أعادت مجزرة القوات الأميركية في "حديثة" إلى الأذهان مجزرة "ماي لاي" في فيتنام (آذار 1968) التي يؤرخ معها لبداية الانهيار الأخلاقي للتدخل الأميركي في فيتنام واتساع حركة الاحتجاج التي اجتاحت أميركا والعالم. منذ البداية رفضت الإدارة المقارنة بين فيتنام والعراق بل أرادت من دخول العراق أن يكون إعلانا عن تجاوز عقدة فيتنام، لكن التدخل في العراق لا يستدعي الآن النموذج الفيتنامي فحسب بل إنّ المقارنة تجعل التدخل في العراق خطأ أكثر فداحة سياسيا، ففي فيتنام كان المبرر أقوى بما لا يقاس. كانت هناك حرب كونيّة باردة وكان على الجيش الأميركي دعم حلفائه ومنع سقوط فيتنام الجنوبية بيد الشيوعية. فماذا فعل التدخل الأميركي في العراق؟
أصدقاء أميركا الوحيدون في العراق هم حلفاء طهران، العدو الأول لأميركا الآن، بعد إسقاط النظام الوحيد الذي يصدّ النفوذ الإيراني في المنطقة. وبدل القضاء على الإرهاب جعل الاحتلال من العراق مرتعا للإرهاب وقد كان ساحة خالية منه وممنوعة عليه.
بقيت المهمّة "النبيلة" بتحرير شعب العراق من الدكتاتورية، وها نحن وصلنا أن يقتل جنود الأميركيون عائلات عراقية بأطفالها ونسائها ثأرا لزميل لهم قتلته عبوّة ناسفة في المنطقة. وهذا يقول كل شيء عن نوع العلاقة بين قوّة الاحتلال والسكان.
الإدارة المحاصرة بالفضيحة تدافع عن نفسها بطريقة بائسة، لكن علينا أن نتذكر أن الحادثة صارت شيئا فقط بعد إعادة روايتها من الصحافة الأميركية، فالخبر نشرته صحف ووسائل إعلام في حينه، وكم من حوادث متفرقة قد لا تكون بالحجم نفسه، لكنها تنتمي لنوع العلاقة نفسها بين المحتلّين والمواطنين تمرّ دون ضجيج. الواقع أن الأمر أخذ هذا المنحى منذ الأسابيع الأولى للاحتلال، وفقط بعد افتضاح حادثةٍ ما تتخذ إجراءات محدودة جدا تطال كبش فداء أو اثنين.
في مذبحة ماي لاي التي ذهب ضحيتها أكثر من ثلاثمائة قروي وكتبت الوحدة العسكرية تقارير مزيفة عنها حوكم ضابط واحد. وفي فضيحة أبو غريب حوكمت مجندة واحدة. وأمس قرأنا انه قد تمت تبرئة المتهمين بمذبحة الإسحاقي التي قتل فيها 11 مدنيا بالرصاص بينهم أطفال ثم تم نسف البيت وقصفه بالطائرات، وقيل إن الجنود تصرفوا بطريقة صحيحة في مواجهات، وقد يكون السبب عدم وجود شهود على الحادثة، وسنرى ماذا سيفعلون بشأن "حديثة" التي كذبت الوحدة العسكرية بشأنها، لكن الطفلة الناجية بفعل حيلة التظاهر بالموت روت كيف جرى قتل أهلها و أقاربها بدم بارد.
طبعا كل يوم يقتل بوحشية عشرات العراقيين من قبل ميليشيات مختلفة وجماعات إرهابية، لكن هؤلاء مجرمون مطلوبون أصلا للعدالة، والقانون والعدالة تمثلهما القوات النظامية الأميركية، فكيف يسمح المسؤول الأميركي لنفسه بالمقارنة قائلا إن ما يفعله الإرهابيون أكثر وحشيّة!
لن تربح أميركا الحرب، هذا الحكم القاطع قالته مادلين أولبرايت في الأول من أمس. لن تتمكن أميركا من إخماد النشاط العسكري، ولن تنفع "دروس الأخلاق" المقترحة في تغيير سلوك قواتٍ هي في اغلبها أقرب إلى المرتزقة المهددين بالموت في ارض غريبة. لقد بدأ العدّ العكسي لهذه المغامرة التعيسة.
المراجع
جريدة الغد
التصانيف
صحافة جريدة الغد جميل النمري