أ.د/ جابر قميحة


 

مع الإمام الشهيد حسن البنا

في سنة 1949 م تجمعت وتلاحمت كل الأيدي الشيطانية الملوثة: يد الملكية الماجنة الفاسدة, ويد الحكم الساقط المنكوس, ويد الاستعمار الانجليزي الضاري, ويد الصهيونية العالمية الناهبة, ويد الصليبية الحاقدة, ويد الإلحاد المدمر.. كلها تجمعت وتضافرت وتلاحمت في يد واحدة سوداء كالحة وأطلقت رصاصات الغدر والخسة والنذالة علي الرجل القرآني حسن البنا أمام جمعية الشبان المسلمين.

 

.. وتيتمت مصر 

كان حسن البنا إمام الأمة, وصوتها النبيل المدوّي الذي أرشدنا إلي درب الحق والحقيقة, ورفع راية الشموخ والإيمان, وغذي - من نفسه وجهده وعرقه وعلمه وعزمه- شعلة الدين التي هتكت كل الظلمات, وانبثقت فيوض النور في كل الآفاق.

إنه مساء الأربعاء 12 من فبراير سنة 1949.. في لحظات منه أطلقت اليد الكالحة السوداء رصاصات الغدر لتخترق الجسد النحيل العاني, وتدفق الدم من القلب الطاهر الذي كان ينبض بذكر الله, وروح الإيمان.. يالله!! اللون لون دم, والريح ريح مسك, ولم تسقط نقطة واحدة من هذا الدم علي الأرض, بل استقبلتها وتشربتها ملايين الأوردة والشرايين التي امتدت في جسوم تلاميذه ومريديه, فعاشوا تنبض قلوبهم بدمه, ومضوا تحت راية «إياك نعبد وإياك نستعين».. يمخرون بها عباب الآلام والمحن.. وصبر أيوبي لا ينفد, وعزم بدٍري لا يهون. أما الإمام الشهيد.. فرفعته مشيئة الله إلي الروح والريحان وجنة النعيم.

ومن كرامات هذه الشهادة أنها كانت السبب القوي الذي وجه سيد قطب نفسيًا وفكريًا إلي الإخوان المسلمين, وذلك أنه كان آنذاك في الولايات المتحدة مبعوثًا من وزارة المعارف المصرية, ورأي سيد مظاهر الفرح والابتهاج في المحافل, وعلي صفحات الصحف لمقتل حسن البنا عدو الغرب كما وصفوه, واقتنع بفكر الجماعة, وانضم إليها بعد عودته من أمريكا ليكون علمًا من أكبر أعلامها, ويقدم روحه فداء لعقيدته بعد أن ترك وراءه عشرات من الكتب التي انتصرت للإسلام والفكر الإنساني الحصيف.

 

وبكيتُ.. وبكي أبي 

كنت آنذاك في «المنزلة» مسقط رأسي, كنت طالبا في بداية المرحلة الثانوية.. ليلتها فزعت إلي حجرتي.. وغلبني البكاء إلي حد النشيج.. وغمرت الدموعُ عينيّ ووجهي.. وفوجئت بأبي أمامي.. في حجرتي.. فأخذني الحياء.. خشية أن أظهر أمامه ضعيفًا.. باكيًا, فدفنت وجهي في منديلي.. وسألني:

 - ما هذا البلل علي وجهك ؟

-  إنه الزكام يا أبي.. إنه الزكام.. لعن الله الزكام..

ورحت في منظومة من السعال المفتعل.. وظل ينظر إليّ صامتًا, وأنا أختلس إليه النظر من ثنايا منديلي. ولأول مرة في حياتي تمنيت أن يتركني أبي ويغادر حجرتي, ولكني انتفضت عندما لمحت في عينيه دمعتين.. توقفتا كأنهما بلورتان من الثلج, إنها أول مرة.. وآخر مرة أري فيها دموعًا لأبي. وفجأة قال لي بصوت متهدج.. بالحرف الواحد, وهو يضع يمناه علي كتفي:

 - ياابني.. أنت لا عندك زكام ولا غيره.. أنت تبكي لأنهم قتلوا الشيخ حسن.

وهنا تحول بكائي إلي نشيج عال.. وواصل أبي كلامه:

-  يا ريت دموعنا - ياابني- كانت "دم" ، فالشيخ حسن يستحق أكتر من كده بكتير.. كفاية يا ابني.. مفيش فايدة.. مصر يا ابني منحوسة مالهاش بخت.

. . .

"مصر منحوسة مالهاش بخت"  قالها أبي الأميّ في عفوية حزينة. وبعدها بعشرات من السنين أقرأ ما يدور في فلك هذا المعني في كتاب: روبير جاكسون (حسن البنا الرجل القرآني): ".. هذا الشرق لا يستطيع أن يحتفظ طويلا بالكنز الذي يقع تحت يده ، إنه رجل لا ضريب له في هذا العصر.. لقد مرَّ في تاريخ مصر مرور الطيف العابر الذي لا يتكرر. كان لابد أن يموت هذا الرجل الذي صنع التاريخ ، وحوّل مجري الطريق شهيدًا كما مات عمر وعلي والحسين. كان لابد أن يموت باكرًا, فقد كان غريبًا عن طبيعة المجتمع.. يبدو كأنه الكلمة التي سبقت وقتها, أو لم يأت وقتها بعد".

 

مقام البلاغة الإيمانية.. 

لا أبي, ولا أنا رأينا الإمام البنا إلا مرة واحدة, قبل استشهاده بقرابة ثلاث سنين, كان ذلك في بلدنا «المنزلة». صحبني أبي لنستمع إليه مع ألوف مؤلفة في السرادق الذي أقامه الإخوان, كان الناس يستمعون إليه كأن علي رءوسهم الطير.. إنه يتدفق بكلام جديد.. كلام يختلف تمامًا عما نسمعه من الآخرين في خطب الجمعة والعيدين, والمولد النبوي. لقد فهمت كل كلمة قالها - علي صغر سني - ولكن الأهم من ذلك هو إحساسي القوي - وأنا مأخوذ بما يقول - بأنه يوجه كلماته ونظراته إليّ دون غيري. وأخفيت هذا الخاطر الغريب عن والدي حتي لا يتهمني "بالعبط " أو الجنون, إلي أن رأيت أبي يقول لأحد جيراننا: «لقد شدني كلام الشيخ حسن الله يكرمه.. كنت حاسس أنه ينظر إليّ لوحدي ويوجه كلامه لي.. لوحدي» .. وغير أبي ردد هذا الخاطر كثيرون وكأنه مدّ بينه وبين كل واحد من الحاضرين «حبلا سُرّيا».. نسيجه حب.. وأسٍر.. وحياة.. حقًا إن الإمام الشهيد كان يملك مقامًا من البلاغة الإيمانية الجذابة ندر أن يكون لها مثيل.

ومازلت - بحمد الله - موصولا بهذا الحبل السُرّي ، ماضيا تحت الراية الميمونة.. وفي قلبي ووجداني ذكري اللقاء الأول والأخير بالإمام القرآني. وفي سنة 1951 كنت أستمع في المنصورة لخطيب في نبراته وطريقته بعض من سمات الإمام الشهيد فخُيل إليّ أنني أستمع إليه في لقاء المنزلة.. وكأني أتحدث عنه.. وإليه ورأيت قلمي ساعتها يجري بالكلمات الآتية: 

 

رأيته. أمامه من القلوب ألف ألف تسمع. رأيته كأنما يلحن الضياء والشفقٍ. ويرسل النشيد من نياط قلبه الكبيرٍ ترنيمةً من الذهب. قل يا إمام قلٍ. وحينما سمعته يقول: «الله غاية الغايات ياصحاب». رأيت فجر النور في الأفق. وألف ألف محراب يسبّحُ. وكل عين في الضياء تسٍبَحُ. والأرضُ -ياللأرض- أصبحت سماءٍ والليلُ فجرا مائجًا بأقدس الأسماءٍ. وبحرُ سرًّ الله لا يُحدّ : الحيُّ. والقيومُ, والجبارُ, والسميعُ, والعليمُ, والغفورُ والأحد.

 

قل يا إمامنا حَسَنٍْ. فكل ما تقوله حسنْ. «زعيمنا محمد له الولاءْ. وغيره في عصرنا ادعاءْ. وحبه فريضة مؤكدة. صلي عليه الله والملائكة». وعندها رأيتُهُ: محمدا وراية العقاب تمخرُ. وتحتها جنوده إذ يزحفون نحو بدرْ. وكلهم يفديه بالعيون والقلوب والولدْ. وكلهم أسدْ . يقينه بالله لا يحده أمدْ. رأيتهم في زحفهم وكرّهمْ. والكافرين في انكسارهم وفرّهمْ. وعندها.. رأيتها «العقاب» في ازدهائها العظيم تبتسم . قد جاء نصر الله فاسجدوا وهللوا.. وكبروه.. واحمدوا.. 

 

قل يا إمامنا حسنٍ. فكل ما تقوله حسن. وإنك البنّاء في السرّ والمحن: "الموت في سيبل الله أسمي الأمنيات والمننْ. قد خاب قوم طلقوا الجهادَ والجلادَ واستجابوا للوهنْ. 

ونلت يا إمامنا العظيم ما اشتهيتْ

إلي السماء سيدي قد ارتقيتْ

إلي جوار الله سيدي.. لقد علوتْ

 

واستطاع الإمام البنا علي مدي عشرين عامًا أن يصنع - بفضل الله وكرمه وتوفيقه - كبري الجماعات الإسلامية في القرن العشرين, وترجم الشعارات التي نادي بها أعمالا وسلوكيات وأخلاقيات . وعاش كالجبل الأشم الشامخ الذي تحطمت علي صخوره كل الأكاذيب, والادعاءات والأحقاد والمؤامرات .

 

قال المفترون: لقد انحرف بالدين إلي السياسة, وقالوا كوّن جهازا سريا هدفه قتل الأبرياء والاستيلاء علي الحكم, وقالوا: متعصب ودكتاتور, وقالوا: بدأ دعوته في الإسماعيلية بإيعاز من الانجليز, وقالوا.. وقالوا, وقال التاريخ والحق {... كبرتْ كلمة تخرجُ منً أفواههمْ إن يقولون إلا كذبٍا} [الكهف:5]. 

 

ولعل الطريف المضحك في منظومة الافتراءات أن يخوض هذا المخاض -بكتب ومؤلفات- رجال مباحث وأمن دولة يعجز الواحد منهم أن يكتب جملة واحدة من سطر واحد بلغة عربية سليمة. ومن قبيل التفكه قرأت كتابًا ضخمًا طُبع طباعة فاخرة, ويبيعه مؤلفه بخمسة وثلاثين جنيها والمؤلف هو «اللواء فؤاد علام» الذي كان المسئول الكبير في أمن الدولة. ومن حق القارئ أن يضحك وهو يقرأ في هذا الكتاب مثل هذه العبارات: «كان حسن البنا يهوي الزعامة والسلطة, ويسعي إليهما مهما كان الثمن, وعشق العمل السري, واتخذ منه أسلوبًا لتحقيق أهدافه, وكان حلمه الذي لم يتحقق هو أن يصبح خليفة للمسلمين». 

ويزعم أن أحمد السكري هو المؤسس الحقيقي لجماعة الإخوان.. وحسن البنا سرقها منه.

ويقول بالحرف الواحد: "الإخوان وحرب فلسطين من الأكاذيب الكبري التي اخترعها حسن البنا والذين معه, نسجوا قصص بطولات تتحدث عن تضحياتهم وشهدائهم ودمائهم التي أريقت علي تلك الأرض المقدسة. ولكن الحقيقة غير ذلك تمامًا.. لم يقدموا شهيدًا, ولم يطلقوا رصاصة, ولم يريقوا قطرة دماء واحدة.".

ولست أدري ماذا يقول علام في شهادة قادة الجيش المصري في فلسطين مثل أحمد المواوي, وفؤاد صادق والسيد طه (الضبع الأسود), بل شهادات الصهاينة أنفسهم من أمثال موشي ديان? وماذا يقول في وثائق وزارة الحربيةالمصرية  ؟

 

ومن السهل علي القارئ أن يكتشف أن كل هذه الادعاءات تفتقر إلي الحد الأدني من أخلاقيات النقد والتقييم وأدب الحوار. وسنرى أن منظومة الأكاذيب وسوء الظن, وسوء التفسير للمواقف.. قد تفاقمت وتضخمت في عهد الأستاذ المرشد حسن الهضيبي ، وبعد وفاته.. في كتب ومقالات وبرامج تلفازية, مما سنكشف حقيقته ومداه في الحلقات الست القادمة ، إن شاء الله.


المراجع

odabasham.net

التصانيف

أدب   العلوم الاجتماعية