لا نضيف جديدا الى فيض التعليقات التي اعقبت الخطاب التاريخي لجلالة الملك امام الكونغرس، لكن من المهم لفت الانتباه الى درجة ضيق إسرائيل بالاختراق الفريد الذي تحقق حتى تقدم فورا على مناورة مكشوفة بالطلب من جميع رعاياها في الأردن (ومصر والمغرب) المغادرة بسبب تهديدات ارهابية لحياتهم! كم كان التسديد في خطاب الملك دقيقا ومباشرا الى قلب الهدف حتّى وكأن اسرائيل شعرت بالكرة "تخرق" شباكها المتينة في واشنطن. وليس صدفة ان نقرأ في تعليقات النواب الموالين بشدّة لإسرائيل انتقاد الخطاب لأنه لم يتطرق الى الارهاب، بما في ذلك ارهاب حماس وحزب الله. نعم هذه هي أداة اسرائيل المعتمدة لتحويل الانتباه عن الحقوق الفلسطينية، الارهاب هو القضية وهو الأولوية.
المناورة هزيلة لأن جوهر الهجوم الباهر الذي قاده الملك هو ان ظاهرة الإرهاب نفسها مع كل النزاعات والتوترات الأخرى في المنطقة تتوالد وتتكاثر بفعل بقاء القضية المركزية دون حلّ.
نحن نصفق بحرارة لسلسلة من الخيارات الحكيمة والدقيقة بشأن الفرصة المميزة التي اتيحت لإلقاء هذا الخطاب امام الكونغرس وجعلت منه محطّة فارقة لها ما بعدها. وهي اولا: التركيز على نقطة واحدة هي القضية الفلسطينية والصراع مع اسرائيل وعدم تشتيت الانتباه الى قضايا اخرى، ثانيا: عدم الغرق في التفاصيل الخاصّة بالصراع، ومن مسؤول عن ماذا..إلخ، بل تسليط الضوء على نقطة مركزية واحدة في القضية المركزية الواحدة وهي دور الولايات المتحدّة في تحقيق السلام، بهذا التكتيك المقدم بصياغات بليغة ومضامين راقية مفعمة بالتوتر الإنساني والصدق، عبر الملك إلى عقول وقلوب الحضور من عتاولة الحياة السياسية الأميركية، فقد وضعهم امام مهمّة عظيمة هي المهمّة الصحيحة والتاريخية.
الخطاب جاء كأمثل استغلال لأمرين:
الأول؛ ان الملك صديق مقدَّر وموثوق للولايات المتحدذة، فعمل بطريقة "صديقك مَن صَدَقك  لا مَن صَدَّقك"، فأتاح لنفسه أن يكون صريحا مباشرا غير مجامل لدرجة التأنيب الضمني للقوّة العظمى على تقصيرها الذي انتهى بجلب كوارث عليها وعلى الجميع. بهذا المعنى وصف احد اعضاء الكونغرس خطاب الملك بالبطولي، فالكلام بهذه الطريقة لم يكن منفّرا فهو لامس حس المسؤولية لبلد عظيم ومقتدر يطرح مثلا عليا، وهو رغم عدم دخوله في التفاصيل، لم يترك شعار السلام معلقا، فقد وضع خريطة الطريق جانبا، وأعاد التذكير بأن ملامح الحلّ الشامل متوفرة فيما تم التوصل له من من أطر مثل محادثات طابا ووثيقة جنيف.
الثاني؛ هو الظرف الراهن، حيث أوصلت سياسات الإدارة الحالية أميركا إلى مأزق عميق، وأصبح هناك خلاف داخلي محتدم حول تشخيص السياسة المناسبة لمصالح الولايات المتحدّة، فجاء الصوت من الجهة وبالأسلوب الأكثر صدقا ومصداقية ليقول لهم وجهة النظر التي تضمّنها الخطاب.
لقد بادر البعض الى التحذير على كل حال من رفع سقف التوقعات، ونحن مع ذلك، لكن المهمّة المنشودة أُنجزت على افضل وجه من حيث التعبئة القصوى الممكنة للقوى والطاقات التي تدفع اميركا بالاتجاه الصحيح. فالتصفيق الحاد كان يتبع عبارات وتوجهات محددة في الخطاب وهو الآن يشكل مرجعية فارقة في الجدل السياسي داخل الولايات المتحدّة.

المراجع

جريدة الغد

التصانيف

صحافة  جريدة الغد   جميل النمري