على ابواب شهر رمضان المبارك تتراجع النقاشات التقليدية الحادة في الحياة العامة، ويعود الناس الى بيوتهم وتبدأ اسئلة المعاش اليومي الاكثر حدة والاكثر قوة وان لن تكن الاعلى صوتا، حيث تمثل هذه الفترة من كل عام حالة طوارئ تشير لمدى قدرة الحكومات على  تلبية حاجات الناس الحقيقية والطارئة، حيث لا توجد فترة يمكن ان ترتبط فيها الحرية والحاجات والكرامة بوضوح مثلما هو الحال في هذا الشهر.
الازمات الاستهلاكية الحادة والنقص المفاجئ احيانا في الموارد الغذائية، ثم حالات الانكشاف المباشر للفقر والعوز وهي جانب من وصف معتاد سنويا لرمضان،  تثير هذه الاحوال مشاعر حادة من الكآبة، وتشير الى حجم فشل جهود التنمية والتغيير التي استهلكت جل سنوات القرن الماضي، كيف انشأت السلطات هذه المجتمعات في حالة عوز وحاجة دائمتين في ضوء نزيف متوال في القدرات والامكانيات وضعف وهشاشة في الموارد الفعلية اذا ما واجهتها طوارئ حقيقية، ما يجعل شهر رمضان مثالا واضحا للجدل حول ما يريده الناس بالفعل بين الكرامة والحرية من جهة والحاجة والمعاش اليومي من جهة اخرى.
يمكن قراءة هذا المشهد  الذي يتكرر في ضوء تواضع نتائج التنمية وضعف انعكاسها على نوعية الحياة التي شهدها العديد من المجتمعات في جنوب العالم، حيث يزداد الجدل حول اولوية واهمية التغيير والاصلاح السياسي مقابل اولوية التغيير الاقتصادي حتى ظهرت اصوات تقول بأن اجندة الحريات الجديدة في العالم منذ نهاية الحرب الباردة ما هي الا تغطية على فشل معظم مشاريع التنمية التي ادارتها الرأسمالية العالمية في تلك الجهات.
تعد الحاجات الاقتصادية والحريات السياسية ثنائية متوالية في النقاش والجدل حول الأولوية وبالتحديد في بلدان العالم النامي حينما يثار موضـوع أولويـة الاصـلاح السياسي، فالسؤال الّذي يطرح بقوة: لماذا تورط المجتمعات النامية نفسها بالمطالبة حاجات اقتصادية صعبة؟ وأصحاب هذا الاتجاه يذهبون إلى ضرورة التركيز على الحقوق الاقتصادية لبلدان العالم النامية بدلاً من التركيز على الحقوق السياسية (التي لا تُغني ولا تسمن من جوع).
هذا النقاش يفترض وجود صراع بين الحريات وإشباع الحاجات، بـدأ يأخـذ اتجاهاً آخر في التكيف والتعامل بدل الصراع، فالحاجات الاقتصاديـة تتشكـل ولا تنفصـل عـن الحاجـة للحريـات السياسيـة، وهذا يعنـي:
- أن الحريات المدنيـة والحقوق السياسيـة لها أهمية مباشرة على حياة الإنسان وترتبط مع القدرات الأساسيـة للأفراد.
- أن الحريات العامة لها الدور الأساسي في تعزيز تلقي الناس لحقوقهم وحاجاتهم التي على رأسها الحاجات الاقتصادية.
-الحريات السياسية والإعلامية وقيمها تمنح المجتمع تصوراً بناءً لحاجاتهم، لفهمها ووسائل اشباعها ومراقبتها في ضوء نظام اجتماعي معين.
هل يمكن ان نفكر بشكل اكثر ايجابية في تحديد حاجات الناس كما تمليها مناسبة كشهر رمضان على سبيل المثال، لكي نصل الى عمق الثقافة الشعبية للناس ولكي نمرر الى الوعي العام كيف ان الحاجة هي قيد الحرية، وان ثمة علاقة تبادلية بين الحاجات والحقوق الاقتصادية من جهة وبين الحريات والحقوق السياسية من جهة اخرى يمكن ان يمارسها ويلمسها الناس في حياتهم اليومية. وبالتالي اين تكمن تعبيرات الكرامة ورمزيتها.
الوصول إلى الناس واستمثار المخزون الثقافي الشعبي والديني والرسمي هو الذي يحدد ما يحتاجونه بالفعل وهو ما يتيح خيارات أوسع أمام النظام والناس معا، ولقد دفعت هذه العمليـة في جهات عديدة من العالم نحو انبثاق قيم جديدة حول العائلة ومفهوم السعادة ونوعية الحياة، حينما ادرك الناس بالممارسة والوعي العلاقة بين الحرية والكرامة وان تنام مملوء البطن!

المراجع

جريدة الغد

التصانيف

صحافة  د.باسم الطويسي.   جريدة الغد