المقدمة:
تعد الترجمة في أحد أبعادها شكلاً من أشكال الحوار الفكري بالكلمة، لذلك يمكن القول إنّ المترجمين يساهمون في إرساء أسس عملية الحوار الثقافي والفكري بين الحضارات المختلفة.
وقد كانت الترجمة وما تزال الوسيلة الأهم لتحقيق التواصل بين الشعوب وتعريف بعضها بالبعض الآخر. فمذ عرف الإنسان الأبجدية محققاً بذلك قفزة نوعية في مضمار التطور، ومذ بدأ يكتب معارفه ويدون تاريخه وأفكاره، كانت الترجمة الرديف المباشر لذلك التطور بنقلها معارف هذا الشعب إلى ذاك وتقديم أفكار هذه الأمة وإبداعاتها إلى تلك، خالقة بذلك التراكم الكمي الذي يصنع التغيير النوعي، جاعلة من البشر سلسلة متصلة الحلقات رابطتها اللغة وقوام تلك اللغة الترجمة.‏
فلولا الترجمة لم يعرف العرب فلسفة الإغريق ولا آداب فارس والهند، وبالمقابل لولا الترجمة لم تعرف أوربا، وهي في عصر الظلمة، منجزات العرب في الطب والكيمياء والهندسة والرياضيات ولا عرفت ابن رشد وابن الهيثم... إلخ.‏
ولولا الترجمة في العصر الحديث لما عرفنا الأدب الروسي مجسداً في تولستوي ودوستويفسكي ولا عرفنا روائع شكسبير أو تشارلز دكينز، هوغو أو موليير.. ولما عرف العالم روائع الأدب العربي مثل "ألف ليلة وليلة" والشعر العربي والقرآن الكريم وغيره.
لقد انطلقت الحضارة العربية والإسلامية في إنجازاتها العلمية العظيمة في القرون 7-10 م من ترجمة العلوم القديمة من هندية وفارسية ويونانية من اللغات السريانية والفارسية والسنسكريتية واليونانية إلى العربية وذلك بشكل منظم ومخطط له على مستوى الدولة. كما أن النهضة الأوروبية قامت على أكتاف العلوم العربية واليونانية المنقولة للعربية بترجمتها إلى اللغة اللاتينية في القرن الثاني عشر للميلاد.
إن الاتحاد الأوروبي حالياً ينفق سنويا مليار يورو لترجمة الوثائق المختلفة ذات الصلة بنشاط الاتحاد.
يعود تاريخ العلاقات الثقافية بين روسيا والعرب إلى عدة قرون أي من القرن الثامن عشر لكن التواصل الحضاري قديم جداً. فقد انتشرت الكلمات العربية في اللغة الروسية في القرن العاشر للميلاد مع رحلة أحمد بن فضلان الشهيرة إلى منطقة البولغار حيث يقول ابن فضلان في رسالته " لما وصل كتاب ألمش بن يلطوار ملك الصقالبة إلى أمير المؤمنين المقتدر يسأله فيه البعثة إليه ممن يفقهه في الدين ويعرفه شرائع الإسلام ويبني له مسجدا وينصب له منبرا ليقيم عليه الدعوة له في بلده وجميع مملكته ويسأله بناء حصن يتحصن فيه من الملوك المخالفين له فأجيب إلى ما سأل من ذلك" [1].
ولا بد من ذكر المؤرخ المسعودي[2] وعمله الشهير "مروج الذهب ومعادن الجوهر" الذي كتبه في أواسط القرن العاشر للميلاد. حيث كرس المسعودي فقرات مطولة للحديث عن تاريخ الروس والصقالبة وكان المسعودي وهو المؤرخ الكبير ذو السمعة العلمية العالية كمؤرخ وجغرافي قد زار منطقة القوقاس في العقد الرابع من القرن العاشر للميلاد.
وتأتي الأهمية التاريخية لما كتبه المسعودي حول شعوب أوروبا الشرقية هو ندرة المصادر التاريخية حول تاريخ هذه المنطقة وأن المؤرخين الروس اعتمدوا بشكل خاص على ما كتبه المسعودي كأحد أهم المصادر التاريخية. وربما تعود ندرة المصادر التاريخية المكتوبة حول تاريخ الروس إلى أنهم لم يمتلكوا في حينها الأبجدية للكتابة. ويصف المسعودي جغرافية المنطقة بالتفصيل ويورد تفاصيل دقيقة عن شعوبها بأمانة علمية. ويصف جبل القوقاس ويذكر مدينة "باب الأبواب" التي بناها كسرى الدولة الفارسية أنوشران. وهي مدينة ديربينت الداغستانية التي تعتبر مهد الإسلام في روسيا. وتذكر بعض المصادر أن المسلمون الأوائل وصلوا إلى ديربينت في عام 652 للميلاد.
وفي بداية القرن الحادي عشر بدأ الروس بالتعرف على الإسلام عن طريق الكتابات الدينية اليونانية والبيزنطية. لكن تلك المعلومات للأسف كانت بعضها محرفة وأحياناً غامضة (مشوشة). وتوجد مراجع من القرن السادس عشر محفوظة في بعض الكنائس الروسية كتب فيها عن النبي محمد والصحابة بشكل محرف ومشوه. وبشكل عام فالكتابات عن العرب والمسلمين انطلقت من النظرة الدينية المسيحية المعادية المتعصبة ضد اليهود والمسلمين.
وفي بداية القرن الثاني عشر اشتهر في مدينة كييف "المعالج" بطرس السرياني الذي كان يقدم الطب السرياني – العربي ذو الشهرة العالمية. وقد كانت لغة هذا الطب هي العربية.[3]. كما انتقلت في بداية القرن 13 م كلمات عربية إلى الروسية عن طريق لغات أخرى مثل التترية وبواسطة أهل قازان وبخارى من خلال التجارة.
وقد لعبت الترجمة من العربية إلى الروسية دوراً فعالاً في نشر الثقافة العربية الإسلامية في روسيا وانعكس ذلك بشكل خاص في مجال الأدب والشعر وفي الفلسفة والعلوم الأخرى.
في هذا البحث نسلط الضوء على جوانب من مسيرة التواصل الثقافي بين العرب وروسيا عبر القرون.
 وعلى امتداد قرون عديدة من التاريخ الروسي كانت ثمة رؤيتان متعارضتان للعرب والمسلمين في الثقافة الروسية, رؤية معادية, تؤججها الحملات التبشيرية والحروب الدامية لروسيا مع شعوب إسلامية داخل الإمبراطورية الروسية وعلى تخومها (تركيا خاصة), وصورة ودية, كانت وراءها عوامل عديدة, منها الشغف الرومانسي بالعالم الشرقي الساحر , عالم" ألف ليلة وليلة", وإدراك المنجزات الرفيعة للحضارة العربية الإسلامية في عصرها الذهبي ودورها الفذ في التاريخ العام للحضارة البشرية, وتأثيرها على الثقافة الأوربية والروسية [4].
ونشير إلى الدور الهام للجغرافيين والرحالة والمؤرخين العرب من القرن 9-10 للميلاد ( مثل أحمد ابن فضلان وابن حوقل والمسعودي ) الذين كتبوا عن تاريخ الشعوب ومنهم الروس في مناطق حوض نهر الفولغا وما وراء القفقاس وآسيا الوسطى [2,1].
كما أن أوائل المؤلفات الفلسفية التي تعرف من خلالها قراء الروسية على الفلسفة عامة, كانت الأعمال المترجمة من العربية, مثل كتاب " سر الأسرار" وهو مؤلف منسوب لأرسطو, وضع أصلاً بالعربية وترجم منها إلى الروسية في القرن الرابع عشر, وكذلك كتاب " مقاصد الفلاسفة" للغزالي, الذي نقل إلى الروسية عبر ترجمة عبرية له في نفس القرن [4]. كما ترجم في نفس الفترة كتاب ال "منطق " الفلسفي للفارابي.
وبالرغم من أن أهم أهداف علم الاستشراق في بداياته هو سعي العلماء الأوروبيين لمعرفة عالم الشرق بقصد التأثير في ثقافته ولتسهيل السيطرة عليه وهذا هو هدف الاستعمار الأوروبي إلا أن للاستشراق جانب آخر إيجابي وهو تأثر الثقافة الأوروبية والروسية بشكل واضح بالأدب العربي واللغة العربية والقرآن وبالعلوم العربية والإسلامية.
إن عملية تبلور الأفكار العلمية في روسيا الموسكوفية, جرت ليس على أساس التقاليد العلمية اليونانية والبيزنطية فحسب وإنما لعبت هنا دوراً بارزاً التقاليد العلمية العربية. حيث أفاد العلم الروسي في ذلك العصر إفادة واسعة من المؤلفات الطبية العربية, وفي مقدمتها "كتاب العلاج للطبيب اسحاق" وهو مخطوطة للطبيب الفيلسوف إسحق بن سليمان (900م) ومن أعمال ابن سينا. وفي مجال الفلك والتنجيم اعتمد الروس على المخطوطات الفلكية العربية. ويرجع المؤلف الفلكي "شستوكريل" الذي انتشر في روسيا القروسطية إلى المصادر العربية التي ترجمت إلى العبرية, وبشكل أدق إلى النموذج (الموديل) الهندسي- الحركي للبطروجي (ق 12 م) [4].
وتحتل رحلة ماكاريوس بطريارك أنطاكية وسائر المشرق ومعه ابنه بولص الحلبي وهما من سوريا, مكانة خاصة في التاريخ الروسي. فقد زارا روسيا أثناء حكم ألكسي ميخائيلوفيتش في أواسط القرن 17 م. زكان الهدف من تلك الويارة هو ترقية الكنيسة الروسية إلى مستوى البطرياركية. ويذكر أن مترجماً مصرياً وآخر من دمشق عملا في خدمة رحلة البطريارك.
وكان للعلماء الروس والسوفييت نصيباً وفيراً وإسهاما متميزاً في دراسة الثقافة والعلم العربيين وبما فيهم المستعربين والمتخصصين في بعض المجالات العلمية الدقيقة. بالرغم من أن كراتشكوفسكي يشير إلى قلة اهتمام الروس باللغة العربية والثقافة الإسلامية بالرغم من احتكاكهم بالمسلمين في تتارستان والقفقاس. لكن الاهتمام الجدي بالأدب العربي من حيث البحث والدراسة والتعلم بعد ثورة أكتوبر. أما البدايات الملحوظة للاستعراب فتعود إلى عصر بطرس الأول في القرن الثامن عشر.
بدأت أولى الأعمال الروسية في مجال الاستعراب في القرن 18 م بناء على مبادرة من القيصر بطرس الأول, الذي زار بنفسه أنقاض مدينة بولغار على ضفاف الفولغا وأعطى توجيهاته بنسخ بقايا الكتابات العربية والأرمنية والتترية المحفوظة هناك, وتمت ترجمتها ونشرها باللغة الروسية في سبعينات القرن 18 م. وتبين أن تلك الكتابات تعود للفترة 1271- 1342 م.
 ومن المحتمل أن بطرس الأول قد تعرف على العلوم العربية أثناء وجوده في هولندا التي اشتهرت بالاستعراب. وربما كانت الخطط السياسية والحروب المستمرة وراء اهتمام القيصر بطرس الأول بالإسلام وباللغة العربية. وحسب توجيهات القيصر تمت أول ترجمة للقرآن الكريم من اللغة الفرنسية (عن نص لديوري 1647). لكن الترجمة كما يقول كراتشكوفسكي كانت سيئة وهذا واضح من تسميتها: "القرآن عن محمد أو القانون التركي".
وتعددت وسائط المؤثرات من الرحلات والترجمات والصحافة وجهود الدبلوماسيين الروس في الشرق إلى العوامل المساعدة، ولاسيما الجغرافي والنفسي.
 أما العامل الجغرافي فيرتبط بموقع روسيا: جارة الشرق والغرب، وقد أشار الناقد الكبير د. ليخاتشوف إلى أن «الثقافة الروسية محظوظة جداً (والأدب بالطبع)، فقد نمت على السهول المتسعة المجاورة للشرق والغرب في الشمال والجنوب».
أما العامل النفسي فيرتبط بوجود شعوب شرقية ومسلمة في عداد روسيا، وقد صارت هذه الشعوب جزءاً لا يتجزأ من تاريخها.
ومنذ العهود الأولى لروسيا المسيحية شغف الجمهور الروسي, قراء ومستمعين, بالأدبيات العربية, مثل "حكايات بوداسف" ( منذ القرن 11 للميلاد على الأقل) و"كليلة ودمنة" (القرن 13 م) و"حكايات السندباد" و"حِكَم لقمان" (القرن 16م) و"حذاء أبي القاسم الطنبوري" و"ألف ليلة وليلة" (القرن 18م).
أما في أواخر القرن الثامن عشر والقرن التاسع عشر, وبتأثير المد الرومانسي الذي اجتاح أوربا, فصار الشرق عامة, والمشرق العربي-الإسلامي خاصة, قبلة كثير من الأدباء والمفكرين الروس, الذين راحوا يذودون عنه, ويتغنون به, ويتمثلون قيمه, ويستلهمون تراثه.
ولم يقتصر ذلك على ما هو معروف نسبياً من مؤثرات شرقية, لا سيما عربية, على مشاهير أدباء روسيا وشعرائها, أمثال بوشكين وليرمنتوف وتولستوي وغوركي. ففي ذلك الحين غدت "الحكايات الشرقية" من أقرب الألوان الأدبية إلى نفوس مثقفي روسيا. ومما له دلالته هنا أن ترجمة "ألف ليلة وليلة", والتي صدرت في 12 مجلداً مابين عامي 1763 و1771, قد أعيد طبعها أربع مرات خلال الأربعين عاماً المنصرمة بعد ذلك, وأنه في عام 1888 نقلها كازادايف شعراً إلى الروسية, فجاءت في حوالي 72 ألف بيت! [3].
هذا الولع بالشرق هو الذي يفسر لنا وقائع بالغة الدلالة, ربما لا يعرفها الكثيرون منا: بيت الشعر العربي المنقوش على قبر أديب روسيا الكبير تورغينيف (1818-1883), والأشعار العربية التي اعتاد الأديب والديبلوماسي الروسي البارز غريبايديف (1795-1829) تطريز كتاباته بها, وشخصية ناظر المدرسة في بلدة نائية والذي أمضى حياته كلها في جمع المواد المتعلقة بتاريخ العباسيين وذلك في رواية ليسكوف (1831-1895) المعروفة "لا ملجأ", "نيكودا" وغيرها[3].
الشاعر الروسي ألكسندر بوشكين سماه مكسيم غوركي: "بداية البدايات في الأدب". وهو أعظم شاعر في روسيا فهو شاعر الحرية. كما سماه الناقد الروسي الكبير بيلينسكي "موسوعة الحياة الروسية".
بوشكين هذا [ 5, 13] اهتم بالقرآن وأعجب به بل شغف به شغفاً عظيماً. ومن فرط إعجابه به تأثر بآياته وبسيرة وشخصية النبي العربي محمد (ص). وقد تأثر الشاعر بأفكار الإسلام التي تدعو للحرية وللعدالة والمساواة ومقاومة الظلم [5]. وربما تكون «محاكاة القرآن» من أهم أعمال بوشكين من وجهة النظر الفكرية والجمالية.
أقسم بالشفع و بالوتر ،
أقسم بالسيف و بمعركة الحق ،
أقسم بنجمة الصبح ،
أقسم بصلاة العصر .
كلا ، أنا ما هجرتك .
فمَن إذن شملتُ برعايتي ،
و أنزلت السكينة عليه ،
و حميته من المطاردة القاسية .
ألستُ أنا الذي سقيتك
من ماء الصحراء في يوم العطش ؟
ألست أنا الذي وهبت لسانك
سلطاناً عظيماً على العقول ؟
كُنْ شجاعاً إذن ، احتقر الخداع ،
اتبع درب الحق بهمة عالية ،
أحبب اليتامى ، و بشر بقرآني
للمخلوقات الضعيفة .
يا نساء النبي الطاهرات ،
يا مَن تتميزن عن كل النساء :
بالنسبة لكنَّ مرعب شبح الخطيئة .
في ظلِّ الطمأنينة الرغيد
عِشْن بتواضع : وجب عليكن
حجاب الفتاة العازبة .
و لتحفظنَ قلوبكن وفيةً
لأجل التنعّم شرعاً و حشمة ،
و لكي لا ترى عيون الكفار
الماكرة وجوهكن !
و أنتم ، يا ضيوف محمد ،
حين تتوافدون للسهر عنده ،
احرصوا على ألا تعكروا
النبي بشؤون دنياكم .
عند تحليق أفكاره بالصلوات
هو لا يحب المتحذلقين
و الكلام الفراغ غير المحتشم :
اكرموا مائدته بوداعة
و بانحناء عفيف
لزوجاته الشابات .
وقد قرأ بوشكين "ألف ليلة وليلة" وسحرته حكاياتها المليئة بالخيال وانعكس ذلك في ملحمته الشعرية "روسلان ولودميلا" وفي قصيدة "البلسم".وقد استخدم في هذه القصيدة كلمات عربية كثيرة مثل: الطلسم أو الطلسمان وقد دخلت اللغة الروسية مثلها مثل عشرات الكلمات الإخرى. كما كتب قصيدة جميلة من وحي "مجنون ليلى" بعنوان "ليلى العربية المتعالية". وله قصيدة [5, 71] بعنوان "محاكاة العربي":
فتى لطيف, فتى جذاب
لا تستحي, فأنت لي من زمان
ففي روحينا نار ملتهبة
ونعيش حياة واحدة
إني لا أخشى السخرية
فلقد اندمجنا معاً
تماماً كما فلقتي الجوزة
في قشرة واحدة
وقد كتب هذه القصيدة عندما كان منفياً في الجنوب في أوديسا الواقعة على البحر الأسود وهناك تعرف على بحار مصري ونشأت صداقة بينه وبين هذا العربي المصري الذي كان يتردد على ميناء أوديسا.
ومن أعظم قصائده قصيدة "النبي". وهي من أهم القصائد التي تعكس تأثر بوشكين بالقرآن وبسيرة الرسول العظيم محمد (ص).
زمن الجدير بالذكر أنه في عام 1880 في أثناء تدشين النصب التذكاري لبوشكين في موسكو (تمثال رائع) ألقى الروائي الشهير فيودور دوستويفسكي قصيدة (النبي) هذه مكتفياً بها. وقد قرأها بانفعال شديد وهذا ما يؤكد أنهاكانت قصيدة ثورية في حينها خاطب بها بوشكين ومن بعده دوستويفسكي الجماهير الجائعة من أجل الثورة. وله قصائد أخرى مثل: "المغارة" وهي من وحي السيرة النبوية.
ويعتبر تأثر بوشكين بالثقافة العربية والإسلامية نموذجاً للأدباء الروس. ولذلك من المفيد التوقف عند أهم الأسباب التي أدت إلى اهتمام بوشكين وانجذابه إلى تللك الثقافة وخاصة منها القرآن:
1)      إن اهتمام بوشكين بالثقافة العربية والإسلامية هو جزء من الاهتمام الأوروبي والروسي بهما. لأن بوشكين كان يعرف جيداً مدى اهتمام اللورد بايرون وغوته وهيجو بالثقافة الشرقية –العربية- الإسلامية.
2)      هناك دوافع ذاتية تتعلق بأصول بوشكين الشرقية – الأفريقية – الإسلامية ونسبه يعود إلى جده إبراهيم هانيبال الذي ينحدر من عائلة أمراء في الحبشة.
3)      موهبة بوشكين العبقرية وقدرته على استيعاب الثقافات الأخرى. فقد قال بوشكين نفسه: " إن العرب ألهموا ملاحم العصور النشوة الروحية والرقة والحب ومناصرة الخير والبلاغة". [5, 260]
4)       الوضع الاجتماعي والنفسي والسياسي للشاعر. مثلاً كتب قصيدته "محاكاة القرآن" عام 1824 م وهو في قرية نائية صماء صغيرة تدعى "ميخايلوفسكي" حيث كان منفياً في الشمال.
في تلك الفترة قرأ القرآن وبرز له شخص الرسول العربي صامداً صابراً فوجد في آيات القرآن الملجأ والملاذ في ذاك المكان القصي البعيد وفي ذلك الزمان الموحش وربما هذا ما جعله يقول:
في المغارة السرية
في يوم الهروب
قرأت آيات القرآن الشاعرية
فجأة هدَّأت روعي الملائكة
وحملت لي التعاويذ والأدعية
ولقد أعطى الناقد الروسي المعروف بيلينسكي تقييماً رفيعاً لقصيدة "محاكاة القرآن" لبوشكين ووصفها بأنها: "الماسة البراقة في تاج بوشكين الشعري وإن هذه القصيدة تعكس روح الإسلام وجمالية الشعر العربي".
ويورد مالك صقور [ 5, 166] ملخص آراء النقاد الروس والسوفييت حول هذه القصيدة في النقاط التالية:
1-                نقل الجانب النفسي – الديني في القرآن.
2-                تمجيد الله والإقرار بقدرته.
3-                النزعة الإنسانية.
4-                فكرة الإله الجبار.
5-                نقل روح الشعر العربي الصافي.
6-                السيرة الذاتية للشاعر.
7-                عكس الجوانب الاجتماعية- الفلسفية.
8-      تصوير الجوانب الاجتماعية الموضوعية: العادات والتقاليد والأخلاق والواقع المعاش والحياة الاجتماعية والحالة الثقافية للعرب.
9-                الجوانب الجمالية والفنية الشاعرية.
10-    عكس وتصوير المضمون الأخلاقي للقرآن والذي يتضمن: المواعظ والإحسان والصدقات والمساواة والعدل والحب.
11-           نقل محيا الشعب العربي.
ويعد إيفان بونين ( 1870 – 1953 ) [6] من أعظم الأدباء الروس فقد نال جائزة نوبل للآداب عام 1933 واشتهر بشغفه بالشرق مما دفعه أكثر من مرة إلى زيارة بلدانه المختلفة ، حيث تعرّف على حياة شعوبها و على عادات أبنائها و تقاليدهم .. و قد انعكس إعجابه بالشرق و بأهله في أشعاره و في قصصه و مذكراته .. وله عشرات القصائد التي اختار لها عناوين عربي مثل: " ليلة القدر " ، " محمد في المنفى (الهجرة ) " ، " امرؤ القيس " ، " البدوي " ، ، " القاهرة " ، " القافلة " . و هذه بعض قصصه عن الشرق الأوسط : " الدلتا " ، " بحر الآلهة " ، " اليهودية " ، " ظِلّ الطير " ، " معبد الشمس " ، " صحراء الشيطان – كلها تحكي عن مصر ، لبنان ، فلسطين ، عن الخلود و لحظية الحياة .
أما القصائد " الإسلامية " فهي كثيرة جداً عند بونين لدرجة أنه لو لم تكن معروفة تفاصيل حياته اليومية و كينونته ، لكان من الممكن الاعتقاد أن هذا الأخير بين الكتاب الروس الكلاسيكيين العظام – لم يكن يفارق القرآن أبداً ، كما لو أنه كان يحمله معه في حقيبة سفره طوال حياته . بل إن الواقع هو كذلك . فقد كانت نسخة من القرآن بترجمة أ . نيكولاييف ( لقد تم التثبت من أنها نسخة صادرة في موسكو عام 1901 ) بالنسبة لإيفان ألكسييفيتش بمثابة واحد من أهم و أكثر الكتب المقروءة لديه . ففي القصائد ، المملوءة بنفحة الشرق الإسلامي ، نجد أن الشاعر الروسي كان يتبع القرآن بشكل مباشر ، و أحيانا كان يكرر آيات الكتاب المقدس للمسلمين . عدا ذلك ، إن بونين قد تابع بإحساس الوارث الشرعي الخاص تقاليد بوشكين و " محاكاته للقرآن " .
لقد سافر بونين في أرجاء الدنيا أكثر بكثير من جميع أولئك الشعراء . و رغم ذلك ، فإنه كان من جديد يلبي النداء القاهر و يعود إلى بلاد الإسلام ... لكن القصائد ، التي تم نظمها أثناء الرحلات أو التي ظهرت إلى الحياة عن طريق الذكريات ، كانت تخرج قبل كل شيء من الإحساس المباشر بالأرض و الهواء في البلدان المكتشفة ، المدن و البلدات ، الحدائق و الصحارى التي اغرم بها .
هنا مملكة الأحلام . على امتداد مئات الفراسخ
الشواطئ مقفرة عارية مالحة .
لكن الماء فيها – بلون الزمرد و السماء
و الحرير الأبيض أشد بياضاً من الثلج .
في حرير الرمال مجرد نبات الشيح الأزرق
يرعاها الله لأجل قطعان الغنم الرحّل ،
و السماوات هنا زرقاء لدرجة لا تصدق ،
و الشمس فيها – كما نار جهنم ، سَقر .
و في ساعة القيظ ، حين السراب المصقول
يُغْرِقُ العالمَ بأكمله في نوم عميق ،
في بريق لا نهائي ، خلف حدود الأرض الحزينة ،
يحمل الروح إلى حدائق الجنة .
و هناك يجري ، هناك يصب خلف الضباب
نهرُ كل الأنهار ، الكوثر اللازوردية ،
و لكل الأرض ، لكل القبائل و البلدان
يمنح الهدوء . اصبر ، صلِّ – و آمن .
ففي العشرات من قصائده نجد هذا المسيحي الارثوزكسي الغيور ، الذي يفاخر بأصوله الروسية النبيلة ، و قد استطاع أن يتقمص بالكامل شخصية المسلم ، الدرويش المتجول ، و الحاج إلى المقدسات. و تارة يتحول إلى مغنٍّ يتغنى بالهناء في أجواء الحريم ، و أحيانا أخرى إلى شاهد على خلق العالم من قبل الله و شاهد عيان على يوم الحساب العظيم.
ففي بعض القصائد ، مثل " ليلة القدر " ، " تسبيح " ، " الحجر الأسود للكعبة " ، " المقام المقدس " ، " أبراهام . القرآن ، السورة السادسة ) ، " إبليس و الإله " ، " الطير " ، محمد في المنفى " ، " الفقير " ، " الخالد " ، " عرش سليمان " ، " الحجيج " ، " يوم الحساب " و في مجموعة أخرى من القصائد المكتوبة في أعوام مختلفة ، نجد أن الشاعر الروسي يتحول إلى روحاني إسلامي متحمس ، بل و يظهر كمتصوف حقيقي .. و تعتبر قصيدة " السر " من عيون الكنوز الشعرية عند بونين [6]، تلك القصيدة المرفقة باقتباس من القرآن : " آلم .. " .
زفر على المِدية – و إذ بشفرةِ
خنجرهِ السوري
تلمع في الدخان الأزرق :
و في الدخان لمعت بوضوح أكبر
على الفولاذ رسوم ذهبية
محفورة بزخرفة من ذهب .
" باسم الله و النبي ،
اقرأ ، يا عبد السماء و القدر ،
نداءك المهين : قل ، بأي
شعار قد زُيِّن خنجرك ؟ "
قال هو : " شعاري رهيب .
إنه – سر الأسرار : ألف . لام . ميم " .
" ألف . لام . ميم ؟ و لكنها إشارات مبهمة
كما الطريق في ظلمة الحياة الآخرة :
أخفى سرّها محمد ... "
" اصمت ، اصمت ! – قال بحدة –
لا إله إلا الله ،
أكثر الأسرار بأساً – لا سّر اكبر " .
قال ، لامس بالسيف ذو الحدين
الجبين تحت عمامة الحرير ،
و ألقى على أتميدان القائظ
نظرة فاحصة كسولة كطير جارح –
و أخفض رموشه الزرقاء الهادئة
من جديد على السيف ذو الحدين .
كما إن قصائد بونين الكثيرة في الغزل هي الأخرى حسنة ، و التي تبرز فيها الحان و صور إسلامية . مثلاً ، قصيدتان عن الحسناء – اليهودية صفية ، زوجة الرسول . في إحداهما ، الثمانية الرائعة و التي تسلب شغاف القلب ، نجد كيف أن النبرة الدنيوية ، الخفيفة بعض الشيء ، تتحول فجأة إلى احتفالية :
صفيّة ، و قد استيقظت ، راحت تجدل بيد
زرقاء ماهرة خصلات الجدائل السود :
" الكل يعيرني ، يا محمد ، باليهودية " –
تتكلم عبر الدموع ، و دون أن تمسح الدموع .
محمد ، وهو ينظر مع ابتسامة ساخرة و بحب ،
يجيب بوداعة : " قولي لهم ، يا صديقتي :
أبراهام – أبي ، موسى – عمي ، و محمد - زوجي ".
واعتبر بونين " الديانات السماوية " الثلاث ديانة واحدة ومع ذلك فقد استطاع أن يشعر بخصوصية الإسلام.
و قد ظلَّ بونين حتى نهاية عمره يحلم بذلك التمازج الساحر بين الحكاية الشرقية و الحياة المنفتحة و كانت تدعوه باستمرار إلى السفر :
الصحراء في ضوء خافت ، ملتهب .
و خلفها – ظلمة وردية .
هناك مآذن و مساجد ،
و قببها المزخرفة .
هناك صخب النهر ، السوق المسقوفة ،
حلم الأزقّة ، ظلال الحدائق –
و ، هي تغفو ، تفوح بالعسل
على الأسطح أوراق الزهور .
و في مصر ، عند هرم خوفو العظيم ، و هو يلمس " الأحجار ، التي هي ربما من أقدم الأحجار التي اقتطعها البشر " ، عاش بونين إحساس الاتحاد الأخوي مع ذلك الأسير العربي المجهول ، الذي شيّد هذه الأحجار . إن هذه المشاركة الوجدانية مع الماضي قد ألهمت أفكاره بخصوص مسيرة التاريخ ، دافعة إياه إلى التفكير حول أسباب انهيار الحضارات و حول سبل التطور الإنساني . اليوم ، في هذا الزمن الصعب الذي يعيشه الشعب الروسي ، و دولته و ثقافته ، فإن بعض صور بونين تبدو كما لو أنها نبوءات حقيقية ذات قيمة لا تزول . لقد جذبت بونين مساعي الإسكندرية القديمة " لأن تتحول مركزاً لجميع الديانات و جميع المعارف القديمة و التاريخية " . لقد أعجب بالشعب المصري العريق ، الذي " لم يعرف مثيلاً له لا في العمل ، لا في تشييد الآثار ، لا في المعارف ، و لا في الأخلاق ، و لا من حيث الشجاعة ، التي كانت تتواجد إلى جانب تواضع جم و ثقافة مدهشة بالنسبة لعصره " . كما أدهشته إنسانية هذا الشعب ، الذي " لم يعرف عبودية المرأة " ، " و كان يقدس الحياة بكل أشكالها و تظاهراتها " ؛ كما كان يقدّر عالياً الخير ، الذي اصبح " الحجر الأساس في عقيدته و في جميع تشريعاته اليومية " .
أما في تركيا ، في مدينة استنبول المعاصرة للكاتب ، فقد كانت مدعاة للسعادة عند بونين الحرية و العيش المسالم المشترك للشعب المكافح من مختلف القوميات.
لم يكن الكاتب العظيم يطيق الاستعمار و لا العنصرية نهائياً .
يُعتَبر الشاعر نيقولاي سيميونوفيتش تيخونوف ( 1896 – 1979 ) أحد أهم الشعراء . و قد تحول ولعه بالشرق إلى شغف عميق ملأ حياته بأكملها . و في الستينيات من القرن العشرين ، و أثناء زيارة له إلى إحدى بلدان هذا الشرق طرح عليه أصدقاء الكلمة سؤالاً فيما إذا كان يعرف شيئاً عن ليلة القدر . هكذا بدأ اهتمام الشاعر السوفييتي تيخونوف بهذه الليلة المقدسة . و لقد وجد ذلك تعبيراً له في قصيدته الرائعة " الإسلام " .
لكن الشعر الروسي الكلاسيكي عرف قصيدة تحت نفس العنوان لآخر الأدباء الروس الكلاسيكيين ، الشاعر و الكاتب و الرحالة المعروف إيفان بونين [6]، الذي قدّمَ لقصيدته " ليلة القدر " بآية من ذات السورة القرآنية :
" و تنزّل الملائكة و الروح فيها بأذن ربهم ... "
إنها ليلةُ القدرِ . تلاقتِ الجبالُ و اتحدتْ ،
و صعدت ذراها نحو السماء .
كبّرَ المؤذّن . و قطعُ الجليدِ ما زالت حمراء .
و لكن صقيع الظلام قد بدأ يتنفس في الثغور و الوهاد .
إنها ليلة القدر . و الغيومُ ما فتئت تهبط
و تتشتتْ على سفوح الجبال المظلمة .
كبّرَ المؤذِّن . و النهرُ الماسيُّ يجري
أمام العرش المعظّم ، و هو يتبخّر .
و جبريل – دون أن يُسمَع أو يُرى –
يلفّ العالمَ النائمَ . ربي ، باركْ
الدربَ الخفيّة للحج المقدس
و امنحِ الأرضَ ليلة من السلام و المحبة !
إن هذه القصيدة الممتلئة بالبهجة و الإعجاب ، بالحب و بالجمال و بالأمل ، إنما تنبع من قلب نضر حي ينبض بالربيع الباكر . بينما نجد أن ليلة القدر المقدسة قد استدعت أحاسيس أخرى عند الشاعر ألكسندر كوسيكوف . ففي قصيدته " ليلة القدر " ، التي يصف آول شركسي في منطقة كوبان لا توجد تلك اللوحة الشاملة للعالم كما هو الحال عند إيفان بونين . إلا أنه بالنسبة لكوسيكوف أيضاً ، الذي صوّر جذموراً قديماً في دغلة صغيرة ، فإن حلول ليلة القدر إنما يعني إمكانية ازدهار و تفتح جديد . " ينتظرنا بياض آمال جديدة " .
و هنا أورد ترجمة لمقاطع طويلة من قصيدة نيكولاي سيميونوفيتش تيخونوف الفريدة . و هي بعنوان " الإسلام " :
... إلاّ الله .
شفاهي – حق و حساب !
لكم – البشر ، لكم – الغيوم ، لكم – وحوش الصحراء .
أبوه – جمل بأسنمةٍ كالدخان .
أمّه ذات الشعر المتجعد الأخضر – نخلة في المدينة المنوّرة .
لقد اقتفيتُ آثار أقدامه .
و لكن قلبه – قطعة جمر ، و روحه – ضالة .
.....
و ابتعدتُ ، ابتعدتُ إلى حيث الريح و الطريق -
أ هو ، يا الله ، مَن سيكنس الظلام ؟
و إذ بالجملِ الماسيّ يشقُّ لي صدري بحوافره ،
و الكلبُ المقدس يَنبحُ : نعم ، هو .
ألِف ، لام ، ميم !
اِسمع :
ليلةُ القدر أكثر اخضراراً من الغابة ،
يا مَن دق البابَ عندي و القلبَ ؟
.....
تَعِبَ النخيل من هزّ الرؤوس نحو الشرق ،
النبات يصلّي ، و الأُسُود لا ترِدُ الماء –
ليس مائة قبلةٍ ، بل حقاً ثلاث مرات سآخذ
منك مائة مع أول نجمة ليلية ،
لكي تعود حياتي إليَّ
في ليلة القدر هذه .
و أنا قلتُ لذلك الشخص : " وقت " ،
هو الأكثر بأساً ...
شفاهي حق ، و شفاهي – حساب !
غداً سأنطلق في الدرب ،
لأنني جمّال أنا ، و الجمل ،
و الأرض ، و السماء فوقها ...
و يوم غد – كالسيف .
لتنامي ، يا زهرتي ،
فاليومَ سلامٌ – في الأرض و في المحيط .
اليومَ في ليلةِ القدر
يدخلُ الجنّةَ مع الأنبياء
حتى أشدّ المنبوذين بين الناس .
إن سورة " ليلة القدر " العظيمة ، و على الرغم من قصرها ، قد أعطت دفعة قوية لمثل ذلك الإلهام الشعري الرفيع ، و تسبب الإطلاع عليها بنشوء تيارات عميقة من الر ؤى و التصورات في الأدب الروسي.
ويمكن تلخيص اهتمام الروس بالثقافة العربية في عدة اتجاهات منها:
-       نشر تعليم اللغة العربية من خلال إنشاء مراكز وأقسام علمية في الجامعات الروسية مثل جامعة قازان وبطرسبورغ وموسكو وغيرها.
-       ترجمة ودراسة المخطوطات العربية في الرياضيات والفلسفة والفلك والفيزياء والطب وإصدار الفهارس والموسوعات في العلوم العربية والإسلامية. كما صدرت ترجمات عديدة للقرآن الكريم وما زالت تظهر ترجمات جديدة حتى الآن.
-       تأسست مدرسة الاستعراب الروسي على يد الأكاديمي كراتشكوفسكي وهو أكبر مستعرب روسي وهناك المئات من المستعربين المعروفين الذين قدموا خدمات جليلة للثقافة العربية لأنهم ترجموا ودرسوا ونشروا الثقافة العربية في المجتمع الروسي وتعاملوا معها بكل الحب والاحترام والموضوعية.
-       كما لعب دوراً هاماً في التواصل الثقافي العربي-الروسي اهتمام روسيا المسيحية بمهد المسيحية بلاد الشام وخاصة فلسطين وسوريا حيث قامت روسيا القيصرية بفتح مدارس دينية للعرب باللغة الروسية في لبنان وفلسطين وسوريا ومن الذين تعلموا في هذه المدارس الكاتب الكبير ميخائيل نعيمة.
-        وقد انتشرت الثقافة العربية والإسلامية في روسيا بفضل العلماء العرب الذين قدموا إلى روسيا منذ القرن التاسع عشر ووهبوا أنفسهم لمساعدة الروس في تعلم اللغة العربية وسماع النطق العربي من الناطقين بها وكان لذلك أثر عظيم كتب عنه المستعرب الكبير الأكاديمي كراتشكوفسكي [3] ومنهم نذكر الشيخ المصري عياد الطنطاوي (عمل في بطرسبورغ) وأحمد حسين المكي (من مكة المكرمة عمل في قازان منذ 1852 م) ومحمد عطايا ومرقص (في قازان) وكلثوم عودة-فاسيليفا (من فلسطين تزوجت من ضابط روسي وقدمت معه إلى روسيا في نهاية القرن التاسع عشر وعملت في موسكو) وغيرهم الكثير.
-       ولا ننسى أن المكتبات الكبرى في قازان وبطرسبورغ وموسكو وداغستان وفي طشقند وبخارى وغيرها من المدن الروسية والسوفييتية (سابقاً) تحتوي على مئات الآلاف من المخطوطات العربية المتنوعة ومنها ما هو نادر.
أغناطيوس كراتشكوفسكي (1883-1951) ومدرسة الاستعراب الروسية:
وعند البحث في دراسة العلوم العربية في روسيا نلاحظ أن البداية كانت على أيدي مستعربين أتقنوا اللغة العربية ولكنهم غير مختصون بالعلوم الدقيقة كالرياضيات وغيرها مما أدى إلى التركيز على العلوم الإنسانية (الأدب والشعر العربي والجغرافيا والإسلاميات ) من القرن العاشر حتى أواسط القرن العشرين. وقد كانت بداية مدرسة الاستعراب العلمي في روسيا على يد يوشكيفيتش من خلال عمله الرائع: الجبر عند عمر الخيام [4].
بدأت أولى الأعمال الروسية في مجال الاستعراب في القرن 18 م بناء على مبادرة من القيصر بطرس الأول, الذي زار بنفسه أنقاض مدينة بولغار على ضفاف الفولغا وأعطى توجيهاته بنسخ بقايا الكتابات العربية المحفوظة هناك, وتم نشرها جزئياً فيما بعد. وقد لعب دوراً هاماً في تطوير الإستعراب الروسي ,في تلك الفترة, الكاتب المعروف أ.كانتيمير (1673-1723) والذي أسست أول مطبعة بالحرف العربي بفضل مبادرته وفي عام 1716 م صدرت في روسيا أول ترجمة كاملة للقرآن الكريم باللغة الروسية [4]. كما أنشئت, بتوجيه من القيصر بطرس الأول, أولى مدارس الترجمة للمستعربين. أما في النصف الثاني من القرن 18 م.فقد دخلت اللغة العربية في مناهج المدارس الثانوية في بعض المدن الروسية (مثل استراخان).
وقد كانت قازان وبطرسبورغ وموسكو أهم مراكز الاستعراب الروسية منذ القرن الثامن عشر. وبداية كانت جامعة قازان هي الأولى حتى أمر القيصر بإغلاق مركز الدراسات الشرقية في جامعة قازان ونقله إلى بطرسبورغ عام 1854 بحجة تجميع النشاط العلمي في مركز واحد قريب من العلماء حيث أن قازان بعيدة جداً عن المركز وقد تكون هناك أسباب أخرى. وأنشيء سنة 1951 في بطرسبورغ المركز الآسيوي للدراسات الشرقية.
ومن أبرز العلماء الروس المستعربين نذكر حسب التسلسل الزمني:
خ. فرين , دورن , ي. غوتفالد , بولديريف, سينكوفسكي, كاظم بيك , ف. ر. روزن , ف.ف. بارتولد , أ. ي. كراتشكوفسكي , ت.أ. شوموفسكي , أ. ب. يوشكيفيتش , ب.أ. روزنفيلد , غ.ب. ماتفييفسكايا , غ.د.مامدبيلي , غ.د. جلالوف ,م.ي. ميدفوي , م.م. روجانسكايا وغيرهم.
وأخيراً أود أن أدعو جميع الباحثين والقائمين على شؤون التراث العربي والإسلامي أن يولوا اهتماماً جدياً بهذا الكنز من المخطوطات العربية المحفوظة في مكتبات روسيا وأن يساعدوا على دراستها وتحقيقها.

المراجع

الموسوعة الالكترونية العربية

التصانيف

أدب  مجتمع