في زمن السلم يكسب الاعتدال، وفي زمن الحرب يكسب التطرف. وليس صدفة أن صندوق الانتخاب يزحف بانتظام نحو الوسط، فاليساري واليميني يبحثان عن التوسع باتجاه الوسط المعتدل الذي يضم الأغلبية. ولذلك نجد ان التباينات بين الأحزاب في الديمقراطيات الراسخة آيلة باستمرار الى التضاؤل كما نرى حال الجمهوريين والديمقراطيين في أميركا او العمّال والمحافظين في بريطانيا او الاشتراكيين والجمهوريين في فرنسا..إلخ.
منطقتنا مع الأسف ليست منطقة سلم وصناديق اقتراع بل حرب وصراع، وبالتالي كما كان الجمهور يطرب على نداءات أحمد سعيد "تجوّع يا سمك" وعلى قرع طبول الحرب في اذاعة صوت العرب (الحرب التي ستأتي وتنزل بنا أفدح هزيمة في الزمن الحديث) ظلّ الجمهور المخذول في كلّ مرّة يطرب على شعارات جديدة تحمل وهم النصر أو الثأر على غرار "بالكيماوي يا صدّام"، وقد ترتب عليها خضوع العراق طوال عقد ونصف لفرق التفتيش وانتهى الأمر بالغطرسة العسكريتارية الأميركية أن اجتاحت العراق وأطاحت بالدولة ولم يكن هناك كيماوي ولا يحزنون.
وطرب الجمهور للزرقاوي الذي اعلى صوت المقاومة للمحتل الأميركي، وغالبا بتفجير الحسينيات الشيعية! لكن لا بأس فهناك من بين "صنّاع الرأي العام" في وسائل الاعلام من يسوّق ويسوّغ للجمهور هذه الأفعال، والجمهور يتغاضى ويرتاح لدغدغة أوهامه وأحلامه.
اذا كان المتطرف متقدما فهو يصنع كارثة بالآخرين، وإذا كان المتطرف متخلفا فهو يصنع كارثة بنفسه وأهله فقط، وعلى ما رأينا في العراق فالقاعدة قد تكون ظفرت ببعض الأميركيين لكنها دمّرت حياة العراقيين. والقاعدة في العراق ابتدعت جزّ رقاب الرهائن المتاعيس امام عدسة التصوير، لكن المبالغة في اظهار القسوة لترهيب الخصوم هو أحد مظاهر التخلف والقصور. وعند شعوب افريقيا البدائية كانوا يستعملون اقنعة مخيفة ويلوحون بأدوات غريبة في وجه الأعداء، لكن بنادق الأوروبيين كانت تحصد بالجملة هؤلاء المساكين.
محترفو التبرئة والتبرير استمرؤوا اللعب على المشاعر الغاضبة والمعادية للصهاينة والأميركيين واستمروا بهذا النهج مع تزايد ظاهرة التفجيرات الاجرامية في المناطق المدنية الشيعية والحسينيات دون ادنى احساس بهول الكارثة التي ننقاد إليها والتي لحقتها ظاهرة "جثث مجهولة الهوية تحمل آثار تعذيب وطلقة في الرأس"، وحصادها اليومي عشرات من السنّة العرب.
وعلى الجانبين يمكن استخدام منطق التبرئة والتبرير، والجريمة التي تقشعر لها الابدان أول أمس بإعدام 16 عسكريا عراقيا بدم بارد امام عدسة الفيديو الذي تم توزيعه بدعوى الثأر لاغتصاب عراقية سنّية وجدت ايضا من يبرر ويتشفّى. وهذا المنطق هو ذروة الازدواجية في المعايير! فلا يبقى فعل اجرامي تنعدم فيه الرأفة والانسانية إلا ويمكن تبريره، ويمكن العودة بهذا المنطق الذرائعي الى كل الأعمال الاجرامية بحق المدنيين ابتداء بجرائم التطهير العرقي في البوسنة والهرسك وانتهاء بمجازر الإبادة الجماعية في رواندا! اين سنصل مع هذا المنطق؟
القضايا العادلة والنبيلة لا تنتصر بالتحلل من كل معيار انساني وإخلاقي وعلى كل حال اذا انتصر اصحاب هذا النهج فهي كارثة ادهى وأمرّ ولنتخيل انتصار إمارة القاعدة الاسلامية في شرق العراق وجماعة ابو درع (جزّار مجموعات التطهير العرقي الشيعية) في بغداد؟ لا بدّ ان تجربة طالبان ستكون نموذجا للحداثة والانسانية مقارنة مع هؤلاء الذين سيتقاتلون الى ما لا نهاية أو مجيء طرف خارجي ينهيهم.
مناسبة هذا الحديث انني كتبت قبل ايام مقالا غاضبا بسبب الموقف الأميركي من اتفاق مكّة واستخدمت عبارات تقترب من الشتم على غير عادتي في الكتابة المعتدلة والعقلانية فجاءتني ردود فعل مشجعة ونُقل لي الكثير من الثناء فلم أفرح في الحقيقة، ولن يحفزني ذلك للتحوّل لكتابة تدغدغ مشاعر الجمهور لأنني على يقين ان مصيبتنا الأساسية هي تحالف التخلف والتطرف.

المراجع

جريدة الغد

التصانيف

صحافة  جريدة الغد   جميل النمري