في منتصف رمضان 1429 (سبتمبر 2008) زار رئيس الوزراء الأسباني خوسيه لويس ثاباتيرو تركيا ، وعلى مائدة الإفطار أعرب عن فخر بلاده بالإرث الإسلامي ، وتأثير الإسلام في تاريخها .
ثاباتيرو ابن الغرب المعادي تقليديا للإسلام وحضارته ، مصنف سياسيا ضمن دائرة اليسار المعادي تقليديا للدين – أي دين .. ولكنه في التعبير عن فخره بالإرث الإسلامي يتجاوز بمراحل موقف بعض النخب الثقافية العربية ، التي تسعى بقدر طاقتها  للانسلاخ من الإرث الإسلامي ، وعده عبئا يجب التخفف منه في شتى المناسبات .
الفارق بين ثاباتيرو والنخب الثقافية العربية ، أن الرجل صادق مع نفسه ، ويعترف بالواقع الذي يؤكد أن الإسلام غيّر الأندلس بل وأوروبا للأفضل ونقلها إلى عالم من النضج والرقي ما كانت لتعرفه قبل الإسلام ، فقد منحها المعرفة والتمرد على الجهل والظلام والعبودية وترك آثارا ناطقة حتى اليوم بعظمة الحضارة الإسلامية في كل مكان على أرض الأندلس . في مدريد وقرطبة وإشبيلية وبلنسية وطليطلة ومرسية وغيرها .. كل أثر يشهد بعظمة الحضارة التي هضمت مالدى الآخرين وقدمته من خلال سياق إسلامي متميز للإنسانية كلها عطاء غنيا بلا منّ ولا أذى !
المفارقة انه في الوقت الذي كان فيه ثاباتيرو يفخر بالإرث الإسلامي ، كانت واحدة من النخب الثقافية العربية تصرح لصحيفة أسبانية تصريحات غريبة وفجة تنال من الإرث الإسلامي بل من الإسلام ذاته ، فتزعم لصحيفة "البابيس" أن الأديان تقهر المرأة ، وأن الحجاب خطوة إلى الوراء ، مثله مثل الختان الذي يروج له جزئيا جميع الأصوليين (؟)  . وتصف النساء المسلمات بأنهن جوار للعبيد ، وأن الرجل عبد! ثم تغرق في مزاعمها بالقول أن الله - تعالى عما تقول – يَستخدم لاضطهاد الناس والنساء والفقراء .
هذا الخلل الذي تعيشه النخبة المثقفة في بلادنا يمثل فصاما غريبا ، حين يقبلون ما يقدمه الغرب بخيره وشره دون أدنى اعتراض أو تحفظ ، وفي الوقت ذاته لا يتورعون عن إهانة الإرث الإسلامي وتشويهه وتحقيره بمنتهى القسوة والفجاجة والفظاظة !
تقلب الصحف والمجلات الصادرة في بلاد المسلمين ، فتجد تهجما لا مسوغ له على العقائد والتشريعات الإسلامية ، واتهاما لها بالتخلف والظلامية والرجعية ، ودعوة إلى ما يسمى الاستنارة والحداثة دون أن ندري ما المقصود بالاستنارة أو الحداثة ، هل هي الاستنارة التي لا تؤمن إلا بالواقع وتكفر بما وراءه كما يفهمها الأوروبيون ؟ وهل الحداثة هي القطيعة مع الماضي بكل ما فيه من دين وتاريخ وعادات وتقاليد وتراث وقيم كما عرفها الغرب ؟
إن النخب الثقافية العربية من أقصى اليمين  إلى أقصى اليسار لم يعد لها اليوم فيما يبدو من أهداف وغايات إلا رفض الإرث الإسلامي بمعناه الإيماني الايجابي ، دون أن تلتفت إلى ما صدعت به رؤوس الناس من كلام عن الحريات العامة ومقاومة الاستبداد ودعم الكادحين ومحاربة الامبريالية والرأسمالية والاحتكار والظلم الاجتماعي .
إن مثقفي هذه النخب اتفقوا على هجاء الإسلام في شتى المناسبات المتاحة ، ويرون الإرث الإسلامي مجرد كتب صفراء متعفنة ، وخطاب فكري متخلف ، وأفكار عقيمة عفا عليها الزمن .. وهذا الهجاء لا يقوم على أسس علمية أو مقدمات منطقية ولكنه تعبير عن رفض عشوائي يشبع رغبة شاذة تهدف إلى التماهي مع قيم الغرب الأنانية المتعصبة .
إنهم على سبيل المثال مندهشون من تنامي ظاهرة البحث عن الحلال والحرام لدى القاعدة الشعبية العريضة من المسلمين ، ويدينون القنوات الفضائية الإسلامية التي تقدم الفتاوى لهذه القاعدة . وقد تكون هناك مآخذ بالفعل على تلك القنوات وعلى بعض الفتاوى ، ولكن القوم لم يسألوا أنفسهم عن السر في تنامي الظاهرة ورغبة الناس في التعرف على الحلال والحرام ، حتى في الأمور البديهية .
لو حاولوا السؤال – وهم من يطالبنا بالسؤال دائما ! – لعرفوا أن الجمهور حَرم من مصادر المعرفة الشرعية في بلاد إسلامية عديدة ، وهو جمهور تقوده فطرته إلى الدين سواء رغبت هذه النخب الثقافية أم لم ترغب ! إنها " فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ " ( الروم : 30 ) .
ثم إن معرفة الحلال والحرام تجنب الناس كثيرا من السلبيات التي تعوق عملية التطور والتنمية والإنتاج ، على المستويين الشخصي والعام .. إنها ظاهرة ايجابية بكل المقاييس ، وان كانت هنالك فتاوى غير موفقة ، فإن الحل هو الحرص من جانب المعنيين على أن يكون من يتصدر للفتوى أهلا لها . مع ملاحظة أن الاستفتاء ظاهرة قديمة مرتبطة ببداية التشريع ، وفي عصرنا الحديث يسأل الناس الصحف والمجلات والإذاعات والتلفزة ، التي تخصص جانبا من صفحاتها وبرامجها للإجابة عن أسئلة الجمهور في العبادات والمعاملات والمواريث وغيرها . وقد أتاحت لهم الفضائيات مؤخرا فرصة الاستفتاء المباشر السريع ، فنمت الظاهرة ، وعبرت عن الفطرة المستقيمة .
وإني لأعجب من أن دول العالم غير الإسلامي ، وبعضها علماني ، يحترم الأديان السائدة فيه ، ولا تجد مثقفين يتفرغون لهجاء النصرانية أو اليهودية ، أوالتشهير بمعتقداتها وتشريعاتها ، بل إن النخب الثقافية في الكيان الصهيوني الغاصب ، تتنافس على الإشادة بالإرث اليهودي ، وتشكيل سياسة الصهيونية وفقا لهذا الإرث .
لا ريب أن العوامل التي تساعد النخب العربية على الاستمرار في عدائها للإرث الإسلامي معلومة ، ولكن موقف "ثاباتيرو" وفخره بهذا الإرث يسدد ضربة صاعقة للنخب العربية المتماهية مع الغرب وثقافته الأنانية المتعصبة .

المراجع

odabasham.net

التصانيف

أدب  مجتمع