احدى مشاكل الدولة العربية افتقادها القدرة على إدراك قيمة الحل الثقافي الاجتماعي في العلاقة بين السلطة والمجتمع
تقف الدولة الوطنية العربية في هذا الوقت أمام ميراث الاستقرار والاستبداد وهي الصيغة التي كفلت من خلالها النخب السياسية ذاتها ضمان استمرارها في السلطة، بينما كان الاستقرار يقدم على انه مصدر قوة للنظم السياسية ولمجتمعاتها، كفلت هذه الصيغة استقرار الاستبداد أيضا، ترك هذا الاستقرار الغامض آثارا بالغة الخطورة والغموض يمكن ان نقرأها اليوم بوضوح ليس فقط على بنية السلطة والمؤسسات بل على النسيج الاجتماعي والهوية والتفاهم المحلي والاستقرار الحقيقي.  
نموذج الدولة الحائرة بين ميراث الاستقرار والاستبداد، وبين الرغبة بالتكيف والاستمرار في عالم متغير، ينسحب هذا النموذج على الردود التي تزدحم اليوم وتخلق حالة غير قابلة للفهم للوهلة الأولى من الهشاشة والخوف والاتهامية والانتهازية تمارسها المجتمعات ونخبها، يبدو ذلك بوضوح في سلوك النخب المتصارعة، ويمكن ان نفهم جذور هذه النتيجة حينما نستدعي الآليات التي تكونت خلالها كل من النخب السياسية والاقتصادية في السلطة والسوق على ميراث الاستقرار والاستبداد على مدى عقود من التنفيع والاسترضاء.
احدى مشاكل الدولة العربية الحائرة في فوضى خطابات سوء النوايا وحسنها افتقادها القدرة على إدراك قيمة الحل الثقافي الاجتماعي في العلاقة بين السلطة والمجتمع وفي العلاقات داخل المجتمع، حتى وان كان هذا الحل يحتاج نارا هادئة ومددا طويلة، حينما تفجع النخب بان جذور الاستبداد ومفرختها الأم تكمن في المجتمع، وحينما يجد اؤلئك الذين اشبعوا السلطة كل ألوان النقد بان هياكل الدولة المهترئة أصبحت تقف يسار المجتمع وهي التي تقود التغيير بينما النخب الحائرة هي الأخرى ترفض الاعتراف بهذه الحقيقة.
 في هذا الوقت تمارس الدولة الاسترخاء باسم التغيير؛ فهي وحدها التي تسهر على إنضاجه، وهي وحدها التي تحارب قوى السكون والجمود، وهي وحدها التي تمارس التعبئة نحو الجديد والمختلف، يحدث ذلك بالعدة والعتاد الذي طالما مارس الاستبداد والإقصاء والمنع والخوف من التغيير والتجديد وتستمر في وظيفتها التقليدية في تكوين نخب السلطة والسوق بنفس الآليات، في حين يغيب الحل الثقافي الاجتماعي الذي يقتضي بلورة وظائف جديدة للدولة.
في عمق الخطابات التي تنتجها التيارات والقوى والرموز التي تدير الأزمات والصراع تبدو الهوية المربع الأول الذي يفسر كل المربعات الأخرى، وفي العمق أيضا يبدو كم هي فكرة الدولة الوطنية مشوشة وغامضة في هذا الجزء من العالم؛ حتى أصبحنا اليوم في ابعد نقطة عن الوصول إلى الدولة الوطنية الديمقراطية، فمنذ ستة عقود لم يكن مستقبل الدولة في العالم العربي بهذا الحجم من الغموض والارتهان إلى خيارات معظمها خارجية، والداخلية منها ابعد ما تكون عن نضوج فكرة الدولة في وعي المجتمع السياسي قبل العامة.
والمقصود الدولة الوطنية التي ينجزها عقد اجتماعي ناضج يحسم كل صراعات وتناقضات الكل الاجتماعي لمصلحة الدولة التي هي في المحصلة مصلحة الفرد، ومجموع مصالح الأفراد في المحصلة أيضا مصلحة الدولة، لكن هذا التشاؤم لا يعني بأي شكل من الأشكال نهاية الأنماط السائدة من الدولة الوطنية في العالم العربي، بل المتوقع أننا أمام مرحلة تحول قاسية وصعبة ستشهد آلاماً مضاعفة تنتهي بأشكال أخرى من التفتيت والاندماج والنزاعات الأهلية والاقتتال على القيم السياسية، وأشكال باهتة من السيادة، وصولاً إلى الصراع بين الوطنية والمواطنة.
كنا نتحدث حتى نهاية عقد التسعينيات عن التدخلات الأجنبية في المنطقة العربية وما يرتبط بها من نزاعات محلية ودورها في استمرار فجوة التخلف وتكريس ظاهرة "الدولة القطرية" التسلطية، إلا أن الصراعات الجديدة على مستقبل الشكل السائد من الدولة الوطنية خلال السنوات الأخيرة جاءت بمؤشرات أخرى دالة على عمق أزمة هذه الدولة واحتدامها وهي مؤشرات ذات الصلة بالعمق الاجتماعي الثقافي وهو الواقع الذي نتجاوزه عادة ولا نرغب الاعتراف به، الأمر الذي سهل تضاعف حجم التدخلات الصراعية الأجنبية وبروز ظاهرة التدخلات الصراعية الإقليمية بشكل فج وواضح، وانفجار الصراعات الأهلية المتدحرجة في ستة مجتمعات عربية على أقل تقدير.
لقد عمل تيار المراجعة النقدية للفكر العربي المعاصر على الإسهام الجدي في انتقال الخطاب السياسي الفكري من فكرة الثورة إلى فكرة النضال الديمقراطي والإصلاح السياسي، منذ الربع الأخير من القرن العشرين يكاد يخلو بالتدريج خطاب هذه التيارات من الدعوة إلى التغيير بالعنف، إلا انها بما تطرحه من أسئلة ما تزال لا تلتفت إلى الأسئلة الاجتماعية والثقافية بعمقها المجتمعي قبل السياسي.
مرة أخرى، سنجد النظم السياسية والنخب الفاعلة في المجال العام في هذا الوقت تتلذذ باسترخاء ما دامت هي التي تركب موجة التغيير وهي يسار المجتمع الجديد من دون إن تكلف نفسها دخول عملية تاريخية لتعديل وظائف الدولة التقليدية نحو البحث عن حلول تراكمية قابلة للحياة تكمن في الأساس في الحل الثقافي الاجتماعي.

المراجع

جريدة الغد

التصانيف

صحافة  د.باسم الطويسي.   جريدة الغد