قبل شهر نشرت لوفيغارو الفرنسية افتتاحية تحت عنوان "رياح حرب باردة جديدة روسية اميركية"، وأمس دعا الرئيس الأميركي نظيره الروسي إلى "عدم احياء الحرب الباردة"، والحق ان اللغة المستخدمة بالكاد تخفي روح التحدّي بين الطرفين. منذ فترة يستخدم الرئيس بوتين تعابير شديدة اللهجة لكنه أول من امس استخدم ولأول مرّة تعبير "الامبريالية" في وصف سياسة الولايات المتحدة، وردّ بوش بإبداء القلق على حال الديمقراطية في روسيا، وقد باتت هذه إشارة مألوفة لوضع بلد ما في خانة الاستهداف وعنوانا للتحرش والمناكفة.
يقترب بوتين من ختام ولايته وقد اعاد لروسيا استقرارها وتماسكها الداخلي وهيبتها. وعلى الفور عادت الجغرافيا السياسية لتضع روسيا في موقع الند والخصم. لكن من دون العباءة الأيديولوجية هذه المرّة. والرأسمالية لم تلغ ارثا وموقعا جيوسياسيا وقدرات عسكرية واقتصادية تجعل من روسيا ندا سياسيا للولايات المتحدّة.
ومع ان روسيا تمثل حجما أكثر تواضعا من الاتحاد السوفييتي، فهي تبقى دولة كبرى تحوز على احتياطات طبيعية هائلة أبرزها النفط والغاز، ولديها آفاق مفتوحة للنمو الاقتصادي ما يقود بالضرورة إلى تدافع مع القوة العظمى الأولى التي تنحى للهيمنة وتهميش الآخرين ناهيك عما تختزنه الذاكرة الروسية من دور للولايات المتحدة في تدمير عظمة روسيا السوفييتية واهانتها وتدمير اقتصادها خلال الحقبة اليلتسنية.
ما لم يحسب حسابه ربما هو عودة سباق التسلح على هذا النحو، فقد رافق الحقبة البوتينية استمرار الولايات المتحدة في توسيع حلف الأطلسي ودعم حكومات معادية لروسيا، في بلدان الاتحاد السوفييتي السابق، حيث تتواجد أقليات روسية كبيرة وحيث لروسيا مصالح حيوية. وقد بالغت الولايات المتحدة في تجاهل روسيا والحطّ من شأنها في سياسة الجوار، وجاءت الخطوة التي قصمت ظهر البعير باقامة درع صاروخية بمحاذاة روسيا في بولندا وتشيكيا مع انظمة رادار متطورة دون اي اعتبار للاحتجاجات الروسية، بل وصفت كوندوليزا رايس الاعتراضات الروسية بالسخيفة فردّ لافروف بأن التبريرات الأميركية هي السخيفة.
وكما هو معروف؛ فالتبرير الأميركي هو ان الصواريخ المضادّة للصواريخ هي لحماية اوروبا من صواريخ منظمات! أو دول مارقة مثل كوريا وإيران، وهو بالفعل تبرير غريب اذ يمكن لدول مثل كوريا الجنوبية أو تركيا (العضو في الأطلسي) ان تحتضن هكذا صواريخ لا حدود روسيا، التي رأت ان ذلك يخرق معاهدات الحدّ من انتشار الأسلحة الاستراتيجية وقامت بتجربة صاروخ جديد قادر على تدمير قواعد الدرع الصاروخي وقالت صراحة انه رد على سباق التسلح الجديد الأميركي.
بالتأكيد لسنا أمام نسخة الحرب القديمة الباردة نفسها التي قسمت العالم أيديولوجيا وعسكريا واقتصاديا، وبوتين يتحدث بلهجة حازمة جدا لكن مع استخدام تعبير الشركاء. نحن بصورة ما أمام مسار يأتي بأسرع من المتوقع وقبل العالم متعدد الأقطاب الذي كنّا ننتظره.
كنّا نفكر بعالم متعدد الأقطاب اقتصاديا وليس العودة للتسلح الذي ستكون روسيا قطبا اساسيا فيه وتلحقها الصين التي باتت مصدرا رئيسا لمبيعات السلاح وقد رفعت موازنتها للتسلح هذا العام بصورة أثارت حفيظة الولايات المتحدة.
المراجع
جريدة الغد
التصانيف
صحافة جريدة الغد جميل النمري