قبلية في بعض المدن الأردنية وفِي مدن الضفة الغربية فِي السابق عَلى حساب أطراف أخرى في المجتمع، إذ نجد أن هذه التقاليد قد عملت بقوة بهدف الحفاظ عَلى أدوار ثابتة لبعض القبائل والقوى للاستمرار في النفوذ على صعيد مجتمعها المحلي، وعلى صعيد المجتمع السياسي الوطني أي أن النظام المركزي ضمن لهذه القوى والنخب القبليـة سلامـة الانتقال من مرحلة إلى أخرى والحفاظ عَلى مكتسبات قديمـة فِي عهد جديد يفترض أن تتبدل فيه أدوات التجنيد السياسي ومكوناته.
وقد لاحظنا استمرارية هذا الدور فيما بعد التحول الديمقراطي 1989م، حينما ضمنت الدولة للنخبة السياسية ذات الاستمرارية في النفوذ من خلال تعزيز فرص التجنيد السياسي أمام أبنائها مما وفر لهم زعامة استثنائية داخل مجتمعاتهم واصبحوا بفعل تلك التقاليد بمثابة الجسور الدائمة مع قادة الرأي من الوجهاء وممثلي المجتمعات المحلية من شيوخ وقادة اجتماعيين محليين، أولئك الَّذين تبدأ أدوارهم وتنتهي داخل حدود مجتمعاتهم المحلية ويمثلون صمامات الأمان للنظام السياسي، وحماية قيمه وسلوكه داخل تلك المجتمعات كما يعملون على تصعيد مطالب الأفراد وترشيدها.
ولعل المتتبع يلاحظ دور الفترات المضطربة ومراحل التحولات الكبرى فِي إبراز النخب المثقفة والعضوية وتأكيد دورها كأداة للتحديث والحماية، ولقد شهدت بداية مرحلة التحولات الديمقراطية فِي الأردن، موجة من استقالة المثقف من دوره كموجه للحركة السياسية المدنية، وأصبح يدور فِي رحى حالتين تعصفان اليوم بالمثقفين الأردنيين أولهما التهميش الّذي سيصل حتما إلى حالة من الاسترخاء والنسيان، والحالة الثانية المشاركة السلبية التي سمحت بتحول رموز من النخب المثقفة إلى مجرد أسنان فِي ماكنات الإدارة العامة الضخمة، حينما لَم يسهموا فِي تقديم رؤى نقدية تساعد في تقدم النظام والحياة السياسية في البلاد.
النخب المثقفـة والعضوية بالتصاقها بالمجتمع، والتي تلقت تعليماً وتملك الاستعداد للتغيير، هي الأكثر وعياً وقدرة عَلى التنظيم وهي المعنية باختراق تقاليد النخب التقليدية وقوانينها، ولقد بدأت مؤخراً بالفعل بالتسرب الخجول والمحدود إلى أجهزة الدولة والنظام السياسي.
هذه النخب هي المعنية بإنتاج ثقافة سياسية جديدة وترشيد المسار الديمقراطي والتحولات الاجتماعية واستثمار إرادة الدولة نحو التغيير والتجديد، وذلِكَ بتبني خطاب نقدي شامل وَهُوَ أكثر ما نحتاجه فِي مرحلة الخروج من حالة فقدان الوزن داخليا وخارجيا.
المراجع
جريدة الغد
التصانيف
صحافة د.باسم الطويسي. جريدة الغد