يبدو أننا أمام مرحلة جديدة في تحولات مسار الجهادية الأصولية وساحات عملها، وربما قريبا نلمس تحولات أخرى في الأهداف والخطاب، فيما يبدو واضحا تنامي حجم  الاندماج الأردني  في سياق هذه الظاهرة العالمية في مسارين متقاطعين؛ هما  اندماج الأردن الرسمي في المسار الدولي ( مكافحة وحرب الإرهاب)،  والمسار المجتمعي المتنامي في تصدير فاعلين وناشطين وقيادات لهذه الظاهرة على مستويات التنظير والعمليات والقيادة.
  الموقف بعد عملية خوست ومن ذهب فيها، وما تبعها بعد أيام قليلة من مقتل أردني قيادي من القاعدة في عملية عسكرية أميركية في أفغانستان،يوصولا الى عملية العدسية الأخيرة  يكشف عن حجم حساسية الموقف، والحاجة الى إعادة تموضع استراتيجي أردني في سياق إدارة التعامل مع مصادر التهديد الداخلية والخارجية معا وإدارة بناء التحالفات، في ضوء ما كشفت عنه هذه الأحداث للعامة، وفي ضوء ما هو معلوم لدى آخرين من قبل حول حجم التعاون والاندماج الامني الأردني في بعض فصول (الحرب الأميركية على الإرهاب) مقابل التحديد الدقيق للأهداف الأردنية في ضوء المصالح الوطنية العليا وما تحمله الأحداث من مفارقات.
تحليل الفجوة الإعلامية
  الأمر الطارئ والأكثر حاجة لعمل إسعافي سريع هو الإجابة عن أسئلة الأردنيين التي تطرح في هذا الوقت؛ أي مراجعة الخطاب الإعلامي في هذا الملف المعقد، والذي يتجاوز المسألة التقليدية في سوء تدفق المعلومات حول الأحداث الجارية من مصادرها الأولية الى وسائل الإعلام بشكل عام والى وسائل الإعلام الأردنية بشكل خاص، وما يصاحب ذلك عادة من تردد وارباك وغياب أو صمت إعلامي وصولا الى مضمون الخطاب الإعلامي وما يحمله من أطروحات ومقولات وحجج ومرجعيات؛ أي ماذا نقول للناس وبأية وسيلة وبأي أثر متوقع .
   في هذا السياق يبدو الموقف الإعلامي الأردني ومنذ تفجيرات عمان الى حادثة خوست الأخيرة منفعلا في الأحداث الساخنة أكثر من كونه فاعلا وتابعا أكثر من كونه مبادرا ، وبينما ذهبت الخيارات الرسمية نحو طوارئ حقيقية غير معلنة في الأبعاد الأمنية وأحيانا الاستراتيجية العملياتية انتقل الإعلام الى حالة من الاسترخاء التدريجي والحضور الموسمي في قضية هي في جوهرها إيديولوجية، وترتبط بالعمق المجتمعي وبناء العقائد كما ترتبط بالأمن الإنساني ومصالح العباد من جهة أخرى ، وبالدرجة الأولى بالموقف الشعبي من الحلفاء شركاء هذه الحرب.
  يندمج المسار الاستراتيجي في الخيارات الرسمية في الموقف من الجهادية الأصولية وأخطارها والحرب على الإرهاب  وتقدير هذه الخيارات لمصادر التهديد والمصالح الوطنية بشكل جذري ومهني مع الخطاب الإعلامي، وفي الواقع وبغض النظر عن حجم وطبيعة تلك التقديرات فان المسارين لم يسيرا معا وكشفت الأحداث عن فجوة واسعة على اقل تقدير في أربعة أبعاد أساسية هي :
 أولا: المنظور الإعلامي المهني  الصرف وما يوفره ويتطلبه من قواعد وقيم وممارسات تنال المصداقية والشفافية  وحق المجتمع بالمعرفة والاحاطة الجارية بما يحدث، وثانيا: منظور بناء استراتيجيات الإعلام الاقناعي والذي يحتاجه هذا النمط من الصراعات ذات المضمون الإيديولوجي المرتبط بشكل مباشر بعواطف ومصالح الناس معا ، وثالثا:  إعلام إدارة الأزمات طويلة المدى وما يتطلبه من إعلام تحضيري؛ أي إعلام متنبه ولديه استعداد مسبق ورصيد لمواجهة الأزمات ورابعا: منظور كفاءة المضمون الإعلامي وجودته حسب خصائص ومتطلبات الجمهور المستهدف .
  هنا تقودنا المراجعة السريعة للخطاب الإعلامي الأردني منذ تفجيرات عمان الى حادثة خوست الى مجموعة من السمات تعبر عن اختلالات واضحة في بناء الخطاب البديل وفي المناظرة السطحية، وما نالها من مغالطات وفق منهج تحليل الخطاب والمتمثل في الفرضيات المشكوك فيها، والفرضيات المثيرة للمزيد من المشكلات والاستدلال الذي يصل الى نتائج متعجلة، وعدم وجود معايير مهنية للمحاججة. ولنأخذ أمثلة تطبيقية على ذلك :
-     عدم القدرة على اتخاذ مسافة واضحة وحدود فاصلة في الخطاب الإعلامي بين  (الحرب على الإرهاب ) وبين مقاومة التطرف الديني واستخدام العنف المادي باسم الإسلام ، وهي المسافة التي كان لابد من تدشينها ، وهي وحدها التي يمكن ان تصل إلى وعي الناس وتنعكس في مواقفهم واتجاهاتهم ثم سلوكهم.
-     عدم تبلور رؤية فقهية تبنى عليها استراتيجيات إعلامية، وتقدم على أساسها أطروحة مقاومة التطرف بأنها معركة من اجل إنقاذ الإسلام والدفاع عنه وأنها تخاض باسم الإسلام ومن اجل المسلمين المعاصرين ودورهم في الحضارة الإنسانية المعاصرة .
-     غياب مناظرة مجتمعية واسعة تحركها وسائل الإعلام حول حسم الموقف من الوظيفة الجهادية للتيارات المتطرفة وما مدى علاقتها  بمقاومة الاحتلالات الجاثمة وللظلم التاريخي الذي لحق بالمجتمعات العربية جراء سياسات دولية بعينها من دوامة الشبهات التي طالت هذه الممارسات وخلطت الأفكار والكلمات بالطلقات وبالأحزمة الناسفة والعبوات المتفجرة في ساحات غير ساحاتها وقضايا غير قضاياها، فلم تصب الطلقات أهدافها ولم تسمع الكلمات.
 بمعنى ان الخطاب الإعلامي عجز عن إحداث حالة فرز حقيقي واضح بين المقاومة الاستشهادية التي تستهدف قوة العدو وعتاده، وهي بالتالي ليست اختراعاً معاصراً، بل تعود إلى العمليات الاستشهادية الأولى في معركة اليرموك وغيرها، وبين عمليات أخرى يحتاج القاموس الإعلامي العربي إلى صك مفهوم جديد للتدليل عليها أكثر دقة من مفهوم الإرهاب، لان مفهوم الإرهاب المنسوخ عن الثقافة الغربية لا يعبر بشكل دقيق عن خلاصة هذه الظاهرة وعلاقتها بالإسلام .
الخطاب البديل: الكلمات قبل الطلقات
       قد يبدو ان هذه المهام في بناء الخطاب البديل اكبر من حجم الإعلام الأردني وقدراته إذا ما أضيف الى ذلك أزمته المزمنة التي يعانيها في وظائفه التقليدية، وان هذه المسألة تحتاج مرجعيات على مستوى العالم الإسلامي بأكمله ، لكن المؤسسة الرسمية التي استطاعت ان تتفوق في المعالجات الأمنية، عليها في اضعف الأيمان ان لا تغيب عن عمق مجتمعها.  
  في هذا السياق وبعد قرابة خمس سنوات على حادثة تفجيرات عمان نعيد السؤال المركزي؛ هل ازداد الأردنيون تطرفا حتى أصبحنا نفاجأ كل يوم بحجم تنامي الاستقطاب الذي أحدثته تيارات الأصولية الجهادية في صفوف فئة من الأردنيين، بينما كانت التوقعات التي بنيت على تراجع التأييد للقاعدة حسب استطلاعات الرأي بعد عام 2005 تذهب نحو حسم مجتمعي لمسألة الموقف من الإرهاب أو استخدام العنف باسم الدين.
   ثمة عوامل متعددة ومعقدة ومتشابكة في وصف وتحليل هذه المفارقة يقف على رأسها مقاربة موضوعية في توالي انحدار متوالية الصراع العربي الإسرائيلي على حساب الفلسطينيين  وقضيتهم في ضوء حساسية الجغرافيا الأردنية وحساسية التركيبة الديمغرافية معا وغياب رؤية واضحة للدولة في الثقافة والإعلام والتعليم  لإنقاذ المجتمع من التطرف.
 ولكن هذا البعد المركزي لا يعفي ولا يجب ان يعني غض النظر عن الفرص الضائعة التي أضاعتها الدولة الأردنية في حسم الموقف المجتمعي وخلق إزاحة تاريخية في مسألة الموقف من التطرف واستخدام العنف باسم الدين وهي معركة أخرى أكثر أهمية من حروبنا غير المعلنة وراء الحدود، وهذه المعركة ساحتها الأولى الإعلام ثم مؤسسات التنشئة والمساجد ومؤسسات التعليم، هذه الأداوات القادرة على خلق مساحة مشتركة بين قيم المجتمع وقيم الدولة، وسوى مبادرة وحيدة هي (رسالة عمان) تم تسويقها بطريقة فجة، لم يلحظ المجتمع الأردني أي مبادرة جادة تؤثر في حياتهم اليومية وفي طريقة رؤيتهم للأحداث وحكمهم على التحولات.
 على مدى خمس سنوات منذ صدمة تفجيرات عمان المباغتة نمت تيارات وعلاقات اقرب ما توصف بالزبونية التي تبحث عن مصالح ومنافع من وراء تقديم خطاب بديل هش وبائس لا يتمتع بعمق فقهي ولا بعمق أو ثقة مجتمعية، هذا الخطاب لم يوفق بالحد الأدنى من بناء أجندة بديلة حول اولويات المجتمع في مصادر فهم الإسلام وحسم الموقف من الأحداث وبالتالي حسم الموقف المجتمعي من التطرف، هذه العلاقات الريعية لم تقتصر على وسائل الإعلام، بل نالت علاقات الدولة بمؤسسات المجتمع المدني، وللأسف نالت حتى ادوار المساجد في تحديد تأطير الخطاب الديني حينما شهدت المزيد من التراجع، رغم ما تردده الحكومات من أنها تصرف على شؤون المساجد ما يقارب 30 مليون دينار سنويا، فإن أكثر من نصف مساجد المملكة متروكة من دون أممة ولا خطباء وبالتحديد في القرى والبلدات الهامشية والمخيمات ولا احد يستطيع ان يحدد ما هي اتجاهات المضامين الفكرية التي تشكل وجدان الناس وخياراتهم.
الفرص الضائعة
 كانت التوقعات عشية تفجيرات عمان تشي نحو فرص جديدة  بما تحمله من تحولات نالت سلوك الأصولية الجهاديـة المتطرفـة، وتبين عمق انفصالها الشعوري وحجم القطيعـة المجتمعيـة التي باتت تحكم سلوكها، وهذا التطور كان يمكن ان يمهد لبناء سيناريوهات أوليـة حول مستقبل هذه الظاهرة من خلال الردود المجتمعيـة، حيث يمكن ان نرصد ثلاث فرص ضائعة  كان من الممكن ان تتبلور لو وجدت رؤية في سياق إدارة الردود المجتمعية بواسطة وسائل الإعلام والمؤسسات الثقافية والتعليمية:
 الفرصة الأولى: بناء صورة ذهنية فارقة تجسد حالة الفرز النهائي في وعي الناس لهذه الظاهـرة وتقيّمها، تستند إلى الرؤية بالعين والدليل والحجة، ما سينقل جمهـور القلة من المسلمين المؤيدين لفكرة وسلوك "الجهادية الأصولية" إلى التساؤل والتردد، وينقل جمهور المسلمين المترددين إلى حسم رؤيتهم بزيف مقولات الجهاد المتطرف التي تصبغ هذه التيارات، ستقود هذه التحولات إلى اتساع الفجوة، وستزيد من عزلـة التطرف ونبذه، بمعنى ان  الأمر سينعكس في مظاهر السلوك العام وفي موقف جمهور المسلمين من رموز ومظاهر السلوك المتطرف في اللباس وهيئـة الجسد واللغة والخطاب.
وفي الوقت الذي ستدشن فيه هذه الصـورة الذهنيـة الفارقـة، ويبدأ  تشكل وعي جمعي مفارق سيزداد "الرهاب الاجتماعي" أي الخوف الجماعي في وسط جمهـور المسلمين أنفسهم،  لان اللحظات الفاصلـة التي تشهد على ميلاد وعي جديد، لها وجه آخر هو الاستقطاب الشديد، مع الأخذ بعين الاعتبار بأن التيارات  والتنظيمـات المتطرفـة تزداد تطرفاً أكثر مع ازدياد تضييق الخناق الاجتماعي حولها ، وهو أقسى  عليها من الخناق الأمني والسياسي، لأنها تدرك تماماً بان افتقادها العمق الاجتماعي يعني بداية نهايتها، لذا تزداد في غلواء تطرفها، وربما يصل التدهور بان تدخل هذه التيارات وحركاتها التنظيمية في مواجهة ثقافية متهورة ومدمرة مع مجتمعاتها بعد تجربتها المريرة والفاشلة مع النظم السياسية القائمة.
     الفرصة الضائعة الثانية: تأتي من صلب حركات الإسلام السياسي وتبرز تحت عنوان عريض يمثل لحظة الانتباه التاريخي، إذ انه مع ازدياد إمعان الأصولية المتطرفة في اغتيال عقيدة الجهاد وتحويلها الى سلوك دموي بائس، ومع انكشاف افتقادها للقضية التي أعلنت الجهاد من اجلها بعدما استعارت أهدافا وساحات بعيدة عن تلك القضية، يزداد في هذه الأثناء انتباه التيارات والتنظيمات الإسلامية الرشيدة الى الآثار الخطيرة التي ستطالها إذا ما فعلت شيئاً ما لوقف هذا التدهور المرضي في توظيف الدين؛ ففي نهاية المطاف سوف تجمع كل التيارات الدينية في سلة واحدة وبالتحديد في نظرة المجتمع وتقييمه.
     ويأخذنا هذا السيناريو نحو اكبر تنظيم إسلامي عالمي، وبالتالي اكبر تنظيم إسلامي في المشرق العربي يملك اكبر تراث تنظيمي وله أدبيات واسعة وغنية في ترشيد الحركات الإسلامية، وهو تيار الإخوان المسلمون، الأكثر قدرة على ممارسة هذه المهمة. وبالفعل كان للإخوان محاولة سابقة لخلق لحظة الانتباه التاريخي حول خطورة التنظيمات الجهادية المتطرفة وخطابها، رغم ان العديد من الآباء المؤسسين للجهادية الأصولية المعاصرة خرجوا من معاطف الأخوان.
 لكن الذي حدث على المستوى المحلي انه تم  تجاوز تاريخ التحالف مع هذا التنظيم وتم تطويقه ومحاصرته، فيما كان الإخوان اقل قدرة على إدراك كنه الفرصة وأنها لحظتهم وخانهم الذكاء التاريخي.
الفرصة الضائعة الثالثة: تتعلق بالتحولات العميقة التي تنال بنية المؤسسات الرسمية وشبه الرسمية الدينية  التي ترعرعت في كنفها تيارات أصولية متطرفة وفي مقدمتها الوهابية، وأخرى تمتعت بعمق ومرجعية مجتمعية وفي مقدمتها الأزهر، ومما لا شك فيه ان المؤسستين الدينيتين السابقتين قد نالتهما تحولات واسعة وكل واحدة منهما بطريقة مختلفة؛ إما بالتفكيك التدريجي ورفع الغطاء الرسمي البطيء، أو بفقدان الشرعية والمرجعية المجتمعية مع ازدياد اندماجها بالمشروع الرسمي، ما يعني البحث عن البديل .
 الخلاصة ان المسافة الزمنية  بين حادثتي (فنادق عمان) و(خوست افغانستان) على قدر ما أثبتت ان الأردن قادر ان يكون رأس الحربة في الدفاع عن أمنه الداخلي والإقليمي وان يتفوق على قدراته بقدر ما أثبتت أننا نعاني من فجوة كبيرة في البناء الثقافي والإعلامي أي الأساس الموضوعي لحماية مجتمعنا من الداخل، حينما ركنا الى ممارسات إعلامية أشبه بممارسات الهواة مع استمرار توالي تفريغ المؤسسات الثقافية والتعليمية وغياب منظور الكفاءة في التجسير بين قيم الدولة وقيم المجتمع.  

المراجع

جريدة الغد

التصانيف

صحافة  د.باسم الطويسي.   جريدة الغد