على الفلسطينيين أن يفهموا وفي أعمق أعماق وعيهم بأنهم شعب مهزوم"، هذا ما كان يقول به موشيه يعالون رئيس هيئة الأركان الإسرائيلية عام 2002، وهو بهذا كان يعيد تكرار مقولات فلاديمير جابوتنسكي، أحد أهم آباء الصهيونية الحديثة في عشرينيات القرن الماضي. جابوتنسكي ابتدع نظرية "الجدار الحديدي" التي أسست للعقيدة العسكرية الصهيونية في العقود التالية. بحسب هذه النظرية لا يمكن هزيمة الفلسطينيين والعرب إلا من خلال القوة العسكرية الماحقة والتي تمثل جدار الحديد في وجه مقاومتهم، فكلما يحاولون مواجهة إسرائيل يدميهم ذلك الجدار. وبعد أن ييأسوا جراء محاولاتهم البائسة والثمن الذي يدفعونه، وبعد ذلك فقط، فإنهم سيستسلمون. بالدعم الغربي العسكري والاقتصادي اللامحدود لقيام دولة إسرائيل نجحت تلك النظرية في تحقيق أهداف عدة لإسرائيل، أهمها إنهاء الصراع العسكري لصالحها مع العرب. بيد أنها لم تنجح في تحطيم إرادة العنصر الأهم في الصراع: الفلسطينيين. إيهود باراك، وزير الدفاع الإسرائيلي الحالي، يعلم ذلك و"يتفهمه". فقد سُجل عنه تصريح شهير في آذار 1998 قال فيه إنه يتفهم رغبة الشبان الفلسطينيين في الانضمام إلى منظمات المقاومة "المتطرفة"، وانه لو كان ولد فلسطينيا وعاش الظروف الفلسطينية المأساوية لما اختار أن يكون معلما في مدرسة، وأنه كان سينخرط في تلك المنظمات. باراك نفسه يقود الآن نظرية "الجدار الحديد" ضد الفلسطينيين في قطاع غزة، ويريد أن يدميهم ويؤلمهم حتى يقتنعوا بأنهم شعب مهزوم.
هناك حاجة هذه الأيام للتذكير ببعض الأساسيات التي لا تزال تتحكم في عقيدة التفكير الإستراتيجي السياسي والعسكري الإسرائيلي. فرغم أن العرب وبشكل جماعي نحوا جانبا الخيار العسكري، ولم تعد إسرائيل بحاجة إلى جدار حديدي، ورغم أن الفلسطينيين قبلوا بأقل من ربع أرضهم التاريخية يُعاد لهم لإقامة دولة عليه، إلا أن إسرائيل لا تزال تصلب في جدارها الحديدي وتنقله من نقطة إلى أخرى باتجاه إبادات جديدة. هذا هو جوهر الحرب الجديدة على قطاع غزة والباقي تفاصيل. ما تريده إسرائيل هو تحطيم إرادة الفلسطينيين، وإذلالهم، وإجبارهم على السير في شوارع الاستسلام عرايا. لا تريد استسلاماً فيه قدر من حفظ ماء الوجه، تريد استسلاماً مهيناً. هي لا تريد أوسلو رغم كل تنازلاتها، لأن الفلسطينيين يظهرون فيه مستسلمين بربطات عنق، تريد أبعد من ذلك، استسلاماً عارياً. رغم تنازلات مدريد وأوسلو التي مضى عليها ما يقارب العشرين سنة، الجدار الحديد ما زال يحطم كل أمل في قيام دولة فلسطينية في الضفة الغربية قبل أن يكون في قطاع غزة. حجم الاستيطان وعدد المستوطنين تضاعف ثلاث مرات من تاريخ أن وقعت القيادة الفلسطينية على اتفاقات أوسلو التي وعدتهم لفظاً بتحقيق دولة لهم. الجدار الحديد تمثل عملياً وفعلياً، ولم يبق نظرية أيديولوجية، وصار جدارا على الأرض يمثل جماع العنصرية والأباراتهايد في عالم اليوم.
في الضفة الغربية حيث لا توجد صواريخ "حماس" ولا تطلق رصاصة على جندي إسرائيلي ويمسك بالسلطة طرف فلسطيني في غاية الاعتدال، يتغطرس الاحتلال كما يريد: إذلال دائم للفلسطينين (ولقيادتهم)، مئات الحواجز، طحن يومي، تحكم حتى في الهواء المُتنفس، وإفشال لكل ما تحاول حكومة فياض أن تقوم به، وهي الحكومة التي تقول إسرائيل إن على الفلسطينيين أن يقيموا نظيراً لها في غزة. يتفق الفلسطينيون مع إسرائيل على نزع سلاح المقاومين في الضفة الغربية مقابل أن يعيشوا بسلام، فما أن يسلم المقاومون سلاحهم ويوقع المفاوض الفلسطيني على الاتفاق حتى تبيدهم إسرائيل واحداً واحدا، غدرا بالمقاومين وإهانة للقيادة. هذا يحدث في الضفة الغربية حيث لا صواريخ ولا مقاومة. وهذا ما تريده إسرائيل: احتلال نظيف وهادئ، من دون ضجيج أو حتى تشاكٍ. مشكلة قطاع غزة أنه يحتج على الاحتلال، ويصرخ ويحدث ضجيجاً مدوياً يشير للعالم أن هنا احتلالا بشعا. حرب إسرائيل تريد أن تقضي حتى على هذا الضجيج وتسكت المتشاكين. عليهم أن يقبلوا واقع الاحتلال، والحصار، والإهانة، والتجويع، بصمت ... وهدوء، وينتظروا اللاشيء!
هناك حاجة إلى التذكير بهذه الأساسيات لأن أصواتاً عربية كثيرة تحمل الفلسطينيين و"حماس" تحديداً مسؤولية الحرب، وتأخذ شكل الحياد البارد في وقت تواصل فيه آلة الدمار الإسرائيلية إبادة الفلسطينيين في قطاع غزة. عندما تشرع إسرائيل في أي من حروبها أو اعتداءاتها ليس هناك ترف للحياد السمج. هناك طرف معتدٍ بوحشية وطرف معتدى عليه بوحشية. عند "حماس" خلال السنوات الثلاث الماضية قائمة طويلة من الأخطاء، لكن التذرع بها الآن لتسويغ الحرب الإسرائيلية حتى من قبل بعض الأطراف العربية هو موقف غير إنساني، ناهيك عن أن يكون وطنيا أو قوميا أو ما سائر ذلك. الموقف الإنساني الحي بوصلته معروفة وهو معادٍ للوحشية الإسرائيلية وللاحتلال الإسرائيلي ولجدار الحديد الإسرائيلي الذي يُراد أن يفرض على كل فرد فلسطيني. من لا يرى الغضب العالمي الذي يجتاح مدن العالم احتجاجاً على حرب الإبادة الإسرائيلية ضد الفلسطينيين في قطاع غزة فهو بالتأكيد لا يرى شيئاً. إن كان ساسة الغرب ما زالوا لم يغادروا مربعات العنصرية عندما تتعلق المسألة بقرار يناصر الضحية الفلسطيني أو العربي، فإن ضمير الشارع الغربي يتحرك للظلم ويصرخ في وجه المعتدي. على الأصوات العربية "المحايدة" ان تتجاوز غيظها المتصاعد ضد "حماس" وتنظر إلى الفلسطينيين وإسرائيل، فهذه حرب ضد فلسطين والفلسطينيين وليست ضد "حماس" فحسب. هي استمرار للحرب المعلنة الصامتة ضدهم في الضفة الغربية وفي داخل الخط الأخضر وفي كل مكان. يريد الجدار الحديد أن يمحق ويذيب الفلسطينيين، وهم يقاومون ذلك. كل الرطانة الإسرائيلية حول توجيه الحرب ضد "حماس" فقط، وأن إسرائيل مستعدة لهذا الحل أو ذاك بما يريح الفلسطينيين هي رطانة فارغة ولا تساوي شيئاً. الدليل الأهم في ذلك هو، مرة أخرى، ما تقوم به في الضفة الغربية!
إن لم يكن منطق الوقوف ضد المعتدي، أو منطق التضامن الإنساني كاف للتأمل من قبل المحايدين، فعليهم أن يدركوا أن منطق السياسة والمصلحة الخاص بكل طرف محايد يشير إلى تراكم الخسارات. معسكر "المحايدين" سوف يخسر شعبياً، وشرعياً، وسياسياً، وينتهي إلى الوقوف على أرضية بالغة الهشاشة. لا أحد مُطالب بأن يحمل السلاح ويخترق الحصار على قطاع غزة ليقاوم إلى جانب المقاومين، فهذه يوتوبيا أصبحت من الماضي. لكن هناك مساحة واسعة من التسييس والمواقف الصلبة التي تساهم في ردع المعتدي. أو، هل نقل أن هذا أيضا حلم طوباوي وأن المطلوب من أطراف عربية عديدة هو فعلاً "الحياد"، لأن ما يحدث حقيقة وراء الستار هو الانحياز ومساندة المعتدي وليس الحياد وحسب؟
المراجع
odabasham.net
التصانيف
أدب مجتمع