منذ ضرب مشروع محمد علي في سوريا والقوى الإقليمية تعمل على عزل مصرعن سوريا والمشرق العربي، فاقم ذلك فشل تجربة الوحدة السورية المصرية 1958 رغم أن عرب المشرق يعتبرون القاهرة عاصمتهم الحضارية منذ ثورة عرابي وسعد زغلول خاصة بعد أن عثرت على هويتها العربية إثر الحرب العالمية الثانية، وتنبهت لدورها في محيط أمتها.  تجلى ذلك واضحاً في تداخل مطالب مصر في الاستقلال مع القضية الفلسطينية حيث كشفت الوثائق البريطانية كيف أن الحركة الصهيونية بذلت جهوداً للحيلولة دون اتفاق بين مصر وبريطانيا على معاهدة جديدة تستقر بها الأمور في البلدين قبل أن تقوم الدولة اليهودية في فلسطين.
لقد كان اشتراك مصر في مؤتمر فلسطين 1938 نقطة تحول بارزة في سياستها، وأن المؤتمر انعقد على خلفية وقائع ثورة 1936 التي هزت فلسطين وما جاورها من البلدان العربية وكانت بحق ثورة شعبية قادهما مفتي القدس الحاج أمين الحسيني وعزالدين القسام وجمال الحسيني ورشيد الحاج ابراهيم وألفرد روك وراغب النشاشيبي وكثيرون من القادة الميدانيين أمثال الشيخ سليمان المحمود الذي كان لاجئاً في مخيم اليرموك في دمشق.
في تلك الفترة خطا الملك فاروق الشاب خطوته الأولى بدءاً من باريس التي كان الحاج أمين الحسيني مختبئاً فيها بعد أن هرب من العراق إلى إيران ثم تركيا فإيطاليا ثم ألمانيا حيث انتهت الحرب العالمية الثانية بخسارتها.  كان السفير المصري في باريس محمود فخري باشـا نسيب الملك يحاول العثور على الحاج أمين والتقاه فعلاً ليخبره بأن الملك فاروق يرحب به في مصر.  عندها استطاع مفتي القدس أن يتدبر أموره ويصل إلى مرسيليا ثم يستقل منها باخرة إلى الاسكندرية رغم محاولة عملاء الوكالة اليهودية خطفه،  وهكذا حلّ الحاج أمين الحسيني ضيفاً على الملك في مزرعته بانشاص، ثم دعا الملك نفسه إلى أول قمة عربية في المزرعة نفسها، وكانت بداية لأول عمل عربي مشترك يتصدى لما يجري في فلسطين.  في هذا المؤتمر رحب الرؤساء العرب بمفتي القدس حتى أن الملك عبدالله ملك الأردن لم يبد اعتراضاً في البداية رغم أنه قال بعدها عنه: إن هذا الرجل لم يظهر في بلد إلا وحلّت المصائب فيه.  تصدى لثورة فلسطين ففشلت الثورة، خرج إلى العراق فقامت فيه حركة رشيد عالي الكيلاني وضربها الانجليز، خرج إلى طهران فإذا رضا خان يفقد عرشه، وينفى إلى جنوب أفريقيا، ثم ذهب إلى إيطاليا فسقط موسوليني، وتوجه إلى برلين فإذا الجيش الألماني يهزم، وهتلر يضطر إلى الانتحار.  ورغم مافي هذا القول من التجني على المفتي إلا أن الملك فاروق سارع إلى الدفاع عنه قائلاً إلا أنه جاء إلى مصر ولم يحدث فيها شيء، لكن الملك عبدالله أجابه قائلاً: يابني لقد جاءتها الكوليرا.
منذ ذلك الوقت كان واضحاً التأثير العربي لمصر والذي أبرز يومها إرادةً عربية موحدة عبر ذلك عبدالرحمن عزام في حديثه مع المفوض الأمريكي في  السعودية كلارك قائلاً له: إن العرب لايجدون أي مبرر لجعل فلسطين العربية تتحمل عبء إيجاد مأوى ليهود أوروبا.  وقال الملك عبدالعزيز آل سعود بأنه يشرفه أن يموت في ميدان القتال كشهيد لحق فلسطين العربية.  ويوم استقبالة للضباط الأمريكيين  الملحقين بالمفوضية الأمريكية في جدة قال: إن الأمة العربية تواجه تهديدات أولها الضغط الفرنسي على سوريا وثانيها الضغط اليهودي على فلسطين.  إن أمريكا وبريطانيا أمامهما خياران بين عالم عربي هادئ ومسالم أو دولة يهودية غارقة في الدم.
الحقيقة أن بريطانيا التي ابتدأت مشروع الدولة اليهودية في فلسطين مالبثت أن فقدت السيطرة على هذا المشروع بعد ذلك، والسبب هو اننقال قيادة الغرب نهائياً إلى الولايات المتحدة الأمريكية التي دخلت إلى المنطقة وهي منهكة في مواجهة عالمية مع الاتحاد السوفيتي آنذاك، وكان تأثير الحركة الصهيونية نافذاً يومها وحتى الآن إلى أعصاب القرار السياسي الأمريكي رغم أن مصالحها الحقيقية والاستراتيجية كانت في الأرض العربية.  يومها حاول  الكولونيل( إيدي) المفوض الأمريكي في السعودية لفت نظر رئيسه إلى خطورة سياسته على المصالح الأمريكية، فرد عليه الرئيس ترومان بصراحة قائلاً: هل لدى العرب أصوات يعطونها لي في الانتخابات أو يحجبونها عني، إن اليهو لديهم أصواتاً في مينوسوتا.
كذلك يروي الكاتب الأمريكي (جور فيدال) في كتابه التاريخ اليهودي قصة الدعم المالي اليهودي للرئيس ترومان حين دخل عليه أحد النشطاء اليهود في محطة القطار عند توقفه في حملته الانتخابية وقدم إليه حقيبةً فيها 2 مليون دولار نقداً وهو يرجوه  اعتبارها مساهمة في حملته الانتخابية، حتى أن الرئيس جون كندي علّق على هذه الواقعة قائلاً: لقد اعترفنا بدولة إسرائيل قبل إعلان قيامها.
في تلك الفترة تم إنشاء الهيئة العربية الفلسطينية تحت زعامة المفتي واتخذت من القاهرة مقراً لها حتى جاءت الحقبة الناصرية والتي لايمكننا إنكار الدور المصري في احتضان ودعم القضية الفلسطينية والتضحيات التي قدمتها مصر، واعتبرها عبدالناصر وبقية القادة العرب أنها القضية الأساسية الأولى، ولازالت مصر حتى اليوم تلعب دوراً مفصلياً في حل مشاكل الفلسطينيين، وهاهي اليوم تحاول استعادة وحدة الصف الفلسطيني وطي صفحة الانقسام الذي تسبب لهم فيه محور الممانعة الإيراني حيث تسعى إسرائيل إلى  تكريس انفصال قطاع غزة عن القدس والضفة الغربية وإخراجه من معادلة الصراع، الأمر الذي يتيح لها مشاريع تهويد القدس وتكريس الوقائع الاستيطانية على الأرض للقضاء على أية بارقة أمل واقعية لبناء دولة فلسطينية مستقلة وقابلة للحياة في الأمد المنظور.
نعم، كانت قضية فلسطين بالنسبة للمصريين شغلهم الشاغل منذ البداية، حتى أن المظاهرات والاضرابات فيها لم تتوقف منذ بداية الثورة الفلسطينية، وكذلك فإن دور المملكة العربية السعودية لايقل عن دور مصر حيث احتضنت المملكة حركة فتح ومنظمة التحرير منذ البداية وأمدتها بالمال والسلاح ، وإن ننسى فلا ننسى دور الملك فيصل 1973 في قطعه إمدادات النفط عن الغرب، السبب الذي أدى إلى اغتياله وكذلك كان دور سورية العربية حتى عام 1970.
إن الشعب الفلسطيني سيكون الخاسر الأكبر إذا هو انجر إلى الانقسامات المحورية العربية والاقليمية، وإذا استمر التشكيك في شرعية منظمة  التحرير ومكانتها التمثيلية، لقد كانت طهران تتوقع في معركة غزّة نصراً قريباً على مصر وهو مالم يتحقق لها رغم دعوات أمين عام حزبها في لبنان للشعب والجيش المصري للانتفاضة على حكامه بل على العكس، فإن مصر اليوم خرجت بعد المعركة أقوى من السابق واستطاعت في أن تجمع في شرم الشيخ قادة أوروبا الذين سبق وأن بدّلوا مواقفهم من سوريا.
وهاهي اليوم تجمع قادة كل الفصائل الفلسطينية لحوار وطني شامل لايقوم على تقاسم النفوذ والحصص مثلما حدث في اتفاق مكة  الذي حولته  حماس إلى حرب أهلية داخلية ومثل الحرب الشرسة على غزة، وكانت بالنسبة لها مجرد إطلاق الصورايخ بينما أوقعت ضربات هذه الحرب مئات القتلى وآلاف الجرحى في الشعب الفلسطيني ناهيك عن الدمار الكبير في الممتلكات وتأثير ذلك  على المستويات الاجتماعية والسياسية والاقتصادية.

المراجع

odabasham.net

التصانيف

أدب  مجتمع