بالرغم من الصورة القاتمة التي يعرضها تقرير المعرفة العربية للعام 2009، الصادر الأسبوع الماضي عن برنامج الأمم المتحدة الإنمائي ومؤسسة محمد بن راشد آل مكتوم، إلا أن حدة مشاعر الإحباط تكسر من زاوية واحدة، فقط، تبدو في بداية تشكل إرادة معرفية عربية في اكتشاف الذات، أي أخذ علم بمستويات الفوات والتأخر، وإنتاج معرفة تأسس للوعي بهذه المحنة.
ولعل توالي صدور تقارير المعرفة العربية إلى جانب تقارير التنمية الإنسانية التي أحدثت خلال السنوات الماضية فرقاً واضحاً في رؤية العديد من المؤسسات والنخب العربية للمكانة والدور والوزن الذي تمثله هذه المنطقة في حركة العالم وفي مسار التاريخ، يعني في المحصلة أن إرادة المعرفة تتقدم وهي  توالي الإنتاج المعرفي حول هذه المحنة وتؤسس للأمل رغم الصفعات المتتالية التي تضربنا بها هذه التقارير كل عام أو عامين.
وفي الوقت الذي لم يطور أو يطرح فيه مؤلفو هذه التقارير مقاييس خاصة لأحوال المعرفة العربية، بل استندوا على المقاييس العالمية المنتشرة عبر عشرات التقارير والمراصد الدولية المتعددة، نجد أن حسنة هذا التقرير بالإضافة إلى الرصد والتوثيق، أنه يقدم خطة ورؤية لبناء مجتمع المعرفة في الوطن العربي، اعتماداً على أن الفجوة المعرفية أمر ممكن تداركه.
ضمن ستة فصول يقدم التقرير أحوال المعرفة العربية بالمقارنة بين الأرقام والمؤشرات المحلية للوضع الراهن، مقابل الأوضاع قبل ربع قرن وبين البلدان العربية نفسها وبين العالم العربي والعالم، ومن الواضح أن محنة المعرفة تكمن في مجال التعليم وتكوين رأس المال المعرفي، فالإخفاقات واضحة والطريق ما يزال طويلاً، حيث ما يزال في الدول العربية نحو (60) مليون أميّ، ثلثاهم من النساء، وهناك تسعة ملايين طفل في سن المدرسة الابتدائية خارج المدرسة، وما زال المعدل العام للالتحاق بالتعليم الثانوي أقل من (55%)، وبالتالي يبدو حجم المحنة في منابع تكوين رأس المال المعرفي بالنظر إلى التعليم العام والتعليم في سن الطفولة والطفولة المبكرة، وهو ما يتفق مع ما جاء به التقرير العالمي لرصد التعليم للجميع الصادر عن اليونسكو عام 2007، تحت عنوان "إرساء الأسس المتينة".
وفي مجال التعليم العالي الذي شهد توسعاً كمياً واضحاً أشار التقرير إلى أن (40%) من الشباب العربي يكتفون بالتعليم الأساسي، بينما لا يذهب نحو الدراسات العليا سوى (1%) فقط، بينما هناك عزوف متواصل عن الالتحاق بالتعليم التقني، ويرصد العديد من نقاط الضعف والاختلالات في واقع الجامعات العربية ومخرجاتها على المستويين الكيفي والكمي، رغم ما تشهده الجامعات العربية من انتشار فهي تزداد عزلة وهذا ما يطرح أسئلة أخرى حول مستقبل مسار الجامعات العربية، وربما يحتاج تخصيص التقرير القادم لأحوال الجامعات كمنتجة للمعرفة.
أما الأداء العربي في مجال البحث والإبداع فيتسم بشكل عام بضعف مستواه مقارنة ببقية مرتكزات المعرفة، حيث ما تزال جهود تجسير الفجوة بين نظم البحث والتنمية ضعيفة، وهذا ما تعكسه سياسات توطين التقانة، بينما لا يتعدى الإنفاق على البحث العلمي (0.3%) من الناتج الإجمالي في معظم البلدان العربية.
لا يتجاوز نصيب المواطن العربي من مجمل ما ينفق على البحث العلمي مبلغ (10) دولارات في السنة، مقارنة مع ماليزيا (33) دولاراً للفرد سنوياً، وفي فنلندا (1304) دولارات سنوياً، وعلى صعيد الإنتاج الثقافي والعلمي يقدم التقرير مشهداً آخر من الكآبة، فإذا وزِّع إنتاج الكتب على العرب فان لكل نحو عشرين ألف مواطن عربي كتاب واحد فقط مقارنة مع كتاب لكل من (491) مواطناً انجليزياً.
الرؤية التي يقدمها التقرير لبناء مجتمع المعرفة في الوطن العربي تقوم على أساس نشر بعض الأمل بأن الفجوة المعرفية أمر ممكن تداركه، ويطرح التقرير لذلك آلية تفصيلية للتحرك نحو مجتمع المعرفة، تقوم على قواعد الانفتاح والتواصل والحرية والتكامل مع الحاجات التنموية للمجتمع.
بين الإحباط والأمل؛ تتمثل الخطوة الأولى نحو الأمل في إنتاج معرفة ذات جودة عالية حول محنة المعرفة ذاتها، وهذا ما فعله التقرير.

 

بقلم: د.باسم الطويسي​​​​​


المراجع

alghad.com

التصانيف

صحافة   د.باسم الطويسي   العلوم الاجتماعية   جريدة الغد