ما هو عنصر القوة المتوفر للفلسطينيين بعد ان أفلست كل جبهاتهم، ليس لدى الفلسطينيين مساحة  لمناورة القوة في المدى المنظور ولا لدى العرب من خلفهم ، فيما دخلت المقاومة لعبة الحلقة المفرغة وتآكلت  الكثير من عناصرها ، كما هو الحال من المحال في الاقتصاد والأذرع المالية واللوجستية التي تكفل  إفراز النموذج الفلسطيني في مقاومة مدنية متكاملة من أنماط العصيان والاحتجاج السلمي ولفت انتباه العالم وإعادة تركيزه على أكثر قضايا العالم صبرا.
     لم يتبق أمام الفلسطينيين إلا الخيار الأسهل والأكثرعمقا، والذي مايزال مهملا منذ البدايات الأولى للقضية؛ الخيار الديمقراطي على الرغم مما يثار باسمه من ضجيج، حيث أكثر ما تحتاجه الحالة الفلسطينية في هذا الوقت الذي تعاني فيه الأمرين من الإفلاس السياسي والاستراتيجي هو صدمة ديمقراطية تصدم المجتمع الفلسطيني والعالم معا. 
  في انتظار تشكيل الحكومة الفلسطينية الجديدة خلال ساعات أو أيام الأمر الذي يعني تلقائيا فشل جهود المصالحة الوطنية التي تدور في حلقة مفرغة منذ ثلاثين شهرا، وتجميد الأوضاع الراهنة على ما هي عليه لأطول فترة قادمة، ما يسهل عمليا مهمة رئيس الوزراء الإسرائيلي نتنياهو في واشنطن يبدو الأفق الفلسطيني على الراعي الأميركي وخلفه المجتمع الدولي  مفتوحا على نافذة واحدة هي تثبيت خيار إدارة الصراع وفق القوانين السائدة خلال أول عامين من الفترة الرئاسية الأولى للديمقراطيين في البيت الأبيض، وهو ما تدل عليه مؤشرات عديدة ضمن أولويات الخارجية الاميركية التي تشمل حوالي 16 ملفا دوليا ذات مساس بالأمن القومي والمصالح الاميركية في العالم، وما يخدم بالتالي الاستراتيجية الإسرائيلية في المزيد من تغيير الوقائع على الأرض.
  الصدمة الديمقراطية التي يحتاجها العالم من الفلسطينيين، هي صدمة لأنها استعادة للأصول السياسية التي كان يجب ان يبنى عليها مشروع التحرير الوطني، وهي صدمة لأن العالم كَل ومل وهو يبحث عن الفلسطينيين وصدق قصة الشريك المفقود التي باعتها إسرائيل على العالم، وهي صدمة لان الديمقراطية هي السلاح الأمضى الذي أجاده الإسرائيليون وربما شكل أكثر مصادر قوة إسرائيل.
   يبدو المبرر السائد عند فئات واسعة من الرأي العام الفلسطيني والعربي في ان المشروع الديمقراطي الفلسطيني قد تم اغتياله والتآمر عليه، وان المجتمع الدولي الذي يتباكى على الديمقراطية في العالم العربي لا يريدها في فلسطين وان ما تأتي به الصناديق لا يخدم مصالح الأطراف الفاعلة في إدارة الصراع ، وكما ان هذه الحجج قد تبدو صحيحة من بعض الزوايا، فإنها في حقيقية الأمر أصبحت تشكل جزءا من ثقافة تبريرية تبرر العجز وتتستر على الطريقة التي تتحول فيها التنظيمات والسلطة نفسها إلى  جزء من إعاقة نمو الديمقراطية.
  الذين يتساءلون لماذا لا يلتفت العالم لدماء آلاف الفلسطينيين الذين تزهقهم الآلة العسكرية الإسرائيلية يجدون الأجوبة الموضوعية عند اولئك الذين قتلوا الفلسطينيين بدماء باردة ووصلوا إلى عشرات المواقع القيادية ويتحاورون في هذا الوقت في القاهرة باسم المصالح الوطنية، والذين يتساءلون لماذا يستقبل بابا الفاتيكان عائلة الجندي الإسرائيلي الوحيد، وهناك 11 ألف أسير فلسطيني في سجون الاحتلال سيجدون الإجابة الحقيقية في سجون الضفة وغزة.   
 وكما تشكل أرحام الفلسطينيات وما تعنيه المعادلة الديمغرافية على الأرض مصدر التهديد الحقيقي الأول لإسرائيل، فإن إرادة  الفلسطينيين نحو الديمقراطية هي مصدر التهديد الحقيقي الآخر في اللعبة السياسية والاستراتيجية، ولا تقل أهمية عن النمو السكاني الفلسطيني وحتى عن معادلة القوة الصلبة نفسها.
  لقد استثمرت إسرائيل أداة الديمقراطية في تسويق مطالبها السياسية على مدى ستة عقود، وشكل هذا الاستثمار احد أكثر الأمثلة في التاريخ المعاصر كفاءة وعمقا، وهي ذاتها الأداة -ربما الوحيدة- المتبقية للفلسطينيين لحماية حلم الدولة، والذي سيشكل التقاطها بحزم المفصل التاريخي الحقيقي في الصراع والصدمة الحقيقية للعالم.

المراجع

جريدة الغد

التصانيف

صحافة  د.باسم الطويسي.   جريدة الغد