الدولة كائن حي، ينمو ويشب ويشيخ ويموت أيضا، ويخرج من التاريخ والجغرافيا ربما بضربة مدفع أو جرة قلم، والدولة كائن حي يملك قدرة على التجدد والبقاء والاستمرار الخلاق كلما استطاع اجتراح المزيد من عناصر القوة واستجاب لمنطق العصر، ولعل تجربة العقود الأخيرة في مسار التنمية والتحديث في جهات  العالم تفيد ان أكثر الدول والمجتمعات قدرة على التجدد هي التي استفادت من أزماتها وصراعاتها في الداخل والخارج، بمعنى تحويل بعض أنماط الأزمات أو الحراك السياسي أو القلق الاجتماعي الى قوة دافعة نحو المزيد من التقدم.
هذه الكيمياء السياسية الاجتماعية قد تفيد في حسم بعض الملفات المعلقة، أو القرارات التي تحتاج الى جرأة طالما كانت مؤجلة، أو تمنح القوة لتسمي الأشياء بأسمائها الحقيقية دون مواربة، بهدف الوصول الى نضوج فكرة الدولة في الخطاب والممارسة.
وهذا المطلب يدفع إلى الانتقال من منظور الحرج السياسي الى منظور الإدارة الحرجة للدولة ومؤسساتها أي الإدارة الدقيقة والكفؤة في مواجهة البيئات المضطربة والأزمات المتتالية والندرة، بالتوازي مع نفض الغبار عن منظومة قيم الدولة الكبرى وإعادة تعريفها وصياغتها؛ إذا ما جد الجد وتطلب الأمر إعادة غرسها أو تشريبها للمجتمع، وهذا ما يفسر قدرة دول تخرج من حروب ونكبات وأزمات أو حتى سجالات تاريخية قلقة أكثر قوة وقدرة؛ فهناك أمثلة شهيرة لمجتمعات ودول واجهت أزمات حادة استثمرتها من اجل امتلاك المزيد من أسباب القوة، وقطعت بفضل ذلك مسافات في تحقيق الذات في حين كان الاعتقاد يسود للوهلة الأولى انها  تسير نحو الهاوية.
في تاريخ الأزمات الفعلية والمصطنعة التي شهدتها الدولة (الأردنية) أو التي دار رحاها في الجوار، نجحت إدارة التكيف المرن في توفير العبور الآمن، ولكن مع تغير العالم من حولنا، وتبدل أنماط الأزمات، وتعدد مصادرها الداخلية والخارجية، أصبحت ضرورة التفكير الجدي بتغيير المنهج مسألة مصيرية في المنظور بعيد المدى.
نردد كثيرا مفهوم الثوابت الوطنية عبر الخطاب الرسمي وفي وسائل الإعلام، لكن بدون محتوى حقيقي واضح ومحدد، وبدون اشتغال معرفي ومجتمعي ينعكس في سلوك النخب والمؤسسات، ويؤثر بالتالي في وجدان الناس وفي آليات إصدارهم للأحكام واتخاذهم للمواقف.
خطاب الدولة يحتاج الى إعادة صياغة تُقدم للأردنيين في الداخل قبل الخارج وتجيب على الأسئلة الأساسية؛ ماذا نريد والى أين نتجه، وما هي المعايير العريضة لإصدار الأحكام. فمعايير تقدير الدولة للأمور من خلال عملية صنع السياسات والقرارات تختلف بالتأكيد عن معايير الأفراد، لأنها من المفترض عملية تصنعها مؤسسات ونخب، وليس فرد أو أفراد، وكلما تحولت المعايير الكبرى الى أدوات ومساطر في أيدي أفراد كلما تماهت الدولة وخبت قيمها وتقاليدها، وافتقد الناس القيم والمعايير التي يرجعون إليها في الحكم على الظواهر والأحداث والشخوص. 
لقد مرت مراحل متأخرة في عمر الدولة وصل فيها أفراد ليس فقط في أماكن صنع القرار المتقدم وعلى رأس وسائل إعلام ومؤسسات التنشئة، بل والى جانب ذلك في إدارات الصف الثاني لم يكن همهم أكثر من  تعميم حالة رمادية في الرؤية والمواقف والاتجاهات لما يخدم مصالح آنية وضيقة لا تليق بتقاليد الدولة وقيمها.
إذا كان التغيير من اجل الإصلاح الاقتصادي والسياسي والاجتماعي هو الأولوية الأساسية لضمان الاستمرار والبقاء في عالم ومحيط إقليمي معقد تحكمه منافسة قاسية وظروف صعبة، فإن خطاب الدولة يحتاج الى صياغة جديدة لإنقاذ مفهوم الإصلاح والتغيير مما شابهما من تشويه وريبة وعدم يقين  طوال سنوات ماضية؛ وهو التشويه الذي أسهمت فيه نخب متناقضة سواء بالممارسة أو بالخطاب المضاد.  
قيم الدولة ليست فيما يتم تكراره حول ما يسمى بالثوابت الأردنية، وكما هو معروف فان قيم الدولة هي نتاج مفهوم الدولة الوطنية وهي مزيج تاريخي من مخرجات العقد الاجتماعي والأطر التشريعية الناظمة للحياة السياسية ولعلاقات الأفراد والجماعات بالدولة، وعلى أساسها تبنى مفاهيم الهوية والسيادة والاستقلال والمواطنة. ولا يجوز لأي نخبة أو مجموعة أو حتى حكومة ان تمارس المناورة السياسية المحلية أو الإقليمية بالتعدي على هذه القيم، كما لا يجوز لأي تنظيم أو حركة ان تقفز فوقها، وأي دولة لا ترسخ هذه القيم كالأوتاد والجبال ستبقى معرضة للزلازل والهزات السياسية والأمنية ولا ينفعها منطق التحالفات ولا فرق المداحين والنادبين.
المهمة الأولى اليوم إنقاذ فكرة الإصلاح ومنهج التغيير من التشويه الذي طالهما؛ وتقديمهما للناس بخطاب واضح ومحدد ينطلق من جوهر فكرة الدولة الوطنية وسيادتها، بعيدا عن المرواغة والمناورة.

المراجع

جريدة الغد

التصانيف

صحافة  د.باسم الطويسي.   جريدة الغد