باستثناء القانون الاساسي الذي حكم العراق من 21 آذار 1925 وحتى تموز 1958 (أي فترة العهد الملكي)، استمرّ العراق محكوما بدساتير مؤقتة تتغيرّ مع الانقلابات العسكرية، ويتغير معها تسمية وتعريف الدولة، التي سيصبح اسمها -اذا اقرّت مسوّدة المشروع الجديد– "الجمهورية العراقية الاسلاميّة الاتحادية"، وهذه واحدة من قضايا الخلاف حول مشروع الدستور الجديد.
الحق ان التعريف الوارد في دستور الدولة الاول العام 1925 هو الاكثر حيادية ودقة، اذا اردنا دستورا يمثل عقدا اجتماعيا بين متساوين، بعيدا عن أي انحياز أيديولوجي مسبق. فهو ينصّ على أن العراق دولة مستقلّة حرّة ذات سيادة. وفي أول دستور مؤقت بعد الثورة (تموز 1958)، ظلّ نفس التعريف، مع استبدال كلمة "دولة" بكلمة "جمهورية". وبعد الانقلاب الذي قاده قوميون ضدّ عبدالكريم قاسم، اعلن قانون المجلس الوطني لقيادة الثورة (نيسان 1963)، وضع بيده كل السلطات والصلاحيات التشريعية والتنفيذية. ومع اخراج الشركاء البعثيين، وتفرد عبدالسلام عارف الموالي لعبدالناصر بالسلطة، ظهر دستور مؤقت جديد (نيسان 1964)، ونصّ على ان "الجمهورية العراقية دولة ديمقراطية اشتراكية"، لكنه ميّز اشتراكيته بأنها مستمدة من "التراث العربي وروح الاسلام". وبعد الانقلاب البعثي على عبدالرحمن عارف، ظهر دستور مؤقت جديد (أيلول 1968)، ينص على ان جمهورية العراق "دولة ديمقراطيّة شعبية"، وكرر التمييز ان ديمقراطيتها وشعبيّتها مستمدة من "التراث العربي" و"روح الاسلام"، وحدد هدفها بتحقيق الوحدة العربية وإقامة النظام الاشتراكي. ثم ظهر دستور مؤقت آخر (تموز 1970)، بعد استبعاد شركاء البعث في السلطة والاتفاق مع الاكراد، كرر نفس التعريف للجمهورية ونفس التأكيد على هدفي الوحدة العربية والاشتراكية، لكنه نصّ لأول مرّة على أن الشعب العراقي يتكون من قوميتين، العربية والكردية، واعتبر الكردية لغة ثانية رسمية في المناطق الكرديّة. 
الآن، دار الزمن، والاطراف القوّية في السلطة (الاحزاب الشيعية) تريد تثبيت اسم الجمهوريّة العراقية "الاسلامية"، والحليف الكردي القوي لا يريد تثبيت طابع الدولة الدينية، لكنه يحرص على تأكيد الطبيعة الفيدرالية (الاتحادية). والمقايضة بين هذين الاساسين، أما العروبة فلا بواكي لها الان. أما السنّة، فخوفهم الاكبر من تجزئة العراق الفيدرالي، ومن النفوذ الفارسي الديمغرافي الذي يجتاح الجنوب، اذا لم يعالج الدستور قضيّة الجنسية بصورة صحيحة.
مسوّدة الدستور الجديد تكاد تثبت طابع الدولة الدينية (نشرت النص بعض الصحف، وقد طابقناه مع مصادر أخرى). فبعد البند الاول الذي يعرّف العراق كجمهورية اسلامية فيدرالية، ينص البند الثاني على ان الاسلام "المصدر الاساسي للتشريع، ولا يجوز سنّ قانون يتعارض مع ثوابته واحكامه". وهذا يخلق مرجعية فوق البرلمان والشعب، هي المرجعية الدينية، التي تقرر -بالضرورة- ما يتعارض ولا يتعارض. ودساتير الدول الاسلامية تكتفي عادة بعبارة ان الاسلام دين الدولة، وهو مصدر من مصادر التشريع.
الدستور الديمقراطي الصحيح لا يظهر أي انحياز أيديولوجي مسبق، فهو عقد محايد بين مكونات المجتمع مهما كانت قناعاتها، وما هو سائد اليوم قد لا يكون كذلك غدا. الدستور يكتب لكل الاجيال، ولكل العقائد والافكار، فهو ينظم فقط اختلافها وتنافسها الديمقراطي، وآليات ادارة القرار.
نأمل ان ينجح العراقيون في التفاهم، لكن اذا كان كل طرف يريد انتهاز الفرصة لتثبيت ما يخصّه في صلب الدستور، فالامل ضعيف بالوصول الى نتيجة.

المراجع

جريدة الغد

التصانيف

صحافة  جريدة الغد   جميل النمري