ترد على الفور المقارنة بين ردّة فعل الشارع هنا وتلك في اليمن على رفع اسعار المشتقات النفطيّة. لكن نسب الرفع في اليمن كانت هائلة، اذ تضاعفت تقريبا اسعار الغاز والبنزين، اما الديزل فقد تضاعف مرّة ونصفا عن سعره السابق (من 17 الى 45 ريالا)، أي بالعملة الاردنية من 6 قروش للتر الى 16 قرشا، والبنزين من 13 قرشا للتر الى 23 قرشا، وأسطوانة الغاز من 76 قرشا الى 149 قرشا. وكما هو واضح، فالاسعار كانت رخيصة جدّا، ومع انها تبقى أرخص من عندنا حتّى بعد الرفع، لكن بعد حساب معدّل الدخول فهي تصبح متقاربة؛ اذ ان معدّل دخل الفرد في اليمن حوالي 800 دولار في العام، أي نصف معدّل الدخل في الاردن.
ومع ان اليمن دولة نفطيّة الان، فاقتصادها ضعيف بسبب تدني الانتاجية. اذ يبلغ الناتج الوطني الاجمالي 16 مليار دولار وربع، أي ضعف مثيله في الاردن تقريبا، لبلد عدد سكانه 4 اضعاف سكان الاردن.
واليمن التزم بمشروع للتصحيح الاقتصادي مع صندوق النقد الدولي، وفق وصفة تتجرعها كما يبدو كل الدول، رغم الثمن المتمثل بقلاقل اجتماعية، وذلك في وقت متأخرعن الأردن الذي التزم بالبرنامج منذ مطلع التسعينات من القرن الماضي، وشهد أول موجة رفع لأسعار المشتقات النفطيّة في نيسان 1989، أثارت هبّة شعبية عنيفة، مع شغب وخسائر بشرية أقلّ مما جرى في اليمن، لكن ترتب عليها زلزال سياسي أدّى إلى التحول الديمقراطي.
إنّه تعاقب مؤسف للأخبار السياسية الطيبة والاقتصادية السيئة من اليمن، بين اعلان الرئيس علي عبد الله صالح عدم الترشح لولاية جديدة، ثم اشهار القرارات برفع اسعار المشتقات النفطية التي خلّفت اضطرابات وشغباً وجرحى وقتلى وصل عددهم امس الى 36 قتيلا. فقد أفسد علينا فرصة الاحتفاء الاوسع بقرار الرئيس اليمني.
مع ذلك، وبعد اذن اليمنيين المهمومين بشيء آخر، نطلق احدى وعشرين طلقة تحية اكبار للرئيس صالح، الذي تصالح مع الحقيقة، وقال ان الجماهير ملّت منّا ويجب ان نتيح تداولا حقيقيا للسلطة.
انها سابقة تاريخية، وأعظم هديّة للعالم العربي المبتلى بالرئاسات المؤبدة والوراثية، وسوف يكون لها مفاعيلها في كل القصور الجمهورية التي تحتكر السلطة. ولن نعدم من أطلق عليهم الكاتب السياسي المصري صلاح عيسى تسميّة "رابطة صنّاع الطغاة"، أي جوقة المدّاحين والمهللين الذين يزينون للرئيس طريق التحول الى طاغية، حتّى لو لم يكن في بدايته كذلك. ولكن الرئيس اليمني، كما يبدو، يريد وهو في أوج قوته ان يصنع ويرعى لليمن تداولا سلميا مضمونا للسلطة. اما الذين خشوا ان تخرج (على الطريقة القديمة إياها) تظاهرات عارمة تطالب الرئيس بالتراجع عن قراره، فقد شاءت الصدف أن تحدث التظاهرات الصاخبة حقا، لكن لسبب مخالف تماما.

المراجع

جريدة الغد

التصانيف

صحافة  جريدة الغد   جميل النمري