سادت الأسابيع الماضية روح من "الطمأنينة" المحلية، تحديدا ما يتعلق بأداء الحكومة في مواجهة الأزمة المالية العالمية، بعد شهور طويلة من الشد والترقب جراء الظروف الاقتصادية العالمية الصعبة وما تبعها من مفاجآت، وفيما بدأت تلك الظروف بالانسحاب التدريجي، وفيما أبدت الحكومة استجابة سريعة في إعادة التكيف، كما انعكس في التخفيض المستمر في أسعار المحروقات ومحاولتها ممارسة بعض الرقابة والتدخل السريع في الملفات ذات الصلة بمعاش الناس اليومي.
تحتاج حالة الطمأنينة أن يبنى عليها لا أن تتحول إلى حالة من الاسترخاء، ثم من الركون والركود. فالانعكاس المباشر والسريع للأزمة المالية العالمية والذي بدا في تراجع الأسعار ومعدل التضخم لا يعبر بشكل موضوعي عن المستقبل القريب للاقتصاد الوطني، فلا زالت هناك مخاطر عديدة تقف إلى جانب فرص أخرى يحتاج كل منهما المزيد من التحوط والتنبه، ولا زالت هناك احتمالات قوية ان نواجه مرحلة تباطؤ في النمو في مجالات متعددة.
مصدر حالة الطمأنينة الواضح، وربما الوحيد، تجسد فيما أبدته رئاسة الحكومة وبعض أطرافها من استجابة سريعة لبعض المتغيرات، إلى جانب مصدر أخر مرتبط ببنية الاقتصاد الأردني التي دفع ثمنها الأردنيون في السابق. فيما لا زالت أطراف وقطاعات واسعة لا تحرك ساكناً ولا تبدي أي استجابة، فالمتغيرات المحلية والدولية تمنحنا فرصة نادرة لاستعادة الثقة بالإصلاح وتحديدا الإصلاح التنموي والخروج من نقمة قلة الحيلة وضياع وتشتيت الموارد المحدودة بالفساد وندرة الكفاءة.
لم يعكس مشروع الموازنة الذي يناقش في أروقة مجلس النواب مؤشرات لتحولات إصلاحية في العام القادم، فبدت الموازنة تقليدية في معظم بنودها، حيث بقيت حصة الموازنة في الناتج الوطني الإجمالي تراوح مكانها بينما يتضخم العجز إلى حوالي (700) مليون دينار، وتكرر الموازنة الجديدة الحديث عن الدور الاجمتاعي للدولة بنفس المنهج والخطاب التقليديين. فلقد أثبتت تجارب الأعوام الماضية تدني مستوى العائد الاجمتاعي التنموي للبرامج الاجتماعية التي أعادت تدوير الفقر والبطالة وتواضع نوعية الحياة لمئات الآلاف من الأسر الأردنية، حيث لم يتحول هذا الدعم إلى منهج يسهم في إعادة توزيع عادل للدخل عن طريق إيجاد آليات لتراكم إنتاجي رأسمالي لصالح الفئات المستهدفة، بل وكأننا نعيد في كل مرة اختراع التنفيع والمدارة.
هناك بعض الزوايا المضيئة في مشروع الموازنة، رغم تقليديتها، أهمها الاهتمام الواضح بترجمة الرؤية الملكية لإصلاح قطاع الزراعة مع أن الأرقام لا تعبر بالضرورة عن الطموح الوطني والإمكانات المتوفرة. كذلك الأمر فيما يتعلق بتمويل المناطق التنموية وبعض المشاريع السياحية، هناك حاجة موضوعية ان تعكس الموازنات الرؤية الإصلاحية، فلا زلنا نناقش الموازنات من منظار المصالح القطاعية والمطالب الضيقة، وتحديداً في مجال تنمية المحافظات، فلقد طال انتظار موازنة تعكس رؤية وطنية واضحة لتنمية المحافظات.
الطمأنينة المفرطة تقود حتما إلى الاسترخاء ولا تبتعد كثيرا عن التشاؤم المفرط، المرحلة الراهنة تحتاج المزيد من الحذر وبناء ثقة بالقدرة على الإصلاح عبر الحاجة الملحة لتعديل المسار نحو إصلاح تنموي جاد. هذه اهي لبداية الحقيقية للإصلاح الشامل، فلقد أرهقتنا النخب بسجالاتها التي حصرت الإصلاح السياسي بالانتخابات والأحزاب، وأغفلت أن حق الناس بتنمية عادلة هو جوهر الإصلاح السياسي.
يفترض نظريا ان الأردن يحتاج مراجعة استراتيجية لمواجهة خيارات المستقبل القريب، وهذه المراجعة تحتاج حضور روح الدولة الواثقة من الذات والمستقبل، تحتاج إلى وقف الارتجال السياسي والإداري والانتقال الجاد نحو منظور الكفاءة في الإدارة العامة، وإلى بناء تراكم إنتاجي وطني حقيقي والى إصلاح النظام الضريبي وإعادة الفاقد منه الذي يصل إلى أكثر من نصف بليون دينار سنويا وعمل على مدى سنوات طويلة على تدمير طبقات اجتماعية وبناء طبقات طفيلية صغيرة أثرت على حساب إفقار الآخرين.
نحتاج، مع هذا وذاك، إلى مراجعة جريئة لنتائج الاندماج المتسارع في العولمة الاقتصادية وانعكاس ذلك على الواقع الاقتصادي والاجتماعي المحلي، فالطمأنينة الواثقة التي تعيدنا لترتيب بيوتنا بأيدنا، وليس الاسترخاء على الطريق وانتظار ما يأتي.
المراجع
جريدة الغد
التصانيف
صحافة د.باسم الطويسي. جريدة الغد