عصام تليمة

 

رأينا نماذج واضحة على نقد حسن البنا الإخوان نقدا معلنا، وقيامه بمراجعات مهمة لمسيرة الجماعة وأفكارها، وقام مرشد آخر بنقد البنا والإخوان، نقدا معلنا وصريحا، فقد قام حسن الهضيبي المرشد الثاني للإخوان بهذا الأمر أكثر من مرة، وقد بدأ الهضيبي نقده عندما كتب البنا رسالته (مشكلاتنا في ضوء النظام الإسلامي)، وكانت مقالات في بادئ الأمر، فعلق الهضيبي على إحدى المقالات، فنشر البنا نقده قائلا: (كتب إلينا المستشار الفاضل، والقانوني البارع الأستاذ حسن بك الهضيبي الخطاب التالي:

حضرة صاحب الفضيلة المرشد العام الأخ الشيخ حسن البنا. السلام عليكم ورحمة الله. وبعد:
فقرأت اليوم مقالكم الثاني (ألا هل بلغت؟ اللهم فاشهد) وقد استوقفني منه عبارة جاءت في مقام الرد على اعتراض فرضتموه ممن يجهل حقيقة الإسلام، وما فيه من مرونة في الأحكام تتسع لما يجد من الأحداث، ومؤدى هذه العبارة: أن تاريخ التشريع الإسلامي يحدثنا أن ابن عمر رضي الله عنه كان يفتي في الموسم في القضية من القضايا برأي فيقال له في ذلك، فيقول: ذلك على ما علمنا وهذا على ما نعلم. إلخ.

كما يحدثنا أن الشافعي رضي الله عنه وضع بالعراق مذهبه القديم، فلما تمصر وضع مذهبه الجديد، نزولا على حكم البيئة، وتمشيا مع مظاهر الحياة الجديدة، من غير أن يخل ذلك بسلامة التطبيق على مقتضى القواعد الإسلامية الكلية... إلخ

وقد يتوهم متوهم من هذه العبارة أن ابن عمر والشافعي رضي الله عنهما، أخضعا حكم الدين لأحكام الزمان! ومعاذ الله أن يكون الأمر كذلك، فإن أحداث الزمان يجب أن تخضع لكتاب الله وسنة رسوله، مهما تراءى للناس أن الدنيا لا تحتمل الإخضاع، فالدين هو السنة التي وضعها الله للناس، كما وضع السنن الكونية الأخرى للشمس والقمر والحيوان والنبات وكل ما في السماء وما في الأرض وما عليها.

وفي ظني أن ابن عمر لم يغير فتواه نزولا على حكم الحوادث، بل لأنه ازداد بصرا بحكم الدين في المسألة، لذلك قال: ذاك على ما علمنا، وهذا على ما نعلم. كما إني أظن من استقراء سابق لي بسبب تغير رأي الشافعي بين قديمه وحديثه، أنه حين جاء إلى مصر سمع من رواة الحديث بمساجد الفسطاط ما لم يكن قد سمع بالعراق فأقام عليه رأيه الجديد، وكان رضي الله عنه يقول: إذا صح عندي الحديث فهو رأيي.

هذا ولا منازعة في أن على المسلمين أن يجتهدوا في استنباط أحكام لم تكن من قبل لحوادث لم تكن من قبل، بل لكل مجتهد أن يستنبط ما يهديه الله له من أحكام الدين لجميع الحوادث جديدها وقديمها، وهذه هي المرونة التي جعلها الله من خصائص الدين الإسلامي، ولله الحمد والمنة.

فبودي أيها الأخ الكريم لو أعدت النظر في هذه الجملة بما يزيل الشبهة، أو لعلي مخطئ وأنتم بذلك أعلم مني بلا ريب.

ولقد كنت أود أن أفضي إليكم بهذا الحديث في زيارة، لولا أن انحراف صحتي في الأسبوع الماضي لا زال منه بعض الأثر، وأسأل الله تعالى أن يعينكم، وأن يهدي أمة محمد إلى العمل بكتاب الله، وسنة رسوله. والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

من المخلص: حسن الهضيبي.


فعقب حسن البنا قائلا: وإنا لنشكر لحضرته هذه الغيرة الجليلة على دين الله، والدقة الجميلة في البحث والتمحيص، وجميل جدا أن نرى في كبار رجال التقنين المصريين من يحمل مثل هذا القلب المؤمن، والذهن الصافي المستنير، مع الدأب على الدرس والإلمام بكل أطراف الموضوع. فجزى الله الأستاذ حسن بك الهضيبي عن الدين والحق والعدالة خير الجزاء، وأكثر فينا من أمثاله، وما ذكره في خطابه حق لا شك فيه، والذي أردته بكلمتي هو الإشارة إلى أن من مرونة التشريع الإسلامي أن العرف والاجتهاد قاعدتان من قواعده فيما لا نص فيه، أما حين يكون النص فلا اجتهاد معه طبعا. حسن البنا). انظر: جريدة (الإخوان المسلمون) اليومية السنة الثانية العدد (488) الصادر في 21 من محرم سنة 1367هـ ـ 4 من ديسمبر سنة 1947م. ص 3.

فهذا نموذج لا مرية فيه، واضح في انتقاد حسن الهضيبي لحسن البنا في فكرة غمض معناها، فبادر البنا بنشرها، لأن بها فائدة تعم على الجميع، كما أن رأيه الذي انتقده فيه الهضيبي منشور، فكان من الواجب نشر ما ينتقده عليه المنتقدون، وقام حسن الهضيبي كذلك بنقد الإخوان كجماعة عندما تولى مسؤولية المرشد، وهو ما نجليه في مقالنا القادم إن شاء الله.

المراجع

arabi21.com

التصانيف

أدب   العلوم الاجتماعية