إصلاح مسار نضوج الهويات في التجارب العاقلة غالبا ما ارتبط باصلاح انظمة التعليم ثم الإعلام وأخيرا السياسة
للجدل السياسي حول الهوية والحرية مرجعيات علمية عميقة لها جذور بعيدة ايضا وهذا النقاش لا ينتهي في معظم المجتمعات ويأخذ العديد من الاشكال والتعبيرات الاجتماعية والسياسية والاقتصادية، والمدهش لنا حين نتعامل مع مسألة الهوية في مستويين هما السياسي والاجتماعي.
العديد من المجتمعات في الغرب، التي انجزت وحسمت مشروعها السياسي الاجتماعي، على مستوى علاقات الداخل بالداخل تمارس اعمق تعبيرات جدل الهوية في السوق وفي ادارة المصالح اكثر من اي حقل اخر.
منذ نهاية السبعينيات تطورت المعرفة الاجتماعية والثقافية في فهم طبيعة العلاقات بين الجماعات حيث التقت أجندة علم النفس الاجتماعي والانثربولوجيا في تقديم إضافات نوعية في تحليل العلاقات بين الجماعات وتعريف الذات مقابل الآخر، وظهر ذلك في نظرية الهوية الاجتماعية، وتبلورَ نوعان من نظريات الهوية الاجتماعية هما: نظرية العلاقات بين الجماعات، حيث تركز على تحليل الصراع وتركيز الأفراد على التميز الايجابي لجماعاتهم بمقارنتها بالجماعات الخارجية او الاخرى، وذلك حرصاً على هوية اجتماعية ايجابية، والنظرية الثانية، نظرية تصنيف الذات وتعد معرفية اجتماعية تحلل علاقات الجماعات وتحلل الذات مقابل الآخر، انطلاقاً من ان السياق الاجتماعي هو المحدد الأساسي لفهم الذات مقابل الآخر أي الدور الحاسم للبناء الاجتماعي.
تقوم نظرية الهوية الاجتماعية بشكل عام على تحليل علاقة الجماعة بالآخر من خلال دور الانتماءات الاجتماعية في تحديد هوية الفرد الاجتماعية، ومن خلال العلاقة مع الجماعات الأخرى، ووفق هذه النظرية ينتج التميز والتعصب والاختلافات بين الجماعات ومعايير تقييم كل جماعة للجماعات الأخرى.
أما نظرية تصنيف الذات فترى أن مستوى ونوع الهوية الذي يستخدم في وصف الذات والآخرين يتنوع بتنوع دوافع الفرد وقيمة توقعاته وخلفيته المعرفية والسياق الاجتماعي الذي تحدث فيه المقارنة، وعلى هذا الأساس يحدث تنظيم الأفعال والعمليات الجماعية من خلال تصنيف اجتماعي مشترك للذات.
يذهب الخطاب الثقافي المسيطر على المضامين الاعلامية المعاصرة إلى ضرورة الاستفادة من التطورات التكنولوجية في وسائل الإعلام والاتصال وعمليات التبادل التجاري العالمي في إحداث تقارب ثقافي بين المجتمعات الإنسانية يقصد تحقيق الشراكة المستقبلية. بمعنى قيام شراكة تقوم على تقديم الحلول لما يتعرض له العالم من مشاكل مجتمعية وبيئية، إلى جانب بناء استراتيجية للنفع المتبادل بدلاً من استراتيجية الكسب والخسارة.
الأمر الذي يتطلب ضرورة تأهيل كل مجتمع إنساني من خلال استغلال الموارد المتاحة من اجل بناء معرفة إنسانية منافسة؛ فالمشاكل التي تواجه مستقبل العالم لا يمكن لأي مجتمع ان يواجهها منفرداً، وبالتالي تبرز قيمة المعرفة في سياق خطاب الهيمنة والتفاهم على حد سواء، ومن هنا تبرز قيمة الحرية الجديدة التي قد تكون العالمية او العولمة البديلة احد اذرعتها القوية، والتي تقوم على عصارة الخطابات الانسانية القابلة للتعايش والتي يمكن ان ترسم ملامح هويات متعايشة، لنأخذ على سبيل صعود موجة التجارة العادلة، السياحة المسؤولة، النمو الكبير لشبكات المتطوعين في العالم.
يذهب هذا الخطاب إلى ان العالم يتعرض لتحولات تنقلب معها القيم والمفاهيم بما يؤدي إلى نشوء سياسات فكرية وممارسات معرفية تتجاوز كل ما كان سائداً في عالم الحداثة والصناعة، وبهذا المعنى ثمة اختراق للمجتمعات والثقافات على عدة مستويات.
الاندماج على مستوى أعلى يتمثل في تدفق المعلومات والصور والقيم والنماذج عبر وسائط الإعلام المتعددة التي تحولت الى نظام كوني واحد للاتصال ما سوف يعمل على خلق نظام من القيم والمعايير المشتركة بين البشر سيساهم حسب هذا الخطاب في تعميق الفهم المتبادل بين البشر، وتقليل حدة الصراعات ثم القضاء على مصادرها من الداخل، ثمة مساحة واسعة من التفاؤل لن تجدها كلما اقتربت من التفاصيل في اقاليم عديدة من العالم.
وبالرغم من كون المضمون الثقافي للهوية يعد الأكثر إثارة للنقاشات العالمية والمحلية في العديد من جهات العالم حيث تتنوع الحقول المعرفية التي تساهم به، وبالتحديد في المنظور الرافض او المتخوف على المدى البعيد، فإن الإسهامات التي قدمها علماء الانثربولوجيا الثقافية تعد الأكثر جدارة بتأصيل هذه المواقف على اختلافها.
الانثروبولوجيون يعملون حقلياً بتأثيرات التحولات العالمية وأنماطها عند المستويات السفلى؛ بمعنى مع الناس العاديين وفي الميدان وبالملاحظة والمعايشة المباشرة التي يحكمها رصد تأثير التدفق الهائل للمعلومات والإعلام الجديد وأنماط التسويق والتقريب الثقافي. انهم يعملون عن قرب في الشوارع والحقول والمشاغل الصغيرة ومع المجتمعات البسيطة والمعقدة معا، ويراقبون التحولات والاستجابة لرموز الهويات الجديدة، كما يراقبون التحول في القضايا الصراعية حول الهوية في المضمون  والرموز والتعبيرات والتمثيلات الاجتماعية والثقافية، حيث يمكن الاشتغال على التفاصيل اليومية والتمييز بوضوح بين النيئ والمطبوخ.
الفكرة المركزية المدهشة أيضاً التي اثبتتها دراسات انثربويولوجيا الاتصال الجديدة، تتلخص في بؤس الافكار التي تحدثت طوال السنوات الماضية عن قدرة عولمة الاعلام والاتصال في تجسير الهوة بين الهويات وخلق ما يشبه هوية نمطية متشابهة، ما يحدث في الاغلب ان هذه التقنيات قد وفرت الفرصة التاريخية والبيئة الملائمة للهويات كي تزدهر لا بل وفرت لها ادوات ومنابر جديدة كي تعبر عن نفسها بحرية ومرونة اكثر.
جولة سريعة على الامم والدول الجديدة التي برزت خلال أقل من عقدين وتلك التي خرجت من الطهو للتو، تبين حجم ما وفرته وسائل الاعلام الجديدة من فرص لم تكن تتوفر لامم اعرق منها احتاجت من اجل ابراز هويتها وطبخها عبر نار هادئة مئات السنيين، لنأخذ على سبيل المثال الجمهوريات المستقلة عن الاتحاد السوفيتي، وصولا الى كردستان العراق.
ويأخذ الانثربولوجيون على خطاب العولمة انه قد عني بالجوانب الاقتصادية والسياسية ولم يهتم بالمضمون الثقافي لهذه الظاهرة، فالعولمة تتقدم اقتصادياً حسب ما يعد لها من خطط وبرامج، اما التأثيرات الثقافية فلا يمكن رسم سيناريوهات دقيقة وواضحة لها، فلقد أوجدت الظاهرة العالمية أنماطا أخرى لم تكن في الحسبان من العولمة مصدرها التأثيرات الثقافية التي قادتها وسائل الإعلام والاتصال. على سبيل المثال، ازدهار التنوع الثقافي والديني عكس ما كان يريده أصحاب المشروع الاقتصادي، بل وازدياد النزعة الدينية في العالم والنزعة العرقية وعولمة ظاهرة استخدام الدين في الصراع، ويبدو ان هذه الأنماط لا تقتصر على العالم الإسلامي، وهناك استجابات دينية وثقافية متعددة تعبر عن عودة الخصوصيات والهويات المحلية، وتذهب آراء أخرى إلى ان العالم يذهب الى مرحلة من التميز العنصري المعولم لجميع مظاهر الحياة بما فيها الثقافة، إذ ان العالم وفقاً لهذا التصور سينقسم الى ثقافتين "ثقافة الأغنياء" وهي ثقافة أقلية تتحكم بالعالم، وثقافة الأكثرية المستهلكة للسلع الثقافية الجديدة.    
ويشك الكثير من علماء الانسان في قدرة المضامين الثقافية الجديدة على صنع ثقافة إنسانية واحدة بفعل وسائل الإعلام وتكنولوجيا الاتصال أو الاقتصاد وهيمنة قيم السوق على صناعة الثقافة، لأن العالم ما يزال عاجزا عن تقدم منهجية اقتصادية تعتمد على برامج متنوعة وعمليات مختلفة، لا أحد يعلم ان كانت تملك القدرة على التوحد أم لا، هذا من جهة.
ومن جهة أخرى، فإنّ المجتمعات الإنسانية تتشابه في استهلاك وقت الفراغ وانتشار الثقافة الاستهلاكية بين أفرادها، إلا أن هذا التشابه لا يعني ضرورة التشابه في القيم والمعايير والسلوكيات التي تحكم أحيانا الطريقة التي يتم فيها استهلاك السلع الثقافية الجديدة، وهذا الاستهلاك ما يزال ترفيهيا، ولا يمس جوهر الثقافة التي تظهر عادة في المعتقد الديني أو الايدولوجيا أو القومية، وهو ما يشبه بعض الأفكار التي تطرحها بعض الدول وتسوقها سياسيا على طريقة شركات العلاقات العامة.
إنّ مسار إنضاج الهوية مرتبط بشكل او بآخر بنظرة جديدة للإصلاح، بمعنى الإصلاح الذي يعمل مع الناس، من خلال الناس عبر مجتمعاتهم المحلية الصغيرة ويمكِّنهم من فهم الذات والمشاركة التفاعلية الحقيقية التي تصنف الذات، وفق منظور انساني متقدم يقوم على المعرفة، ولا يهمل المصالح ولا العواطف.
إصلاح مسار نضوج الهويات في التجارب العاقلة غالبا ما ارتبط باصلاح انظمة التعليم ثم الإعلام وأخيرا السياسة.

المراجع

جريدة الغد

التصانيف

صحافة  د.باسم الطويسي.   جريدة الغد