أتذكرون بقال الحي..؟

أنا أغمض عينيّ الآن واستحضر رجلاً كان بالضرورة قصير القامة يبدو بوقفته وسط دكانه كسادن دهري للحي، وهو يوزع وقته منذ الانتهاء من صلاة الفجر الى ما بعد صلاة العشاء بقليل، ويتعامل مع اطفال الحي بنوع من الحنو النادر، وهو يحدق بملامحهم بفراسة خاصة ويوزع عليهم نبوءته بمستقبلهم فيعرف من سيتوج أحمقَ ومن سيتوج سيداً لكنه يظل مع ذلك يعاملهم بذات المستوى

انا ما زلت أتذكر بقال الحي بقلمه المخنوق عند رأسه بخيط القنب وحبر الكوبيا الذي ما ان كان يمسك به ويسجل الدين على هذه العائلة او تلك حتى يتدفق خط الثلث في الخانات الدفترية. وقد كان يعرف كل بيت ما يأخذ فلا تنطلي عليه سرقاتنا الصغيرة، وحين كانت استطالة الحساب تطول في الدفتر كان يتننح وهو يقول بصوت لا يخلو من التحذير «يا ولد قل لأبيك ان الحساب قد زاد» وكانت مثل هذه العبارة تجعل الواحد منّا يتعرق خجلاً من فضيحة الدين.

وأذكر ان البقال كان في وقت الضحى وتحديداً في ذلك الوقت التي كانت تخلو فيها الحارة من الرجال كان يبدو كحارس امين على اعراض النساء او ان يتحول الى مرب فاضل للابناء الذين يشاكسون امهاتهم.

والبقال الذي كان يبدو انه لا يختلف عن ابائنا الغائبين في رزقهم اليومي كان يعرف صبايا الحي منذ ان دلفن بالخطوة الاولى الى دكانه، وهو الذي كان يفك قبضاتهن الصغيرة الناعمة عن قروشهن المتعرقة، وكان يعرف ان فلانة لم تعد تحضر الى دكانه لأنها بلغت وصار صدرها الرماني يكبر وانها على وشك الزواج ولعلعت الزغرودة.

اتذكر ان للبقالة باباً صغيراً يتصل بما يشبه المشيمة بداره المقامة دائماً خلف دكانه وانه ومن هذا الباب كنا نسمع صوتاً انثوياً مكتوماً ينده عليه كي يعطيه وجبة الغداء او كاسة الشاي أو حتى صحن البطيخ.

وأتذكر ان مساحة بسيطة من الاسمنت الناعم كانت امام باب الدكان مباشرة كانت تستقبل مساء معظم رجال الحي كي يستمعون الى دقات ساعة بيج بن والصوت المكمم لمذيع اذاعة لندن واحياناً للاستماع لخطابات الرئيس المصري جمال عبد الناصر وهو يتوعد الاستعمار قائلاً «على بريطانيا ان تحمل عصاها وترحل».

يا الهي كيف غافلنا بقال الحي واختفى على هذا النحو المباغت والقاسي.

وكيف نبتت كل هذه المولات التي نبحث فيها عن وجه البقال الطيب فلا نجد الا تلك السلع التي لا تعرف الرحمة لا في الشراء ولا في الاقتناء.


المراجع

جريدة الدستور

التصانيف

صحافة  خليل قنديل   جريدة الدستور