كدنا ننسى أن هذا الرجل، رحمه الله، كان حتى يومين مضيا ما يزال حيا يرزق، وقد جاء خبر وفاته ليقذفنا عقودا الى الوراء، إلى ذكريات من بواكير وعينا واهتمامنا السياسي.
كان عبدالرحمن عارف محسوبا بصورة ما على عبدالناصر لكنه لم يكن سلطويا ولا معاديا للقوى السياسية التي كانت تتنازع النفوذ في الشارع العراقي والقوات المسلحة، وتميزت فترة حكمه بالتسامح – الذي وصف بالضعف–. وكانت القوى السياسية تتحرك بحريّة وكنت أسمع من أخي الأكبر الذي كان يدرس في جامعة بغداد عن الشجارات الدموية بين البعثيين والقوميين والشيوعيين في الجامعة.
لم تكن القوى السياسية مقتنعة بالتعايش وتطوير نظام ديمقراطي، فالسلطة وحدها كانت الهدف، ولا شكّ أن هزيمة 67 أضعفت الرجل وأصبح الانقلاب مسألة وقت، وقد جاء بالفعل في 17 تموز 68 وقد اصبح يطلق عليه ثورة 17-30 تموز، والحقيقة ان انقلابَين قد تحققا؛ الأول بمشاركة قوميين وبعثيين ومستقلين (وقد شارك في الحكومة ايضا اثنان من الاخوان المسلمين)، والثاني، بعد 13 يوما فقط، بانقلاب البعثيين على شركائهم وتفردهم بالسلطة. لكن القادة التاريخيين للبعث ايضا انتهوا بالتدريج بين قتيل أو مشرد أو معزول أو خاضع للزعامة المطلقة لصدام حسين.
كان عرّاب انقلاب 17 تموز د. ناصر الحاني، وزير الخارجية الجديد، الذي لم يلبث أن اغتيل في شوارع بغداد تبعه زعيم الانقلاب عبدالرزاق النايف الذي ابعد للخارج ثم اغتيل في لندن وتوالت الاغتيالات والإعدامات لضباط ومنهم 77 ضابط وجبة واحدة بعد تهمة انقلاب 7 شباط 69.
وجاء الدور على البعثيين فقد أُبعد حردان التكريتي ثم اغتيل في الكويت وصالح مهدي عمّاش الذي قيل انه مات مسموما، وعبدالكريم الشيخلي الذي قتل في بغداد، وعبدالخالق السامرائي الذي كان في السجن وتم اعدامه على البيعة مع وجبة اعدامات المتهمين بالمؤامرة على صدّام حسين بعد انفراده بالسلطة وإقصاء أحمد حسن البكر، والبقية تاريخ معروف.
أتذكر أجواء التحفز عقب ذيوع خبر الانقلاب على عارف، وكان الشباب الأكبر سنا يتوزعون بين بعثيين وقوميين وشيوعيين والجميع يتابع بتوتر لمعرفة هوية الانقلاب. فالبيان رقم واحد لا يفيد كثيرا ثم حين أُعلنت الأسماء ميّز البعثيون رجالهم البكر وعمّاش والسامرّائي فصفقوا وطربوا. وكان البعث التاريخي على وشك الانقراض بعد أن خسر الحكم في سورية عام 66 حيث سيطر "يسار الحزب" أي جماعة صلاح جديد على السلطة.
ان 90% من المشاركين في الانقلاب على هذا الرجل المسالم عبدالرحمن عارف كانوا سيتمنون لاحقا لو لم يفعلوا ذلك، كان افضل لهم ولشعب العراق لو تخلوا عن فكرة الانقلاب وضغطوا من اجل تطوير دستوري يكرس الحكم البرلماني الديمقراطي، لكن هيهات، كان هذا لينطبق على كل الانقلابات ابتداء بالانقلاب الأول في 14 تموز 1958.

المراجع

جريدة الغد

التصانيف

صحافة  جريدة الغد   جميل النمري