الآن
نتحدث عن فصل جديد، مزدحم بالقضايا والمعلومات والإيحاءات، ونسأل الله عز وجل أن يوفقنا
على أن نحيط بكل ما جاء في هذا الفصل الكبير المزدحم.
وأسأل
الله عز وجل أن يوفقني إلى أن أبين إيحاءات هذا الفصل التي عشت فيها أياماً كثيرة.
ولذلك أحس أنه يحتاج تركيزا، فهو يجمع بين قضايا التصور والمنهج، وبين قضايا السلوك،
وأيضا قضية المعركة.
فهو
فصل مزدحم، يجمع بين طياته كثيراً من القضايا المهمة، والتي تحتاج دقة في التعبير،
ودقة في التلقي والفهم.. والله هو الموفق.
يقابلنا
أول ما يقابلنا عنوان الفصل.. وهو عنوان جديد ومثير "الإسلام هو الحضارة"..
ليس هو صانع الحضارة.. وليست الحضارة أحد نتائجه. ولكن التعبير يعطي تصورا مباشرا كما
لو أن الحضارة وجه من وجوه الإسلام.. أو هي الإسلام ذاته. وهذا يعطي للحضارة مكانة
ضخمة كبيرة، أكبر مما تعوَّد الناس أن يتعاملوا به مع كلمة الحضارة، ويعطيها بُعْداً
كونيا وربانيا، يجعلها في حس المؤمن شيئا آخر غير ما يحسه أي إنسان؛ سواء كان من أهل
الجاهلية، أو من أصحاب الأديان الذين يأخذون أديانهم بصورة سطحية أيا كان دينهم.
ولا
شك -كما عوّدنا الأستاذ سيد في هذا الكتاب- أنه كان يعيش الحقيقة بأعماقها البعيدة
والقريبة والواسعة وكلماته تحتاج دائما إلى شرح واسع كي تُفهم بأبعادها العميقة. ومن
الممكن أن تُفهم بصورة مختصرة جدا. وفي بعض الأحيان قد تفهم كلماته بصورة سطحية. ولكن
لا شك أن لتلك الكلمات أعماقها وجذورها وأبعادها كما عوَّدنا في هذا الكتاب المختصر
جداً، والمزدحم جداً بالقضايا. ومن وراء الازدحام توجد تلك الروح التي تنفخ فيمن يقرؤها
مزيجا من الإيمان والاستعلاء، والفرحة والإصرار والحماس لهذا الحق، وتنفخ فيه أيضا
كل ما ينبغي أن يتسلح به المؤمن في معركته في الأرض مع الشيطان، أو مع نفسه، أو مع
الجاهلية من حوله.
"الإسلام
هو الحضارة".. وهذا يعني أمرا كبيرا. فإذا كان الإسلام هو مظهر الكمال المادي
والمعنوي والسلوكي بالنسبة للإنسان، فإنه يرفع الإنسان إلى أعلى درجات الكمال المقدَّرة
للإنسان في الأرض، معنوياً ومادياً وسلوكياً. ومعنى ذلك أن الحضارة ينبغي أيضا أن تكون
مظهر الكمال المادي والمعنوي والسلوكي. فإذا كان الإسلام هو الحضارة، أو الحضارة هي
الإسلام، فينبغي أن يلتقي الإسلام والحضارة فيكونان مظهرين لهذا الكمال المادي والمعنوي
والسلوكي.
الحضارة
كتعبير لغوي جاء من التحضر، وهو الوجه الآخر للبداوة. فحينما كان الناس ينتقلون من
البادية إلى الحضر، ومن القرية إلى المدينة، ومن الصحراء إلى المركز أو المدينة، فإنهم
لا ينتقلون بكيانهم الذي كانوا عليه، وإنما بعد قليل يكتسبون صفات جديدة، وينتقلون
إلى مستوى جديد، ويبدأ في حياتهم نوع جديد من الرقي؛ سواء كان ماديا، أو معنوياً ويظهر
ذلك في التقاليد والعادات. ويكون هناك ذلك الفارق الذي تعوَّدنا أن نلحظه بين أهل الحضر
وأهل البداوة، سواء في طريقة الكلام، أو اللباس، أو استعمال الآلات والأدوات.
التحضر
يحمل في مجمله معنى الرقي. وبذلك فالحضارة تساوي مفهوم الرقي بالنسبة للإنسان.
وإذا
كانت الحضارة هي الرقي، فالحضارة أيضا مظهر الإبداع الإلهي لاسمه "البديع"
سبحانه، حيث أن الإنسان يكتشف كل يوم إبداعا جديدا يضيفه إلى رصيده. وكلما انتقل الإنسان
في سلم الحضارة اكتشف شيئا جديدا من الإبداع الإلهي.
وكأن
اسمه تعالى "البديع" يظهر في هذه الحضارة الإنسانية، ويعيشه الإنسان الذي
يكون واعيا لمصدر هذا الإبداع.
فيعيش
الإنسان مع الله عز وجل كلما اكتشف شيئاً جديداً، أو كلما عرف ناموسا جديدا أو قانونا
جديدا، وكلما اطلع على ذلك الإبداع الإلهي في توافق الكون، وأسرار هذا الكون، وأسرار
جسمه وخلاياه. وبهذه الصورة التي تبلغ درجة الكمال في الوظيفة والأداء.
فكأن
الحضارة هي السجل لاكتشاف الإنسان معنى الإبداع الإلهي. فحينما يربط الإنسان بين مراحل
حضارته، ومراحل تنقلاته في سلم الحضارة، فإنما هو في الحقيقة ينتقل في سلم العبودية
لله عز وجل، أو هكذا يجب أن يكون.
ينبغي
أن تكون الحضارة هي المعراج الذي يعرج فيه الإنسان ليصل إلى الله. فهي سبب من أسباب
اليقين، وسبب من أسباب الإيمان. فحينما يقال الإسلام هو الحضارة، أو الحضارة هي الإسلام
فإن الأمر يكون مفهوما، لأن الحضارة هي ذلك المعراج الذي يحقق الإسلام في نفس الإنسان
من خلال ما يراه ويعيشه ويبتكره. فيصبح الإنسان -وهو يرقى في سلم الحضارة- يرقى في
الحقيقة في سلم العبودية إذا أخذ الحضارة بشكلها الصحيح الذي يريدها الله للعباد.
يبدو
إذن التعبير في العنوان "الإسلام هو الحضارة" مفهوما، حيث تصبح الحضارة هي
معراج الإنسان إلى الله، رغم ما قد يبدو في ظاهرهما (أي الإسلام والحضارة) من اختلاف
في الشكل أو الصورة، لكن الجوهر واحد، لأنه نابع من مشكاة واحدة.
ولا
شك أن العنوان مثير.. وجديد.. وحقيقي.. ورائع. يربط الأستاذ سيد فيه بين مفهوم المسلم
لمعنى الحضارة، حيث تتحول الحضارة إلى معراج، وإلى معين للإنسان ليصل إلى الله، ولا
تنقلب الحضارة إلى أن تصبح عائقاً أو مُبعداً عن الله عز وجل.
"الإسلام
هو الحضارة" عنوان يستحق منا أن نقف عنده.. والفصل كله يحاول أن يشرح هذا المفهوم
بهذا المعنى الجديد والمحدد، الذي رفع الإسلام فيه الحضارة إلى أن تصبح معراجا إلى
الله، وتحقيق العبودية له سبحانه.
ولا
شك أن الله عز وجل حينما يقول في كتابه ﴿ هُوَ أَنْشَأَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ وَاسْتَعْمَرَكُمْ
فِيهَا ﴾ [هود: 61].. لا شك أن هذه النشأة كانت نشأة لتعبيد الإنسان لله عز وجل، وليكون
الإنسان عبدا، ويكون خليفة في الأرض. وقد استعمره الله فيها -أي طلب منه عمارتها- وهذا
الاستعمار، وهو التعمير للأرض، هو جزء من أسباب نشأة الإنسان على الأرض.
فالحضارة
وتعمير هذه الأرض، ليس بعيدا عن الهدف الأول الذي خلق له الإنسان.. ﴿ هُوَ أَنْشَأَكُمْ
مِنَ الْأَرْضِ وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيهَا ﴾ [هود: 61].
وإذا
كان التحضر يعني الرقي، والحضارة تعني ترقي الإنسان في معراج العبودية من خلال تعميره
لهذا الكون.. فإننا عندما نستعرض المقومات الأولية للرقي والتحضر سنجد من تلك المقومات:
العلم.
فالعلم
باب من أبواب التحضر. فلا تحضّر -مادياً ولا معنوياً- إلا من خلال العلم.
ولا
شك أن هناك أشياء كثيرة تغذي العلم، ومن أهم هذه الأشياء التي تغذي العلم ليصبح حضارة
تلك القوة التي وضعها الله في الإنسان؛ وهي قوة الخيال، أو طاقة الخيال. هذه الطاقة
من أروع الطاقات التي زود الله بها الإنسان، لأنه يتخيل الشيء قبل وقوعه، ويتخيل الشيء
قبل تصميمه، ويتخيل الواقع قبل أن يقع، وبالتالي يسعى إلى إقامته ويسعى إلى تنفيذه
في واقع الأمر.
فالعلم
مع طاقة الخيال يؤديان مهمة كبيرة جدا في أمر الحضارة وأمر إقامة هذه الحضارة.
كما
سنجد من مقومات الرقي والحضارة: التحرر. هو رغبة الإنسان في الانطلاق من القيود؛ قيود
الجهل وقيود العجز والتعب والنصب. فيحاول الإنسان أن يتحرر من هذه القيود بالسعي لتسخير
الأشياء التي حوله لكي يرتقي، ولكي يحقق أهدافا تجعله أكثر تحررا وأكثر سهولة في العيش
والحياة.
والتحرر
هنا ليس تحررا ماديا فقط بل هو معنوي أيضاً حيث يتحرر الإنسان من آفاته ومن شهواته
وغرائزه.
هذا
التحرر من قيود الجهل والعجز والتخلف، ومن قيود الأنانية والشقاق، وغيرها من القيود..
كل هذه مقومات من مقومات الرقي. فلكي يصبح إنسانا راقيا لا بد أن يكون متحررا، ليحقق
رقيا أكبر وأحسن.
كما
سنجد من مقومات الرقي والتحضر مُقوِّم التوافق الذي يؤدي إلى سعادة الإنسان.. التوافق
بين فطرته وبين الوجود من حوله، والتوافق بين ما يشعر به من مشاعر وقيم وبين ما يخترعه
من أسباب تُرقِّي الحياة مادياً.
هذا
التوافق، والتوفيق بين هذه الأمور هو مفتاح سعادة الإنسان.
وبقدر
ما يحقق الإنسان من توافق بين مشاعره ووجدانه وبين الأسباب المادية كلما كان محققا
للسعادة بصورة أفضل.
لذلك
نجد أن الحضارة تأخذ طعما جديدا حينما ننظر لها من خلال المقياس الإسلامي كما سنشرح
في هذا الفصل.
بعد
هذا العنوان يتحدث الأستاذ سيد عن مجتمعين في الحياة البشرية.. هما في الحقيقة يمثلان
البشرية بأجمعها، سواء في القديم أو في الحديث.
حيث
إنه في الواقع البشري دائما إما أن يكون المجتمع إسلاميا، أو يكون جاهليا. والإسلام
لا يعترف إلا بتقسيم البشرية إلى هذين المجتمعين من المجتمعات.. وإن لم يعرفهما الناس
في جاهليتهم. فيسمون المجتمعات الجاهلية بالمجتمعات الراقية أو المتحضرة، أو يطلقون
عليها أي اسم آخر.
هذه
المغالطة شيء، والواقع شيء آخر. فالإسلام حينما ينظر من منظاره.. "لا يعرف إلا نوعين اثنين من المجتمعات...
مجتمع إسلامي، ومجتمع جاهلي..
"المجتمع الإسلامي" هو المجتمع
الذي يُطبق فيه الإسلام.. عقيدة وعبادة، وشريعة ونظاماً، وخلقاً وسلوكاً.. و"المجتمع
الجاهلي" هو المجتمع الذي لا يطبق فيه الإسلام، ولا تحكمه عقيدته وتصوراته، وقيمه
وموازينه، ونظامه وشرائعه، وخلقه وسلوكه.."
بهذا
التعريف الواضح يصبح المجتمع الإسلامي ليس مجرد راية، ولا مجرد شعار، ولا مجرد لافتة،
ولا مجرد قانون، ولا مجرد عادة.. إنما هو دائماً مجتمع يعيش بقانون يأتيه من عند الله
عز وجل، ويملك جميع جوانب هذا الإنسان وهذا المجتمع، فلا يتخلف نشاط واحد في حياة الإنسان
عن هذا الدين، أو عن هذه العقيدة.
فالمجتمع
المسلم والمجتمع الجاهلي كلاهما مجتمعان يقومان على تصورين مختلفين. وتنظّمهما شرائع
وقوانين، كما قلنا قبل ذلك في حديث عن الجاهلية وعن الإسلام.
المجتمع
الجاهلي مؤسسة متكاملة، تغذي حياتها وأفرادها بكل ما يحتاجون إليه من عقيدة وتصور،
وعادات وتقاليد، وقانون ونظام، وقيم وموازين، ولكن في الاتجاه المنحرف الذي لا يُرضي
الله عز وجل.
ويشرح
الأستاذ سيد ماهية المجتمع الإسلامي فيقول:
"ليس المجتمع الإسلامي هو الذي يضم
ناساً ممن يسمون أنفسهم "مسلمين"، بينما شريعة الإسلام ليست هي قانون هذا
المجتمع، وإن صلى وصام وحج البيت الحرام! وليس المجتمع الإسلامي هو الذي يبتدع لنفسه
إسلاماً من عند نفسه -غير ما قرره الله سبحانه، وفصله رسوله ﷺ- ويسميه مثلا "الإسلام المتطور"!"
هذا
الحزم في التصور، والصلابة في التوصيف، لا بد أن يكون في نفس الدعاة إلى الله، وفي
نفس الرواد الذين لا يُخدعون بأشكال ولا بادعاءات ولا بشعارات ترفع، بينما الواقع شيء
آخر غير هذه الشعارات.
فسواء
كان الناس يظنون أنفسهم على الإسلام، وأنهم مسلمون.. أو يظنون أنهم يحكمون بشريعة الإسلام
إلا قليلاً.. فهذا كله لا قيمة له.. لأن المجتمع الإسلامي هو الذي يطبق فيه الإسلام
عقيدة وعبادة، وشريعة ونظاما، وخلقا وسلوكا. فإذا تخلف شيء من هذه الأشياء في حياة
هذا المجتمع دل هذا أن ذلك المجتمع قد خرج من الإسلام، وردَّ دين الله عز وجل، سواء
في جزئية أو في كلية.
وسواء
كانوا يسمونه إسلاما متطورا، أو إسلاما من أي نوع آخر.. فهذا نوع من الالتفاف حول الحقيقة،
وليس الحقيقة. فالمجتمع المسلم لا بد أن يُفهم بهذا الحزم في التصور والتوصيف.
(و "المجتمع الجاهلي" قد يتمثل
في صور شتى -كلها جاهلية-: قد يتمثل في صورة مجتمع ينكر وجود الله تعالى، ويفسر التاريخ
تفسيراً مادياً جدلياً، ويطبق ما يسميه "الاشتراكية العلمية" نظاماً.
وقد يتمثل في مجتمع لا ينكر وجود الله تعالى،
ولكن يجعل له ملكوت السماوات، ويعزله عن ملكوت الأرض، فلا يطبق شريعته في نظام الحياة،
ولا يحكِّم قيمه التي جعلها هو قيماً ثابتة في حياة البشر، ويبيح للناس أن يعبدوا الله
في البِيَع والكنائس والمساجد، ولكن يحرِّم عليهم أن يطالبوا بتحكيم شريعة الله في
حياتهم، وهو بذلك ينكر أو يعطل ألوهية الله في الأرض، التي ينص عليها قوله تعالى: ﴿
وَهُوَ الَّذِي فِي السَّمَاءِ إِلَهٌ وَفِي الْأَرْضِ إِلَهٌ ﴾ [الزخرف: 84]).
وإذا
كان المجتمع الأول ينكر وجود الله جهلاً بالحقيقة، فإنهم منطقيون مع هذا الجهل الذي
يتَّبعونه. لأنهم حينما يعيشون على أهوائهم فهم يعيشون تحت معتقد أنه لا شيء فوقهم.
فهم أكثر منطقية من الذين لا ينكرون وجود الله ثم يخالفون هذا الإله في حياتهم.
فإذا
كان المجتمع الشيوعي جاهلاً بالحقيقة، فإن حياته منطقية مع هذا الجهل، فهو يرتب على
معتقده الجاهل هذا أمورا تسير مع القاعدة التي قام عليها.
أما
المجتمعات التي تعلن وتدعي أنها تعرف الله وتؤمن به، ثم لا ترتب على هذه المعرفة والعلم
الذي تدعيه حياتها فهي مجتمعات غير منطقية..
فإن
علمها هذا علم غير منطقي.
ثم إن
ذاك الجهل المنطقي عند الشيوعيين، وهذا العلم المعاكس للمنطق عند من يدعون الإسلام،
يمثل -كلاهما- صورة الجاهلية في وضع من الأوضاع.
فسواء
كان الناس ينكرون الله ابتداءً. أو كانوا يعترفون بوجود الله ولكنهم يخصصون له جزءاً
من الوجود أو جزءاً من الحقيقة، فإنهم في تلك الحالتين يعيشون في جاهلية.. لأن واقعهم
يتناقض مع الحقيقة الربانية التي تقرر ﴿ وَهُوَ الَّذِي فِي السَّمَاءِ إِلَهٌ وَفِي
الْأَرْضِ إِلَهٌ ﴾ [الزخرف: 84]. ومن ثم فإن هذا المجتمع لا يكون في دين الله عز وجل،
حيث إن دين الله يقرر ﴿ إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ أَمَرَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا
إِيَّاهُ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ ﴾ [يوسف: 40].. وبذلك يكون هذا المجتمع الذي يؤمن
بوجود الله ولا ينكر ذلك، مجتمعا جاهليا إذا لم يكن الحكم فيه لله، حتى لو ترك الناس
يقدمون الشعائر التعبدية لله عز وجل، لأنهم يعزلون الله عن الحكم وينقضون شريعته.
" "المجتمع الإسلامي" -بصفته
تلك- هو وحده "المجتمع المتحضر"، والمجتمعات الجاهلية -بكل صورها المتعددة-
مجتمعات متخلفة! ولا بد من إيضاح لهذه الحقيقة الكبيرة."
ثم يقول
إنه أعلن مرة عن كتاب له بعنوان "نحو مجتمع إسلامي متحضر" ثم عاد في الإعلان
التالي عنه فحذف كلمة "متحضر" واكتفى بأن يكون عنوان الكتاب "نحو مجتمع
إسلامي"، ويقول إن هذا التعديل لفت نظر كاتب جزائري -الكاتب هو مالك بن نبي- الذي
فسر تراجع الأستاذ سيد، أو حذفه لكلمة "متحضر" على أنه ناشئ من "عملية
دفاع نفسية داخلية عن الإسلام"، وأسف لأن هذه العملية غير الواعية -كما يقول مالك
بن نبي- تمنع الأستاذ سيد من مواجهة المشكلة على حقيقتها.
وكأن
مالك بن نبي يريد القول إن الإسلام يقف في موقف اتهام، ويحتاج إلى أن يدافع عنه. وكأنه
لا بد أن يكون في نفوس المسلمين في واقعنا الحاضر إحساس دائم أنهم في حالة دفاع. وأن
الأستاذ سيد عندما حذف كلمة "متحضر" قد غفل عن ذلك وكان ينبغي عليه أن يقول
ويؤكد لأعداء الإسلام من الجاهلية الأوروبية أن الإسلام متحضر، في حين كان يرى الأستاذ
سيد أن كلمة "متحضر" وصف زائد لا ضرورة له بل الضرورة في الإبقاء عليه لأنه
يوحي ولو من بعيد أنه يمكن أن يكون ثمة إسلام غير متحضر في حين أن الحقيقة أنه حيث
وُجد الإسلام وُجدت الحضارة فهي وصف ملازم غير منفك للإسلام.
وإنما
المشكلة -في حقيقتها- هي في الناس المنتسبين للإسلام، وليست في قضية الإسلام ذاته.
فحينما يقول الأستاذ سيد "نحو مجتمع إسلامي" فهو يتحدث عن ذلك المجتمع الذي
ينبغي أن يقوم على صورة الإسلام الحق الذي جاء من عند الله. أما كون الناس لا يقيمون
الإسلام بصورة صحيحة فهذا أمر آخر فهي مشكلة الناس الذين يدّعون الإسلام وليست مشكلة
الإسلام ولن تكون هذه المشكلة قائمة يوم يقوم المجتمع المسلم بصورته الصحيحة. ولكن
مالك بن نبي تصور أن المشكلة هي أن واقع الإسلام الآن واقع يحتاج إلى أن يدافع عنه..
واقع يحتاج إلى اعتراف بأن هناك مشكلة في حياة المجتمع المسلم.. أو في المجتمعات التي
تسمي نفسها مسلمة.
ومالك
بن نبي ليس غريبا علينا.. وكتبه كلها فيها الاهتمام بالإسلام والحماسة للإسلام. ولكن
من منظور غربي. فهو متأثر كثيرا جدا بالمفاهيم الغربية. ففي كتابه "الإسلام والحضارة"
أورد معادلة معينة رآها السبيل لتحقيق الحضارة:
إنسان + تراب + زمن = حضارة
ولم
يدخل في هذه المعادلة دين الله عز وجل، ولا هدي السماء. فالإنسان مع التراب مع الزمن
سينشئ حضارة. لأن الإبداع الإنساني عند الغرب عبارة عن قوة وتقدم مادي وسيطرة. وهذا
ممكن لكل إنسان بغض النظر عن دينه؛ هل هو الإسلام أم غيره.
فمالك
بن نبي متأثر بمفهوم الحضارة في الفكر الغربي. وبما أن المسلمين ليسوا أقوياء، وليس
عندهم تقدم مادي، وليست هناك سيطرة.. فإذن يصبح هؤلاء متخلفين وغاب عنه أن المشكلة
تكمن في هذه المجتمعات التي ترفع الإسلام شعاراً وتتنكر له واقعاً ومن ثم فإنها لا
تنال بركة الإسلام ولا يعطيها ثمراته الطيبة.
يقول
الأستاذ سيد "أنا أعذر هذا
الكاتب.. لقد كنت مثله من قبل.. كنت أفكر على النحو الذي يفكر هو عليه الآن.. عندما
فكرت في الكتابة عن هذا الموضوع لأول مرة! وكانت المشكلة عندي -كما هي عنده اليوم-
هي مشكلة: "تعريف الحضارة"!"
ولا
شك أن الأستاذ سيد كان قاسيا في تجاهله لمالك.
ولعله
كان يتعمد ذلك التجهيل عندما تعمد عدم ذكر اسمه فقال عنه "كاتب جزائري "يكتب بالفرنسية".."
ثم قال بعد ذلك "وأنا أعذر
هذا الكاتب.." لعله تعمد ذلك لكي يبرز استعلاءه بالحق الذي
يريد أن ينشره ويقرره في مواجهة مالك بن نبي؛ ذلك الرجل الذي كانت له أيضا مكانة عند
القارئ العربي..
ثم يقول
الأستاذ سيد "وكانت المشكلة
عندي -كما هي عنده اليوم- هي مشكلة: "تعريف الحضارة"!"
وأنا
أقول إن المشكلة عنده ليست في تعريف الحضارة.. بل هي مشكلة "تعريف الإسلام".
فلو أنه عرف الإسلام لأدرك معنى الحضارة.
والأستاذ
سيد نفسه لم يعرف معنى "الحضارة" إلا بعدما عرف حقيقة الإسلام. فلما فتح
الله عليه بهذا المفهوم الصحيح للإسلام عرف من خلاله معنى "الحضارة". ومالك
بن نبي لم يصل إلى هذا الأمر، وبالتالي ظل على خطئه؛ سواء في "تعريف الإسلام"،
أو في "تعريف الحضارة" كليهما.
يقول
الأستاذ سيد "لم أكن قد
تخلصت بعد من ضغط الرواسب الثقافية في تكويني العقلي والنفسي، وهي رواسب آتيه من مصادر
أجنبية.. غريبة على حسي الإسلامي.. وعلى الرغم من اتجاهي الإسلامي الواضح في ذلك الحين،
إلا أن هذه الرواسب كانت تغِّبش تصوري وتطمسه! كان تصور "الحضارة" -كما هو
في الفكر الأوروبي- يخايل لي، ويغبش تصوري، ويحرمني الرؤية الواضحة الأصيلة."
وهذا
الأمر كان شأن الجيل الذي شهد الهزيمة في مواجهة الغزو الفكري الأوروبي. فحينما استعمرت
أوروبا الشرق الإسلامي والغرب الإسلامي كله حدث مع ذلك الاستعمار تلك الهزيمة التي
عاشها ذلك الجيل السابق.. وحيث ظنوا أن الرقي والحضارة هو في ذلك النموذج الأوروبي..
فالهزيمة
كانت مريرة جداً على جميع المستويات بالنسبة لذلك الجيل الذي نشأ فيه الأستاذ سيد.
وكان أقرانه كلهم على هذا النمط من الهزيمة أمام الوضع في العالم الشرقي حينذاك. فهم
كانوا في مأزق حقيقي له ما يفسره، وليس له ما يبرره، والمأزق أن الواقع كان فقيراً؛
سواء في الجانب الديني، أو في الجانب المادي. وكانوا غير مستمسكين بالدين. وكان واقعهم
بعيداً بُعداً هائلاً عن التصور الإسلامي الصحيح، وعن الممارسة الإسلامية الصحيحة.
وكان التصوف والفِرق والأفكار الكثيرة المنحرفة موجودة، بحيث أنها طمست صورة الإسلام
الحقيقي. فكانوا يعانون من تصورات بثتها الصوفية والفِرق الكلامية وصار ما يحسون به
تجاه تلك التصورات التي يظنونها الإسلام مشابهة لتلك التي كان يجدها الأوروبي تجاه
الكنيسة. وكان المسلم يحس أن الإسلام -بصورته هذه- مُعوِّق للرقي، ومعوق لإحساس الإنسان
بالحرية والانفتاح. فكان المأزق الديني موجوداً عندما جاء المستعمر الغربي إلى العالم
الإسلامي.
وكذلك
الواقع المادي -أيضا- كان متخلفاً.. كان هناك الضعف العلمي والعسكري والمادي.
فعندما
جاءت القوات الأوروبية تحمل القوة العسكرية مع العلم المادي مع الفخامة في التحضر المادي،
وجد أهل ذلك الجيل نفسه في مأزق. ولم يجدوا مناصا من أن يحاولوا أن يتبنوا النموذج
الأوروبي والنمط الأوروبي، وهو ما عبر عنه طه حسين بقوله: إننا ينبغي أن نأخذ الحضارة
الأوروبية بكل ما فيها، بحلوها ومرّها، وخيرها وشرها.
هذا
المأزق هو الذي يفسر لنا كيف كان مالك بن نبي، أو طه حسين، أو العقاد، أو كل المشاهير
الذين نعلمهم في تاريخ ما يسمى بالنهضة العربية، كانوا كلهم واقعين تحت الإعجاب والانبهار
بالنموذج الغربي.
وكذلك
-أيضا- كان محمد عبده والأفغاني.. كانوا كلهم خاضعين لهذا النموذج الأوروبي، أو معجبين
به. حتى أن محمد عبده يقول: ذهبت إلى أوروبا فوجدت إسلاما بلا مسلمين، وجئت إلى هنا
فوجدت مسلمين بلا إسلام.
ولا
شك أنه مغالط في هذا تماما. فلم يكن ذاك الذي شاهده في أوربا إسلاماً.. ولكنه تصور
أن التقدم المادي، والحرية في التعبير، والديمقراطية.. تصور أن هذا هو الإسلام.. ونسي
أن الإسلام شيء آخر؛ وهو أن يكون الناس عبيدا لله، وليسوا عبيدا لأنفسهم كما كانت أوروبا
ترى، حتى أنها أعلنت موت الإله!!
ولكن
محمد عبده -لأنه كان مهزوما هزيمة منكرة بشعة- تصور أن أوروبا بهذا التقدم المادي وهذه
الحرية والديمقراطية قد حققت الإسلام.. وإن كانوا غير مسلمين. بينما الذي غاب عن الشرق
هو الإسلام، وإن بقي الناس مسلمين. وهي مغالطة أخرى.. فكيف لا يكون هناك إسلام ثم يكون
الناس بعد ذلك مسلمين؟ فهي مغالطة كبيرة، ليست بعيدة عن منهج محمد عبده.. الإمام الأعظم!
كما يسمونه.
ثم يقول
الأستاذ سيد "ثم انجلت الصورة..
"المجتمع المسلم" هو "المجتمع المتحضر". فكلمة "المتحضر"
إذن لغو، لا يضيف شيئاً جديداً.. على العكس تنقل هذه الكلمة إلى حس القارئ تلك الظلال
الأجنبية الغربية التي كانت تغبش تصوري، وتحرمني الرؤية الواضحة الأصيلة! الاختلاف
إذن على "تعريف الحضارة".. ولا بد من إيضاح إذن لهذه الحقيقة!"
ونحن
نستطيع أن نلخص التوضيح لهذه الحقيقة تحت عنوان "مقومات الحضارة" كما يراها
الإسلام. وكما قلت إننا سنكتشف أن الحديث عن الحضارة هو الحديث عن الإسلام، لكي يتأكد
لدينا العنوان الرائع لهذا الفصل "الإسلام هو الحضارة".
أول
مقوم من مقومات الحضارة هو "التحرر". ويأتي التحرر هنا بمعنى تحرير الإنسان
من العبودية لغير الله عز وجل.
"حين تكون الحاكمية العليا في مجتمع
لله وحده -متمثلة في سيادة الشريعة الإلهية- تكون هذه هي الصورة الوحيدة التي يتحرر
فيها البشر تحرراً كاملاً وحقيقياً من العبودية للبشر.. وتكون هذه هي "الحضارة
الإنسانية" لأن حضارة الإنسان تقتضي قاعدة أساسية من التحرر الحقيقي الكامل للإنسان،
ومن الكرامة المطلقة لكل فرد في المجتمع.. ولا حرية -في الحقيقة- ولا كرامة للإنسان
-ممثلاً في كل فرد من أفراده- في مجتمع بعضه أرباب يشرعون، وبعضه عبيد يطيعون!"
فالعبودية
لغير الله ذل وسجن للإنسان. فحينما يتوجه الناس جميعا بالعبادة لله عز وجل وحده، وحينما
يخضعون لشريعته وحدها، فهم إذن خاضعون لمن يستحق الخضوع، ولمن هو جدير بهذا الخضوع.
لأن الله هو الذي خلقهم، وهو الذي يملكهم.. فضلا عن أن الله هو الذات التي ليس كمثلها
شيء، والذي يستحق من خلق الله كلهم، ومن الوجود كله، أن يخضع له سبحانه، وهم حين يخضعون
له لا يشعر واحد منهم أنه ذليل، أو أنه غير متحرر. فالتحرر الحقيقي هو أن يتخلص الإنسان
من كل خضوع وذل لغير الله، وأن يخضع لله وحده، ويحس حينما يخضع لله أن كرامته الإنسانية
متوفرة، وأن سعادته أيضا متوفرة.
والعجب
ممن يقولون إن الإيمان بالله والخضوع لله هو ذل وقيد وعدم تحرر، وإن الإنسان حينما
يرفض الخضوع لله يكون متحرراً من كل سيطرة عليه! في حين نجدهم حينما خرجوا عن عبوديتهم
لله خضعوا لمعبودات شتى؛ وأولها الإنسان. خضع الناس بعضهم لبعض، وتحكمت فيهم الطواغيت..
تجد فردا واحدا يمكن أن يتحكم في الأرض كلها كما نرى الآن من محاولة الولايات المتحدة
أن تكون هي صاحبة السلطة الوحيدة التي تقرر في شأن الشعوب وشأن الدول، بل في شأن الحكام
ما تريده.. فهي تقرر ما تشاء، وتنفذ ما تشاء.. والذي لا يعجبه عليه أن يتلقى عقابه..
ونجدها تغير الحكام وتخطفهم وتحاكمهم، وتدخل بجيوشها لتغير الأمور كما تريد.. فكأن
فردا واحدا في البيت الأبيض يتحكم في شعوب العالم كلها، ولا يستطيع أحد أن يعترض.
فالناس
حينما زين لهم الشيطان أن يتحرروا من سلطان الله لم يتحرروا في الحقيقة، وإنما أصبحوا
أذلاء وخاضعين لكل شيء.
وهم
في جميع المجالات يخضعون لآلهة متعددة.. فهم حينما خرجوا من عبادة الله وحده، ومن الخضوع
لله وحده، وقعوا في ألوان شتى من العبودية فهم يخضعون للحكام في الجانب السياسي، ويخضعون
للاقتصاد ووزراء الاقتصاد في الجوانب المادية، ويخضعون للفنون ولأهل الفن في أمور الفن..
وهكذا نجدهم دخلوا في عبوديات شتى لآلهة شتى متعددة تخضعهم لها، ولا يخضعون لإله واحد.
فهم
في الحقيقة لم يحققوا الهدف الذي زعموه حينما خرجوا من عبوديتهم لله ومن خضوعهم للدين،
بل خرجوا إلى فوضى في العبادة، فعبدوا آلهة شتى، ولم يستطيعوا أن يخرجوا من هذه العبودية
المذلة.
يقول
"ولا بد أن
نبادر فنبين أن التشريع لا ينحصر فقط في الأحكام القانونية -كما هو المفهوم الضيق في
الأذهان اليوم لكلمة الشريعة- فالتصورات والمناهج، والقيم والموازين، والعادات والتقاليد..
كلها تشريع يخضع الأفراد لضغطه. وحين يصنع الناس -بعضهم لبعض- هذه الضغوط، ويخضع لها
البعض الآخر منهم في مجتمع، لا يكون هذا المجتمع متحرراً، إنما هو مجتمع بعضه أرباب
وبعضه عبيد -كما أسلفنا- وهو -من ثم- مجتمع متخلف.. أو بالمصطلح الإسلامي "مجتمع
جاهلي"!"
والشرع
الإلهي هو كل ما جاء من عند الله عز وجل، سواء في قضية الاعتقاد، أو العادات والتقاليد،
أو الأحكام والشرائع، أو المشاعر.. كلها شرع الله عز وجل.. ﴿ شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ
﴾ [الشورى: 13].. شرع كل شيء في حياة الإنسان.
ولا
شك أن الذين يخرجون عن ألوهية الله، ويعبدون آلهة شتى.. يخضعون لهذه الآلهة في كل شيء.
فالجاهلية تضع للناس قيما وأخلاقا، وليس فقط قوانين تحكم حياتهم المدنية والاقتصادية
والجنائية.. وإنما تضع لهم قيما. فيصبح التحرر من كل الأخلاق قيمة.. ويصبح الزنا، والتحرش
الجنسي، والملكية الفردية التي لا قيود عليها، والتنافس غير الشريف قيماً تصنعها الجاهلية
ليخضع لها الأفراد.
تضع
لهم أيضا موضات في كل شيء: في المأكل.. في الملبس.. في تسريحة الشعر.. في لبس الأحذية..
وفي كل شيء نجد الجاهلية تتدخل..
لذلك
فإنه عندما يخرج الإنسان من عبوديته لله يجد نفسه في بحر هائج من الموضات ومن الأخلاقيات
ومن القيم. ونجد أن الإنسان مضطر أن يخضع لها طالما لم يحرر نفسه من العبودية لهذه
الآلهة..
تضع
لهم آداب: أن ينحني الرجل للمرأة ويقبل يدها و ladies first..
كل هذه
آداب لا بد أن يصنعوها وإلا يكونون موضع ازدراء..
تفرض
عليهم أن يشربوا الخمر.. أن يراقص بعضهم بعضا.. ألا يرقص رجل إلا إذا تقدمت له امرأة
تطلبه لكي يرقص معها، ولا يجوز له أن يرفض إذا كان "جنتلمان"..
تفرض
عليهم تقاليد بصورة معينة في الجنائز والأفراح، كما نرى الآن أن التقاليد الأوروبية
تصل إلينا هنا في عقر دارنا.. وفي الأفراح الآن لا بد أن يرقص العريس مع العروس أمام
المدعوين.. ولا بد أن يسقيها نخب الفرح، وتسقيه كذلك.. ويقبلها وتقبله أمام المدعوين..
كل هذه
تقاليد صنعوها لهم فاتبعوها، لأنهم قد اتخذوا آلهة غير الله عز وجل.
وتصنع
لهم الجاهلية أهدافاً.. سواء للسيطرة السياسية أو العسكرية أو الاقتصادية، أنماط الاقتصاد،
أنماط اللهو والتسلية، أشكال الاستهلاك، وتعرض القنوات التلفزيونية أفلاما معينة، وتنشر
قصصاً معينة، وأشعاراً معينة.. تفرضها علينا أجهزة الفيديو والإنترنت..
كل هذه
تصنعها الجاهلية.. لأنها مؤسسة متكاملة. فليست الجاهلية مجرد أن نأخذ أحكاما من أوروبا
فيما يخص الاقتصاد والسياسة. وإنما تتدخل الجاهلية في أهدافنا.. وبالتالي يحدث الاستعمار،
يحدث أن تطغى أمة على أمة، ويطغى شعب على شعب.. لمجرد أن يصنع منه سوقاً لبضائعه أو
يسرق خاماته.
أصبح
هناك أهداف غير الأهداف التي شرعها الله عز وجل.
وكذلك
الوسائل، فوسائل الجاهلية مرنة جدا، لا تتمسك بقيم أو أخلاق. وعندهم الغاية تبرر الوسيلة.
بل يرفعون الوسائل الخسيسة إلى أن تصبح وسائل مقدسة. كما يرفعون من شأن المخادنة والزنا،
وتصبح المومس الزانية هي التي تسقط زعيما سياسيا، أو تحرر شعبا من الأغلال لتصبح قديسة.
فالشريعة
ليست هي القانون والأحكام التي تنظم الحياة الجنائية أو الاقتصادية أو المدنية فقط..
إنما
الشريعة هي كل ما يُشرَّع لكي يحكم حياة الناس ويصرفها ويلوّنها.
فالله
عز وجل له شرعه الذي يلون حياة الناس، ويجعلهم متماشيين مع عبوديتهم لله.
والجاهلية
أيضا تضع شرعا تُخضع الناس له، وتلون حياتهم -كما قلنا- وأهدافهم وتقاليدهم وآدابهم
وفنونهم وأخلاقهم وقيمهم كي تتمشى مع شرعها. ومن ثم فإن حرص الإسلام على مخالفة الجاهلية
في كل شيء يصبح دينا، ولا يصبح مجرد عادة أو تقليد، أو مجرد شيء كمالي، لأن التقليد
في الكلمة أو التسريحة أو الملبس أو العادة هو في الحقيقة تسرب لدين الجاهلية إلى قلوبنا،
أحسسنا أم لم نحس. وهذا معروف في الواقع الإنساني، وفي الفلسفة الاجتماعية الإنسانية..
فإذا غيرت زي إنسان سيتغير عقله وتفكيره، لأنه لا بد أن يتواءم مع الزي الجديد.
فالجاهلية
الأوروبية تعرف حقيقة الإنسان وطبيعته. ومن ثم حرصت الجاهلية الأوروبية في استعمارها
للبلاد الإسلامية على تغيير العادات والتقاليد والزي، لأنه لو ظل المسلمون ملتزمين
بأزيائهم وطريقتهم في الكلام وتعاملاتهم مع المرأة سيظل التأثير الأوروبي قليلاً وليس
فعّالاً.
لا بد
أن يتغيروا.. ولذلك كانوا يصنعون رُواداً من أتباعهم.. أول امرأة تلبس الملبس الإفرنجي..
أول رجل يلبس القبعة..، تبديل تعبيرات اللغة العربية.. مثلاً thank you
بدلا من شكرا لك، يقول عن القهوة café وعلى الشاي tea
لكي يتلون من الداخل، لأن الإنسان لا يصنع ذلك إلا إذا كان معجباً..
لا يغير كلمة مكان كلمة ولا سلوك مكان سلوك إلا إذا كان قد أعجب بالسلوك الجديد واستهان
بالسلوك القديم.. عندما نغير كلمة "السلام عليكم" إلى "مساء الخير"
معناه أنك ترى "مساء الخير" أفضل. وهكذا كان الاستعمار حريصا أن يغير العقلية
الإسلامية بتغيير الزي والأشكال والعادات. ولذلك يجب أن نحرص مع أنفسنا على أن نحررها
من هذا بقدر الإمكان، بحيث إذا لم نستطع أن نرجع إلى زينا في القديم فلا أقل من أن
نتباطأ في كل تغيير للموضة، وخاصة إذا كان تغييرا يتلامس مع بعض مشاعرنا أو مقاييسنا.
لا يجوز أن نلبس بنطلونا ضيقا يظهر العورة من الإمام أو الخلف، لأننا نرفض هذه الموضة..
لا يجوز أن نلبس قميصا مرسوم عليه رسومات لا تليق برجل أن يلبسه.. لا يجوز أن نسرح
تسريحة تجعلنا في طابور المعجبين بممثل خليع أو ممثلة.
لا بد
أن نحرص في تربيتنا لأولادنا بأن نقلل بقدر الإمكان من ملاحقة الموضة التي نرى أنها
ستشكل -دون وعي من الأولاد ودون وعي منا- عقولهم ومشاعرهم وتصوراتهم.
والأستاذ
سيد يقول إن التشريع لا ينحصر فقط في الأحكام القانونية كما هو في المفهوم الضيق عن
الشريعة، ولكن هو تصورات ومناهج وقيم وموازين وعادات وتقاليد يضغطون بها على الناس
ليتغيروا، فيشرع البعض ليتلقى البعض الآخر، ويصبح البعض أربابا والآخر عبيدا، والمجتمع
الذي يقبل ذلك يكون مجتمعا متخلفا.
"والمجتمع الإسلامي هو وحده المجتمع
الذي يهيمن عليه إله واحد، ويخرج فيه الناس من عبادة العباد إلى عبادة الله وحده. وبذلك
يتحررون التحرر الحقيقي الكامل، الذي ترتكز إليه حضارة الإنسان، وتتمثل فيه كرامته
كما قدرها الله له، وهو يعلن خلافته في الأرض عنه، ويعلن كذلك تكريمه في الملأ الأعلى..."
ففي
المجتمع المسلم الذي يدين فيه الكل لإله واحد، يتلقون منه العقيدة والشرائع والشعائر
والتقاليد، فلا يصنعها إنسان لإنسان، وإنما يصنعها الله للبشر جميعا.. يكونون جميعا
في مقام العبودية، ويتحررون من أن يخضع بعضهم لبعض.
وهذا
هو المقوم الأول من مقومات الحضارة؛ التحرر من العبودية لغير الله، وهو كما نرى المقوم
الأول من مقومات الإسلام.
فالإسلام
هو أن يكون الناس عبيدا لله وحده، وأن يتحرروا من العبادة لغير الله؛ وهذا يعني تحقيق
شهادة أن لا إله إلا الله.
"وحين تكون آصرة التجمع الأساسية فـي
مجتمع هي العقيدة والتصور والفكرة ومنهج الحياة، ويكون هذا كله صادراً من إله واحد،
تتمثل فيه السيادة العليا للبشر، وليس صادراً من أرباب أرضية تتمثل فيها عبودية البشر
للبشر.. يكون ذلك التجمع ممثلاً لأعلى ما في "الإنسان" من خصائص.. خصائص
الروح والفكر.."
فالمقوم
الثاني هو تحقيق وإعلاء الخصائص التي تميز الإنسان عن بقية المخلوقات الأرضية، وعن
بقية الحيوانات.
فحينما
تكون آصرة التجمع هي الجنس أو اللون أو الأرض أو غيرها من الروابط التي لا تمثل الخصائص
العليا في الإنسان فإن المجتمع التي آصرة التجمع فيه واحدة من تلكم الأواصر يكون مجتمعاً
غير متحضر وذلك لأن تلك الروابط ليست هي الخصائص التي تميز الإنسان بل هي روابط قسريه
لم يخترها الإنسان.. فالإنسان يستطيع أن يغير فكره وعقيدته، بينما لا يستطيع أن يغير
تلك الروابط الأخرى من لون أو أرض أو جنس أو قوم.
فهذه
الروابط هي روابط الحيوان. فالحيوان مرتبط بالأرض التي يعيش فيها، ومرتبط بالوظيفة
التي يؤديها، وبالغذاء الذي يأكله..
والإنسان
يستطيع أن يعيش إنساناً إذا كان يملك القدرة على تغيير عقيدته وفكره. ويستطيع أن يعيش
إنسانا إذا كان حرا في الاختيار في هذه الأمور.
أما
إن كان مستعبدا لروابط لا يستطيع أن يغيرها فهو لن يكون حرا، وإنما يطمس بذلك خصائصه
العليا من أجل خصائصه السفلى الأخرى.
فمهمة
الحضارة هي إعلاء الخصائص العليا في الإنسان؛ وهي خصائص الروح والفكر. لا أن تحكم فيه
الخصائص الأخرى التي هي روابط جاهلية وحيوانية، تجعل الإنسان عبداً وغير مترفعاً، ولا
تحرك فيه نوازعه العليا إلى العقيدة وإلى العبادة.
ولا
شك أن الروابط الاختيارية غير القاهرة هي التي تميز الإنسان المتحضر عن الإنسان المتخلف
-أو غير المتحضر-.. ومن ثم كان من أساس الحضارة الإسلامية هو إعلاء الخصائص العليا
في الإنسان، وعدم تقييده بالخصائص الأخرى التي تقيده.
ولا
شك أن هذه نقطة مهمة في حياة الإنسان المسلم، تغيره، وتجعله متميزا عن بقية المجتمعات
الأخرى.
والمأزق
الحضاري الذي تعيشه البشرية اليوم هو أنها تبعد عن خصائص الروح والفكر، وتعلي خصائص
الجسد والغريزة. وبذلك يظل الإنسان في سجن حقيقي. لأن الإنسان بهذا الشكل يدفن خصائصه
العليا من أجل خصائصه الدنيا. وهذا هو المأزق الذي تقود الجاهليةُ في عمومها الإنسانَ
إليه، وهو المأزق الشيطاني الذي توعد به الشيطان الإنسان عندما أخرجه الله من الجنة..
فقال ﴿ فَبِعِزَّتِكَ لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ ﴾ [ص: 82].
هذه
الغواية هي التي تقوم بها الجاهليات دائما حينما تسحب الإنسان من خصائصه العليا لتمرغه
في وحل خصائصه السفلى التي أراد الله له أن يرتفع عنها.
"والمجتمع الإسلامي وحده هو المجتمع
الذي تمثل فيه العقيدة رابطة التجمع الأساسية، والذي تعتبر فيه العقيدة هي الجنسية
التي تجمع بين الأسود والأبيض والأحمر والأصفر والعربي والرومي والفارسي والحبشي وسائر
أجناس الأرض في أمة واحدة، ربها الله، وعبوديتها له وحده، والأكرم فيها هو الأتقى،
والكل فيها أنداد يلتقون على أمر شرعه الله لهم، ولم يشرعه أحد من العباد!"
وحينما
نتحدث عن الروابط الاختيارية والروابط القاهرة في حياة الإنسان فإن هذا يلفتنا إلى
ما تعانيه البشرية الآن مما هي مقبلة عليه من غَل إرادة الإنسان..
المأزق
الحضاري الذي تتعرض له البشرية في هذا العصر، والذي ستظهر آثاره جلية في القريب العاجل
هو شل إرادة الإنسان، بحيث يصبح الإنسان غير قادر على الهروب من الضغوط القاهرة التي
تضغط عليه.
فالثورة
البيولوجية التي بدأت في أمر الجينات، وتغيير صفات الإنسان الرئيسية، وعمليات الاستنساخ
التي يسعون إليها، والتي يريدون من خلالها أن يغيروا الجينات في الجنين لكي يخرجوا
المخلوق الإنساني بصورة معينة كما يشتهون.. هذه الثورة البيولوجية ستحدث حالة من الفوضى
الرهيبة جدا في حياة الإنسان، بحيث يمكن أن يحدث نوع من التيه بالنسبة للإنسان في هذا
الخضم من التحكمات في حياة البشر.
وهناك
أيضا ثورة الاتصالات التي ستؤدي إلى إلغاء الخصوصية الفردية.. فقد أصبح كل شيء يمكن
التجسس عليه، بحيث لا يصبح عند الإنسان قدرة على الاحتفاظ بأسراره الخاصة.
وهذا
الصراع الهائل بين القوى الظالمة للسيطرة على العالم؛ سواء كانت اقتصادية أو سياسية
أو عسكرية، سيجعل هذا الإنسان الضعيف لعبة في يد هذه القوى.
فهذه
الأمور؛ من الثورة البيولوجية، وثورة الاتصالات، والقهر السياسي والاقتصادي والعسكري
للشعوب سيؤدي إلى إلغاء الإرادة الإنسانية.. هذا الإلغاء الذي يتناقض ويتنافى مع مسؤولية
الإنسان في الأرض.
فإذا
كان الله قد خلق الإنسان ليكون قادرا على اختيار الطريق، واختيار الوسائل والأهداف،
ليصل إلى الأصلح إذا أراد.. فإن هذه الأمور التي تمثل المأزق الحضاري الذي تعانيه البشرية
المعاصرة تشل قدرة الإنسان على التحكم في نفسه. فيمكن جدا أن يصلوا في ثورة الاتصالات
والكمبيوتر والانترنت إلى أن تصبح كل الأشياء القذرة معروضة في الشوارع والحواري، ومعروضة
في أجهزة دقيقة جدا، يمكن للولد أو البنت أن يضعها في جيبه بحيث تصبح تسليته التي تحيل
حياته إلى ماخور قذر باستمرار.. فيسحبوا منه كرامته الإنسانية، بحيث لا تستطيع أن تربي
أولادك، ولا يستطيع أي طفل أو أي شاب إلا أن يسمم منذ سنواته الأولى. وهذا ليس أمراً
متوقعاً إنما هو أمر واقع وما الهواتف الذكية اليوم إلا تجسيد لما قلناه والأيام القادمة
حبالى بكل عجيبة وداهية تمحق الخلق والفضيلة... تئد إنسانية الإنسان، وتعلي حيوانيته.
ولا
شك أن هذا يبطل القدرة الإنسانية على التحكم في الأمور المختلفة. وهذا كله لا شك مأزق
حضاري يجعلنا نميل إلى أنه لا بد أن يكون هناك تدخل ربانيٌ وقدريٌ ليصحح هذه المعادلة،
ويكف أيدي الأشرار عن السيطرة على الإنسان، أو إنهاء الحياة البشرية لكي يذهب كل إنسان
إلى نهايته المرتقبة من خلال عمله.
فإذا
فقد الإنسان إرادته، أو غُلَّت هذه الإرادة، فإنه لن يصبح للوجود الإنساني معنى في
هذه الأرض. وهذا من ضمن المؤشرات التي تجعلنا نميل إلى أنه خلال الفترة القادمة لا
بد أن يكون هناك تدخل رباني قدري يصحح المعادلة، ويعيد للإنسان وجوده وإرادته، ومن
ثم مسؤوليته واستحقاقه للمحاسبة. وإلا فإن الوجود الإنساني تحت هذه الضغوط الهائلة
لن يكون له معنى على الإطلاق.
فالجاهلية
تحاول أن ترفع من قدر الخصائص القهرية، وتقلل من الخصائص الاختيارية، ليصبح الإنسان
في قبضتها تماما، ويكون هذا مصداقا لوعيد الشيطان ﴿ ثُمَّ لَآتِيَنَّهُمْ مِنْ بَيْنِ
أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ أَيْمَانِهِمْ وَعَنْ شَمَائِلِهِمْ وَلَا تَجِدُ
أَكْثَرَهُمْ شَاكِرِينَ ﴾ [الأعراف: 17]، ﴿ فَبِعِزَّتِكَ لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ
﴾ [ص: 82].. فغل الإرادة الإنسانية هو مطلب للشيطان، لكي يقود الإنسان كالأعمى إلى
حتفه. فالوسائل المعاصرة، والتي ستحدث، هي وسائل تعين الشيطان، أو هي من عمل الشيطان
وإيحائه ووسوسته، لكي يتحكم في الإنسان تحكما كاملا لشل إرادته، ويصبح الإنسان غير
قادر على أن يختار، ومن ثم تنمحي إرادته التي هي أولى خصائصه الإنسانية.
ولا
شك أن الإسلام حينما يحرص على إعلاء خصائص الروح والفكر يميز إرادة الإنسان.
ولا
شك أن عمل الإنسان في الأرض باختياره عمل حضاري. يجعل الإسلام هو الحضارة. والمجتمع
المسلم هو المجتمع المتحضر. بينما هذه المجتمعات الجاهلية، وخاصة هذه الجاهلية التي
نعيشها الآن، والتي تمثل قمة التقدم المادي، تمثل أيضا أحط دركات التخلف البشري.
المقوم
الثالث: يكمن في مقاييس التكريم للإنسان.. ما هي مقاييس التكريم؟ هل هي تلك المقاييس
التي صنعتها الجاهلية؟ أم هي المقاييس التي أرادها الله للإنسان؟ وكيف أن هذه المقاييس
الجاهلية هي في حقيقة الأمر مقاييس متخلفة، تحول الإنسان إلى حيوان، أو أقل من حيوان.
بينما المقاييس الإسلامية ترفع الإنسان إلى ما فوق الملائكة.. ومن ثَمّ يصبح الإسلام
هو الحضارة بالمفهوم الإسلامي الدقيق لمعنى الحضارة.
يقول
الأستاذ سيد "وحيـن تكـون
"إنسانية" الإنسان هـي القيمة العليا فـي مجتمـع، وتكـون الخصائص "الإنسانية"
فيه هي موضع التكريم والاعتبار، يكون هذا المجتمع متحضراً.. فأما حين تكون "المادة"
-في أية صورة- هي القيمة العليا.. سواء في صورة "النظرية" كما في التفسير
الماركسي للتاريخ! أو في صور "الإنتاج المادي" كما في أمريكا وأوروبا وسائر
المجتمعات التي تعتبر الإنتاج المادي قيمة عليا تهدر في سبيلها القيم والخصائص والإنسانية..
فإن هذا المجتمع يكون مجتمعاً متخلفاً.. أو بالمصطلح الإسلامي مجتمعاً جاهلياً!"
وليس
ذلك لأن الإسلام يحتقر المادة؛ لا في صورة النظرية، ولا في صورة الإنتاج المادي، ولا
في أي صورة أخرى..
فالإسلام
لا يحتقر المادة، وإنما يوجهها ويوجه التعامل معها. ولا يحتقر الإنتاج المادي، وإنما
يعتبره أحد أهداف الإنسان في الأرض؛ وهي عمارة الأرض ورقيها، والتعامل مع نواميسها،
وتسخيرها من أجل تسهيل الحياة وترقيتها. وهو لا يحْرم الإنسان أيضا من قدر كبير من
الحرية؛ بأن يختار طريقه الذي يريد، ولكنه يضع لهذه الحرية حدودا ومقومات.
فالإسلام
إذن -كمجتمع متحضر- يعطي هذه الأمور صورتها الرفيعة. بينما هذه الجاهلية تجعل الكيان
الإنساني، أو الخصائص الإنسانية، تقهر أو تذوب من أجل المادة، أو الإنتاج المادي، أو
من أجل إحساس الإنسان بالحرية -بمفهومها الجاهلي- والتي هي عين التخلف والشرود. فالمجتمع
الإسلامي إذن مجتمع متحضر، لأنه يُعلي من خصائص الإنسان ومقوماته. بينما المجتمعات
الجاهلية تهدر القيم العليا والفضائل والحرمات لتحقق الوفرة في الإنتاج المادي.
يقول:
"وحين تكون
"القيم الإنسانية" و "الأخلاق الإنسانية" التي تقوم عليها، هي
السائدة في مجتمع، يكون هذا المجتمع متحضراً. والقيم الإنسانية والأخلاق الإنسانية
ليست مسألة غامضة مائعة وليست كذلك قيماً "متطورة" متغيرة متبدلة، لا تستقر
على حال ولا ترجع إلى أصل، كما يزعم التفسير المادي للتاريخ، وكما تزعم "الاشتراكية
العلمية"!
إنها القيم والأخلاق التي تنمِّي في الإنسان
خصائص الإنسان التي يتفرد بها دون الحيوان، والتي تُغَلِّب فيه هذا الجانب الذي يميزه
ويعزله عن الحيوان، وليست هي القيم والأخلاق التي تنمِّي فيه وتُغَلِّب الجوانب التي
يشترك فيها مع الحيوان."
خصائص
الإنسان التي يتفرد بها دون الحيوان كالعقل والحرية والعدالة والاختيار والنظافة والمروءة
والإرادة هي جوانب عليا رفيعة في الإنسان، يحرص الإسلام أن ينميها فيه. فالقيم والأخلاق
في الإسلام هي التي تنمي في الإنسان تلك الخصائص التي ينفرد بها دون الحيوان، والتي
تغلب فيه ذلك الجانب الذي يميزه ويرفعه عن الحيوان.. أما الجاهلية فهي تحرص على القيم
والأخلاق التي تنمي وتغلب في الإنسان الجوانب التي يشترك فيها مع الحيوان؛ كالجنس والطعام
والشراب والدفاع عن النفس وحب البروز..
وهذه
كلها أخلاق يشترك الإنسان فيها مع الحيوان.
والجاهلية
تنمي هذه الأمور؛ تنمي فيه الغريزة الجنسية، والشراهة في الطعام والشراب، والرغبة في
الاعتداء، والأنانية، وحب التملك والسيطرة، وإهدار حقوق الآخرين، وأكل عرقهم وجهدهم،
وتنمي فيه كل الخصائص التي تجعله حيوانا أكثر افتراسا ووحشية من الحيوان.
بينما
الإسلام ينمي فيه تلك الخصائص العليا؛ من العقل، والاختيار، والحرية، والنظافة، والعدالة،
والمروءة، والإرادة.. بل في الحقيقة نجد أن الجوانب التي يشترك فيها الإنسان مع الحيوان
قد تدخّل فيها الإسلام تدخلا رائعا، وجعلها أخلاقا إنسانية، يمارس بها الإنسان تلك
الجوانب المشتركة مع الحيوان بصفتها الإنسانية، وليس بصورتها الحيوانية. فالطعام بالنسبة
للإنسان المسلم يصبح في مجال الاختيار، يختار فيه الحلال ويترك الحرام، ويصنع لهذا
الطعام آدابا؛ كيف يأكل، كيف يشرب، كيف يسمي الله عز وجل قبل الأكل، كيف يأكل بيده
اليمنى، كيف يحمد الله على طعامه...
ويضع
لها فضائل وآداباً، بحيث لا يأكل وحده، ولا يحرم منه المسكين، ويذكر اسم الله عليه..
وهو
-أيضا- له إرادة في أمر طعامه وشرابه، فلا تكون استجابته لهذا الدافع الغريزي كالحيوان،
كلما جاع أكل، أو كلما اشتهى استجاب.. وإنما عنده إرادة تجعل تعامله مع الطعام تعاملا
إراديا، يختار الوقت والصنف والطريقة.
وهو
-أيضا- إنسان يصنع طعامه، بحيث يخترع أصنافا عديدة جدا من الطعام، لكيلا يأكل الشيء
الخام.. حتى لو كانت فاكهة يتدخل في تجميلها وتنظيفها ووضعها في أطباق..
فلا
شيء في حياة الإنسان يؤخذ كما يأخذه الحيوان. هذا فضلاً عن المجال الواسع الذي يختار
الإنسان فيه طعامه.. ليس حيوانا من آكلي اللحوم، أو من آكلي الحشائش، أو من آكلي الحشرات،
أو مصاصي الدماء.. إنما هو إنسان، يستطيع أن يأكل أشياء كثيرة جدا، ويختار كما يشاء.
فحتى
هذه الجوانب التي يشترك فيها الإنسان مع الحيوان نجد الإسلام يعلمه كي يحولها إلى ممارسات
إنسانية رفيعة، تنسي الإنسان بعد قليل أنه مشترك فيها مع الحيوان.
فلا
شك أن الأخلاق في الإسلام هي القيم التي تُنمي في الإنسان خصائص الإنسان العليا التي
يتفرد بها عن الحيوان.
"وحين توضع المسألة هذا الوضع يبرز
فيها خط فاصل وحاسم "وثابت" لا يقبل عملية التمييع المستمرة التي يحاولها
"التطوريون"! و "الاشتراكيون العلميون"!"
فالجاهلية
تريد أن تجعل هذه الأخلاق متغيرة غير ثابتة، وإنما تتغير مع رغبة الإنسان، ومع مراحل
تطوره المادية، ومع اتفاقات الإنسان واختياراته.. بينما الإسلام يرى أنها قيم وأخلاق
ثابتة.
"عندئذ لا يكون اصطلاح البيئة وعُرفها
هو الذي يحدد القيم الأخلاقية.."
هناك في الفكر الجاهلي نظريات:
إحداها:
النظرية الحتمية التي تعتبر أن البيئة هي التي تخلق الإنسان، أو هي التي تشكله. فكل
إنسان في بيئة هو ابن بيئته، بحيث أن سكان الجبال لهم أخلاق معينة، غير أخلاق سكان
الريف، غير سكان المدن.. وهكذا.
فهذه
النظرية تجعل البيئة هي التي تتحكم في الأخلاق والعادات والتقاليد، وكأن الإنسان هو
عبد للبيئة، ليست له إرادة مستقلة يختار بها بين الأمور..، أو يبتكر شيئا آخر غير ما
هو محكوم به.
وهناك
نظرية أخرى مخالفة لها تماما، وهي الإمكانية، والتي تعتبر أن الإنسان هو الذي يتحكم
في كل شيء، وهو الذي يستطيع أن يغير، وأنه ليس محكوما بأي شيء، ولا يستطيع أحد أن يتحكم
فيه.
وكلا
النظريتان بطبيعة الحال مغرقة في الخطأ، لأن الإنسان مؤثر ومتأثر، وهو يستطيع بصورة
كبيرة أن يتغلب على كثير من العقبات، ولكن تظل للبيئة أو للنشأة الأولى آثارها وبصماتها
عليه، لكنه في النهاية هو سيد نفسه، قادر على أن يستبقي من هذه الآثار ما يعتقد أنه
صالح، وأن يرفض الباقي، ويستطيع أن يجلب من أي مكان إضافات إلى نفسه، ويستطيع أن يبتكر
شيئا آخر يحوله ويجعله مكسباً جديداً.
فالإنسان
ليس عبدا للبيئة، ولا عبدا لشهواته وأهوائه. ولكن الله سبحانه خلقه ليكون قادرا على
الاختيار. وأعطاه العقل والإرادة ليكون قادرا على تنفيذ ما يريد بإذن الله وبعد مشيئة
الله عز وجل.
فالغربيون
يحلو لهم كثيرا أن يمارسوا هذه الأفكار، ويعتبرونها نظريات يتحمسون لها. ويظلون يتأرجحون
من النقيض إلى النقيض، ولا يقفون عند الحقيقة على الإطلاق.
ثم جاء
الفكر الشيوعي ليقول إن هناك أخلاقا زراعية، وأخلاقا صناعية، وأخلاقا رعوية، وأن تغير
وسيلة الإنتاج يؤدي إلى تغير الأخلاق وتغير الأفكار وتغير الأزياء.. وكأن الإنسان دائما
هو سجين البيئة وسجين التغيرات والتصورات، وأنه خال -من ثم- من المسؤولية، فهو غير
مسئول بل ليس عنده قدرة حتى يكون مسؤولاً.
ولا
شك أن هذا التصور يتمشى في عمومه مع التصور الجاهلي، ومع التصور المادي بصورة خاصة،
حيث إنه يريد للإنسان أن يكون عبدا لهؤلاء المنظرين الذين يسوقونه كالحيوان لكي يكون
عبدا للجنس أو عبدا للرغبات. ومن ثم يكون عبدا للطواغيت الذين يتحكمون فيه.
هذه
التصورات كلها تصورات غير صحيحة.
"عندئذ لا يكون اصطلاح البيئة وعرفها
هو الذي يحدد القيم الأخلاقية، إنما يكون وراء اختلاف البيئة ميزان ثابت.. عندئذ لا
تكون هناك قيم وأخلاق "زراعية" وأخرى "صناعية"! ولا قيم وأخلاق
"رأسمالية" وأخرى "اشتراكية"، ولا قيم وأخلاق "برجوازية"
وأخرى "صعلوكية"! ولا تكون هناك أخلاق من صنع البيئة ومستوى المعيشة وطبيعة
المرحلة.. إلى آخر هذه التغيرات السطحية والشكلية.. إنما تكون هناك -من وراء ذلك كله-
قيم وأخلاق "إنسانية" وقيم وأخلاق "حيوانية" -إذا صح هذا التعبير!-
أو بالمصطلح الإسلامي: قيم وأخلاق "إسلامية" وقيم وأخلاق "جاهلية"."
ونحن
نعرف أن الذين يقولون إن البيئة أو المرحلة الاقتصادية هي التي تضع الأخلاق أو القيم
يستطيعون أن يقنعوا الناس من خلال الممارسات الجاهلية أن ما يقولونه إلى حد ما صحيح.
فالمرأة
في الريف، وفي المرحلة الزراعية تكون أكثر عفافا ونظافة، ويكون الرجل أكثر وجودا وحضورا،
وبذلك تصبح الأسرة ذات قيمة في المجتمع الريفي والزراعي، لأن الأسرة كلها تتكاتف لأداء
هذا العمل بصورة متخصصة بتفريق التخصصات على الأسرة.
فعفة
المرأة كانت تمثل قيمة يحرص عليها المجتمع الزراعي، ويعتبر هذه العفة من الفضائل المهمة
جدا التي يحرص عليها المجتمع، ويغضب من أجل انتهاكها الرجل والأولاد، وتخشى المرأة
من أن تفرط فيها لأنها من قيم المجتمع ومقوماته.
وهذه
في الحقيقة استجابة الأسرة للفطرة، لأن الأسرة هي صورة فطرية، والأخلاقيات صورة فطرية،
وهذه القيم هي صورة فطرية أيضا، يطبقونها في المرحلة الزراعية تطبيقا طبيعيا.
تقول
لهم الشيوعية إن الإنسان حينما انتقل إلى المرحلة الصناعية لم يعد هناك داع أن يتحكم
الرجل في الأسرة. ولم يعد هناك داع للأسرة، لأن كل فرد فيها يستطيع أن يعمل، ومن ثم
تستطيع المرأة أن تتحرر من سيطرة الرجل. فلا تصبح العفة إذن قيمة من القيم العليا في
المجتمع الصناعي، لأن المجتمع الصناعي صنع له أخلاقا جديدة، وهي التحرر من السيطرة،
وكل إنسان يفعل ما يشاء. وكما أن الرجل في المجتمع الريفي إذا ارتكب خطيئة لا يحاسب
كما تحاسب المرأة لأنه هو الرجل وهو المسيطر وهو الذي ينفق ويحمي، فكذلك المرأة في
المجتمع الصناعي تحررت من هذا تماما.. وأصبح القانون أن تكون حرة في عفتها كما أن الرجل
حر في عفته. فالأخلاق إذن تتغير حسب المرحلة -في زعمهم-.
وهذا
الكلام غير صحيح، لأنهم حينما صنعوا ذلك تحول المجتمع الصناعي كله إلى مجتمع ذئاب.
وانهارت كل القيم والأخلاقيات.. بل الحضارة نفسها عرضة لأن تنهار كلها نتيجة لهذه التفسخات.
الصناعة
لا تتطلب هذه الأخلاق المنفلتة. وإنما الأشرار الذين يقفون وراء التخطيط من اليهود
والنصارى هم الذين يقفون وراء هذا الأمر. فلما دفعوا المرأة لدخول مجال العمل في الصناعات
الناشئة كي يضربوا بها العمال المضربين احتجاجا على ظروف العمل السيئة والأجور المتدنية،
أشاعوا في نفس الوقت هذا المفهوم المنحل لتحرر المرأة من سلطة الرجل لكي يشيعوا الفاحشة
بين العمال.
وكان
من الممكن جدا أن يظل المجتمع الصناعي وقفا على الرجل، هو الذي يعمل، ويعود إلى بيته
كي يربي أسرته، وتكون المرأة في انتظاره لكي تربي أولادها، وهو الذي ينفق ويرعى الأسرة،
فلا يتغير شيء من قوامة الرجل؛ سواء كان مزارعا، أو راعيا، أو سياسيا، أو عاملا، أو
غير ذلك. ولكن الشياطين الذين هم وراء الستار كانوا هم الذين يشكلون الحياة، ثم يضعون
لها القوانين، فيخدعون الناس بأن هذه القوانين صحيحة وحتمية، لأن الواقع يغذيها، بينما
هم الذين صنعوا الواقع بأيديهم، ثم شكلوا له القوانين.
"إن الإسلام يقرر قيمه وأخلاقه هذه
"الإنسانية" -أي التي تنمِّي في الإنسان الجوانب التي تفرقه وتميزه عن الحيوان-
ويمضي في إنشائها وتثبيتها وصيانتها في كل المجتمعات التي يهيمن عليها سواء كانت هذه
المجتمعات في طور الزراعة أم في طور الصناعة، وسواء كانت مجتمعات بدوية تعيش على الرعي
أو مجتمعات حضرية مستقرة، وسواء كانت هذه المجتمعات فقيرة أو غنية.. إنه يرتقي صعداً
بالخصائص الإنسانية، ويحرسها من النكسة إلى الحيوانية.. لأن الخط الصاعد في القيم والاعتبارات
يمضي من الدرك الحيواني إلى المرتفع الإنساني.. فإذا انتكس هذا الخط -مع حضارة المادة-
فلن يكون ذلك حضارة! إنما هو "التخلف" أو هو "الجاهلية"!"
في الجاهلية
ينتكس هذا الخط، فينحدر من المرتقى الإنساني إلى الدرك الحيواني. فالإسلام يخاطب الإنسان
في كل مكان وفي كل زمان وكل بيئة وكل حال من أحواله.. يخاطب أصوله الثابتة التي يستطيع
أن يمارسها وأن يخرجها في الواقع أياً كان الوضع الذي يعيشه، لأن هذه أخلاق ثابتة في
كينونته لا تتغير مع الواقع. إنما الذي يغيرها هو إرادة الإنسان إذا أراد أن يتسفل
أو أراد أن يترقى.
لكن
الجاهلية تريد أن تقول إن الإنسان عبد للبيئة وعبد للمجتمع وعبد للظروف، وأنه لا يستطيع
أن يتغير، فهي حتميات لا يستطع أن يخرج عنها.
والذي
يعيش تحت الحتميات إنسان متخلف. بينما الإنسان الذي يستطيع أن يترقى أو يتسفل حسب اختياره
فهو الإنسان الذي يملك الإرادة.
والمجتمع
الذي ينمي الأخلاق الإنسانية، ويصعد بها من الدرك الحيواني إلى المرتقى الإنساني يكون
مجتمعاً متحضراً. بينما المجتمعات الجاهلية التي تنتكس بالإنسان من أعلى إلى أسفل لا
شك أنها تكون مجتمعات متخلفة. وبهذا يكون واضحا أن الحضارة ليست مع دعاوى الجاهلية
في شيء.
والإسلام
يرى الأسرة أمراً ضرورياً ومهماً كقاعدة للمجتمع.
"وحين تكون "الأسرة" هي
قاعدة المجتمع. وتقوم هذه الأسرة على أساس "التخصص" بين الزوجين في العمل.
وتكون رعاية الجيل الناشئ هي أهم وظائف الأسرة.. يكون هذا المجتمع متحضراً.. ذلك أن
الأسرة على هذا النحو -في ظل المنهج الإسلامي- تكون هي البيئة التي تنشأ وتُنَمَّى
فيها القيم والأخلاق "الإنسانية" التي أشرنا إليها في الفقرة السابقة، ممثلة
في الجيل الناشئ، والتي يستحيل أن تنشأ في وحدة أخرى غير وحدة الأسرة.."
فالإسلام
يرى أن الأسرة هي المأوى الطبيعي للإنسان. والبشرية بدأت تاريخها بهذه الأسرة.. بآدم
وحواء، وظلت الأسرة لفترات طويلة تحتل مكاناً مرموقاً ورئيسياً وضرورياً في دولاب الحركة
الإنسانية، وفي دولاب الحضارة الإنسانية.
والأسرة
تقوم ابتداءً على أساس التخصص في الوظيفة بين الزوجين. لأنها تتوافق مع الفطرة التي
خلق منها الرجل والمرأة. وهذا التباين الهائل بين الجنسين في أشياء كثيرة جداً يجعل
من المستحيل -كما تريد الجاهليات المعاصرة بالذات- أن تكون هناك مساواة بين الرجل والمرأة
في كل شيء.
الأصل
ألا يكون هناك مساواة في كل شيء، وإنما يكون هناك تكافؤ وتكامل في الوظائف، بحيث يكون
لكل فريق وظيفته، ولكل جنس مهمته التي يؤديها، والتي تتكامل مع الوظيفة التي يؤديها
الجنس الآخر.
أما
إذا انخرط الرجل والمرأة في أداء وظائف متشابهة فسينمحي هذا التخصص، ويفسد الأداء الوظيفي.
وهذا
التخصص مبني على علم الله سبحانه وتعالى بالإنسان، وتظهر لنا حكمته فيما يبدو لنا في
واقع الأمر، وفيما تلاحظه البشرية من الاختلاف والتباين بين المرأة والرجل؛ سواء في
الصورة الخارجية، أو في المشاعر، أو في الطاقات والقدرات..
فالإسلام
يعتبر أن التخصص مهم جداً في حياة الأسرة.. فالرجل يملك القوامة، وعليه واجبات الحماية
والإنفاق والتربية والرعاية.
والمرأة
تتحمل أعباء الحمل والولادة، والرعاية للأطفال وتنشئتهم، ومعاونتها الزوج، وجعل البيت
واحة ظليلة للزوج والأولاد.
والوحدة
الأسرية تمثل الوحدة التربوية في المجتمع. كما أنها تمثل أيضاً الوحدة الوجدانية التي
تربط العشيرة والقبيلة ومن ثَمّ تربط المجتمع البشري كله بعضه ببعض.
والمنهج
الإسلامي يرى أن التخصص مهم جداً في عمل الزوجين لكي يؤديا المهمة الأخرى التي خلق
الإنسان من أجلها، والتي من أجلها أيضاً يوجد الأطفال، ويستمر النوع الإنساني في الوجود،
وهي رعاية الجيل الناشئ كي يتكون الإنسان الذي يعبد الله عز وجل، ولا يكون ذلك إلا
من خلال الأسرة التي تحفظ القيم وتحتضن الأطفال لتربيتهم لكي يكونوا عبيداً لله عز
وجل.
فالأسرة
إذن ضرورة من ضرورات المجتمع الإنساني، ومن ثم فإن إهدار الأسرة يكون تخلفاً. بينما
يكون الحرص عليها هو التحضر.
ومن
ثم يكون المجتمع الإسلامي مجتمعاً متحضراً، لأنه يقيم قاعدته الاجتماعية على نظام الأسرة.
بينما المجتمعات الجاهلية -وخاصة الجاهلية المعاصرة- تدعو إلى تفكك الأسرة وإلى تحطيمها.
"فأما حين تكون العلاقات الجنسية
(الحرة كما يسمونها) والنسل (غير الشرعي) هي قاعدة المجتمع.. حين تقوم العلاقات بين
الجنسين على أساس الهوى والنـزوة والانفعال، لا على أساس الواجب والتخصص الوظيفي في
الأُسرة.. حين تصبح وظيفة المرأة هي الزينة والغواية والفتنة.. وحين تتخلى المرأة عن
وظيفتها الأساسية في رعاية الجيل الجديد، وتُؤْثِر هي -أو يُؤْثِر لها المجتمع- أن
تكون مضيفة في فندق أو سفينة أو طائرة! حين تنفق طاقتها في "الإنتاج المادي"
و "صناعة الأدوات" ولا تنفقها في "صناعة الإنسانية"! لأن الإنتاج
المادي يومئذ أغلى وأعز وأكرم من "الإنتاج الإنساني"، عندئذ يكون هذا هو
"التخلف الحضاري" بالقياس الإنساني.. أو تكون هي "الجاهلية" بالمصطلح
الإسلامي!"
حين
تكون الأسرة مهدرة في أي مجتمع، ويخرج الأطفال مشردين منذ أن يولدوا.. يتنقلون بين
أيدي الحاضنات والمربيات. وحينما يرتع الرجل والمرأة كما يشاءان في مراتع الرذيلة.
وحينما ينشأ الأطفال على أصداء هذا الهبوط في المجتمع الجاهلي، لا بد أن تحدث النتيجة
النهائية من الضياع الذي يحدث في المجتمع الجاهلي والتفلت الذي يحدث في الأسرة والمجتمع
كله، والشك الذى يقتل طمأنينة الإنسان، والقسوة التي تؤدى في بعض الأحيان إلى قتل الأطفال
أو تركهم يموتون، أو ترك الآباء والأمهات العجائز يموتون من البرد أو تحرقهم المدفئة
لأن أحداً لا يرعاهم.
حينما
تجتاح الجريمة كل شيء لأن الإنسان يريد أن يمتع نفسه ولو على حساب الأخرين، حينما تنتهك
الأعراض في كل مكان بحيث لا تأمن امرأة على نفسها، ولا يأمن رجل على نفسه أو ابنته،
حينما يحدث هذا يحدث الشقاء والانحطاط، ويكون هذا المجتمع بالضرورة مجتمعاً متخلفاً،
لأنه أدى إلى كل هذه النتائج التي لا تمت من قريب أو بعيد إلى معنى الرقي. بينما نجد
التصور الإسلامي والمنهج الإسلامي في رؤيته لهذه المهمة يرقِّي الإنسان، ويضمن رقيه
ويضمن سعادته أيضاً، لأنه من صناعة العليم الخبير.
"وقضية الأسرة والعلاقات بين الجنسين
قضية حاسمة في تحديد صفة المجتمع.. متخلف أم متحضر، جاهلي أم إسلامي! والمجتمعات التي
تسود فيها القيم والأخلاق والنـزعات الحيوانية في هذه العلاقة لا يمكن أن تكون مجتمعات
متحضرة، مهما تبلغ من التفوق الصناعي والاقتصادي والعلمي! إن هذا المقياس لا يخطئ في
قياس مدى التقدم "الإنساني"..
وفي المجتمعات الجاهلية الحديثة ينحسر المفهوم
"الأخلاقي"؛ بحيث يتخلى عن كل ما له علاقة بالتميز "الإنساني"
عن الطابع "الحيواني"! ففي هذه المجتمعات لا تعتبر العلاقات الجنسية غير
الشرعية -ولا حتى العلاقات الجنسية الشاذة- رذيلة أخلاقية.. إن المفهوم الأخلاقي يكاد
ينحصر في المعاملات الاقتصادية -والسياسية أحياناً في حدود "مصلحة الدولة"-.."
ونحن
نرى أن الفضائح الجنسية التي تحدث في المجتمعات الغربية لا يكون اللوم فيها نتيجة ممارسة
الجنس؛ سواء كان شاذاً أو طبيعياً، وإنما تكون الجريمة في أنه خان زوجته أو رفيقته،
أو كذب عليها، أو لم يعترف بهذه العلاقة للدولة أو أمام المحكمة.
وفضيحة
كلينتون مثال صارخ، كما أن فضيحة بروفيميو وزير الدفاع البريطاني في الستينات من القرن
العشرين مع كريستين كيلر، أيام أن كتب الأستاذ سيد هذا الكتاب، كانت الجريمة التي ارتكبها
ليست في ارتكابه الفعل الجنسي، وإنما لأنه كذب على الدولة، ولأن هناك خطراً من هذه
العلاقة، لأن هذه الفتاة كانت أيضاً على علاقة بالملحق العسكري الروسي الذي كان يعتبر
عدواً للدولة.
فالمفهوم
الأخلاقي عند أوروبا ينحصر في الإجراءات التي لا يعترف بها مرتكب الفعل الجنسي، أما
إذا ارتكبه في وضوح وبدون تستر فهذا ليس عيباً.
لذلك
يقول: "والكُتَّاب
والصحفيون والروائيون في المجتمعات الجاهلية هنا وهناك يقولونها صريحة للفتيات والزوجات:
إن الاتصالات (الحرة) ليست رذائل أخلاقية. الرذيلة الأخلاقية أن يخدع الفتى رفيقته
أو تخدع الفتاة رفيقها ولا تخلص له الود، بل الرذيلة أن تحافظ الزوجة على عفتها إذا
كانت شهـوة الحب لزوجها قد خمدت! والفضيلة أن تبحث لها عن صديق تعطيه جسدها بأمانة!
عشرات من القصص هذا محورها! ومئات التوجيهات الإخبارية والرسوم الكاريكاتورية والنكت
والفكاهات هذه إيحاءاتها..
مثل هذه المجتمعات مجتمعات متخلفة.. غير
متحضرة.. من وجهة نظر "الإنسان" وبمقياس خط التقدم "الإنساني".."
ثم ينتقل
إلى نقطة ذات أهمية كبيرة.. فيقول:
"إن خط التقدم الإنساني يسير في اتجاه
"الضبط" للنـزوات الحيوانية، وحصرها في نطاق "الأسرة" على أساس
"الواجب" لتؤدي بذلك "وظيفة إنسانية" ليست اللذة غايتها، وإنما
هي إعداد جيل إنساني يخلف الجيل الحاضر في ميراث الحضارة "الإنسانية" التي
يميزها بروز الخصائص الإنسانية.."
إن العلاقة
بين الرجل والمرأة الأصل فيها هو انتاج الإنسان، بحيث تعمر الأرض بهذا الإنسان. فهي
وظيفة وواجب مكلف به الإنسان كي يستمر النوع الإنساني، ولكي يستمر وجود الإنسان العابد
لله عز وجل من خلال التكليف الرباني.
اللذة
ليست هدفاً، وليست غاية.. وإنما هي طريق وسبيل إلى هذا التكليف وهذا الواجب، لذلك كان
خط التقدم الإنساني مرتبطاً بعملية الضبط، حيث تؤدَى هذه الشهوة الجنسية من خلال العلاقة
الزوجية الشرعية التي تنظم حياة الإنسان، وتنظم العلاقات الجنسية، والحدود بين الرجل
والمرأة.
فالضبط
ميزان حضاري، لا التفلت أو الكبت. فالتفلت ليس ميزاناً حضارياً، والكبت ليس ميزاناً
حضارياً كذلك. ويعرف علم النفس الكبت بأنه استحقار وازدراء الدافع الجنسي حتى ولو مارسه.
فهذا الكبت صنعته الكنيسة أو المذاهب المتشددة النصرانية في نظرتها إلى العلاقة الجنسية
على أنها علاقة حقيرة هابطة، والإنسان الكريم يجب أن يترفع عن الممارسة الجنسية. وهذا
يؤدي إما إلى كبت هذه الشهوة فيؤدي إلى الجريمة، أو يؤدي إلى اضمحلال الحضارة البشرية،
أو يؤدي إلى التمرد على هذا الأمر، وإلى الانطلاق الحيواني.
والإسلام
لا يعرف الكبت.. ولا التفلت..
الإسلام
يعرف الضبط، والضبط هو الاستجابة للدافع الغريزي في الوقت المناسب، أو تأجيل الدافع
الغريزي إلى الوقت الذي يستطيع أن يؤدَّى فيه بصورة شرعية. فهو ليس مصادرة للدافع الغريزي،
وليس احتقاراً للدافع الغريزي.. وإنما اعتراف به في النور، وتأجيله ليؤدَّى في وقته
المناسب، حتى لا يكون الإنسان عبداً لهذا الدافع، إنما يكون هو المسيطر عليه.
فالضبط
ميزان حضاري. والإنسان يضبط كل نوازعه وكل غرائزه، يأكل في الوقت الذي يقرر أن يأكل
فيه، ويمتنع عن الأكل في الوقت الذي يقرر أن يمتنع فيه، يتاجر بالمال في الوقت الذي
يرى أن هذه التجارة منتجة وحلال، ويمتنع إذا كانت حراما، وكذلك يمارس الجنس حينما يكون
في الوقت المناسب، وحينما يكون في المكان المناسب الذي شرعه الله عز وجل.
فالضبط
إذن هو ميزان حضاري، بينما التفلت انحراف، والكبت انحراف، والجاهلية تمجد إما الكبت
في نزعاتها الرهبانية، أو تمجد التفلت في نزعاتها العلمانية. بينما الإسلام هو الدين
الذي يحترم هذه الشهوة، ويحترم هذه الغرائز، بل يعطي عليها الأجر ويثيب عليها كما قال
ﷺ "وَفِي بُضْعِ أَحَدِكُمْ صَدَقَةٌ، قَالُوا: يَا رَسُولَ اللهِ،
أَيَأتِي أَحَدُنَا شَهْوَتَهُ وَيَكُونُ لَهُ فِيهَا أَجْرٌ؟ قَالَ: «أَرَأَيْتُمْ
لَوْ وَضَعَهَا فِي حَرَامٍ أَكَانَ عَلَيْهِ فِيهَا وِزْرٌ؟ فَكَذَلِكَ إِذَا وَضَعَهَا
فِي الْحَلَالِ كَانَ لَهُ أَجْرٌ"..
لكنه في الوقت ذاته يضبطها في مسار معين، يحفظ للإنسان قوته، ويحفظ له كرامته، ويحفظ
للمجتمع نظافته، ويحفظ للأعراض قيمتها.
فالتقدم
الإنساني إذن يسير في اتجاه الضبط. فالمجتمع الذي يدفع أفراده إلى التفلت أو إلى الكبت
ليس مجتمعاً حضارياً. والمجتمع الذي يحافظ على غرائز الإنسان وعلى قوى الإنسان ويصرفها
بطريقة منتجة نظيفة هو المجتمع المتحضر. والإسلام هو الذي يصنع ذلك، بينما الجاهلية
تصنع العكس تماماً.
"من أجل ذلك كله تكون القيم والأخلاق
والإيحاءات والضمانات الإسلامية هي اللائقة بالإنسان. ويكون "الإسلام هو الحضارة"
ويكون المجتمع الإسلامي هو المجتمع المتحضر.. بذلك المقياس الثابت الذي لا يتميع أو
لا "يتطور"."
والخلافة
في حس الإنسان المسلم تساوي التقدم الإنساني التقي معنوياً ومادياً..
يقول
سيد قطب: "وأخيراً فإنه
حين يقوم "الإنسان" بالخلافة عن "الله" في أرضه على وجهها الصحيح:
بأن يخلص عبوديته لله ويخلص من العبودية لغيره، وأن يحقق منهج الله وحده ويرفض الاعتراف
بشرعية منهج غيره، وأن يُحَكِّم شريعة الله وحدها في حياته كلها وينكر تحكيم شريعة
سواها، وأن يعيش بالقيم والأخلاق التي قررها الله له ويسقط القيم والأخلاق المدعاة.
ثم بأن يتعرف بعد ذلك كله إلى النواميس الكونية التي أودعها الله في هذا الكون المادي،
ويستخدمها في ترقية الحياة، وفي استنباط خامات الأرض وأرزاقها وأقواتها التي أودعها
الله إياها، وجعل تلك النواميس الكونية أختامها، ومنح الإنسان القدرة على فض هذه الأختام
بالقدر الذي يلزم له في الخلافة.. أي حين ينهض بالخلافة في الأرض على عهد الله وشرطه،
ويصبح وهو يفجر ينابيع الرزق، ويصنع المادة الخامة، ويقيم الصناعات المتنوعة، ويستخدم
ما تتيحه له كل الخبرات الفنية التي حصل عليها الإنسان في تاريخه كله.. حين يصبح وهو
يصنع هذا كله "ربانياً" يقوم بالخلافة عن الله على هذا النحو -عبادة الله-
يومئذ يكون هذا الإنسان كامل الحضارة، ويكون هذا المجتمع قـد بلغ قمة الحضارة.."
وهذا
تلخيص رائع لقضية الحضارة.. فكما قلنا في بداية الفصل عند الحديث عن مفهوم الحضارة
أنها تحقيق الكمال الإنساني في الجانب المعنوي والمادي والسلوكي، وأن الإسلام هو أيضاً
تحقيق الكمال الإنساني في السلوك وفي الجانب المعنوي والمادي. ونقول هنا إن الخلافة
هي الصورة التي تتبلور وتصاغ فيها هذه الحقيقة في الواقع.
ويتحقق
التكامل والكمال الإنساني معنوياً ومادياً من خلال الخلافة التي تخلص الإنسان من عبوديته
لغير الله، وتجعل الإنسان لا يتحاكم إلا إلى شريعة الله، وتجعل الإنسان يعيش بالقيم
والأخلاق التي قررها الإسلام.
ويتعرف
في ذات الوقت على كل النواميس والقوانين الكونية، فيسخر الأرض كما أراد الله له ﴿ وَسَخَّرَ
لَكُمْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا مِنْهُ ﴾ [الجاثية:
13].
وحين
يستخدم هذا كله في عبادة الله، وفي إقامة ألوهية الله في الأرض يكون الإنسان قد أصبح
في قمة الحضارة الإنسانية.
يقول:
"فأما الإبداع
المادي -وحده- فلا يسمى في الإسلام حضارة.. فقد يكون وتكون معه الجاهلية.. وقد ذكر
الله من هذا الإبداع المادي في معرض وصف الجاهلية نماذج:
﴿ أَتَبْنُونَ بِكُلِّ رِيعٍ آيَةً تَعْبَثُونَ
۞ وَتَتَّخِذُونَ مَصَانِعَ لَعَلَّكُمْ تَخْلُدُونَ ۞ وَإِذَا بَطَشْتُمْ بَطَشْتُمْ
جَبَّارِينَ ۞ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ ۞ وَاتَّقُوا الَّذِي أَمَدَّكُمْ بِمَا
تَعْلَمُونَ ۞ أَمَدَّكُمْ بِأَنْعَامٍ وَبَنِينَ ۞ وَجَنَّاتٍ وَعُيُونٍ ۞ إِنِّي
أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ ﴾ [الشعراء: 128-135].
﴿ أَتُتْرَكُونَ فِي مَا هَاهُنَا آمِنِينَ
۞ فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ ۞ وَزُرُوعٍ وَنَخْلٍ طَلْعُهَا هَضِيمٌ ۞ وَتَنْحِتُونَ
مِنَ الْجِبَالِ بُيُوتًا فَارِهِينَ ۞ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ ۞ وَلَا تُطِيعُوا
أَمْرَ الْمُسْرِفِينَ ۞ الَّذِينَ يُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ وَلَا يُصْلِحُونَ ﴾
[الشعراء: 146-152].
﴿ فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ فَتَحْنَا
عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ حَتَّى إِذَا فَرِحُوا بِمَا أُوتُوا أَخَذْنَاهُمْ
بَغْتَةً فَإِذَا هُمْ مُبْلِسُونَ ۞ فَقُطِعَ دَابِرُ الْقَوْمِ الَّذِينَ ظَلَمُوا
وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ ﴾ [الأنعام: 44-45]..
﴿ حَتَّى إِذَا أَخَذَتِ الْأَرْضُ زُخْرُفَهَا
وَازَّيَّنَتْ وَظَنَّ أَهْلُهَا أَنَّهُمْ قَادِرُونَ عَلَيْهَا أَتَاهَا أَمْرُنَا
لَيْلًا أَوْ نَهَارًا فَجَعَلْنَاهَا حَصِيدًا كَأَنْ لَمْ تَغْنَ بِالْأَمْسِ ﴾
[يونس: 24]."
وكل
هذه نماذج للإبداع المادي الذي تخلف عنه الإبداع المعنوي، وبالتالي يصبح لعنة على البشرية،
ويصبح مغضوباً عليه من الله، وتصبح نهايته محتومة، كما علمنا من هذا الذي صنعه الله
بهذه الحضارات المادية، أو المجتمعات الجاهلية التي تقدمت مادياً.
إذن
الخلافة هي التقدم الإنساني التقي الذي يتقدم معنوياً ومادياً. وحينذاك يكون الإنسان
في قمة رونقه وعظمته، عبداً لله. فما قيمة التقدم المادي حين لا تزيد الجاهلية الإنسان
جمالاً ولا قيمة، لأن القيمة الحقيقية هي في الجانب المعنوي، فإذا كان هذا الجانب منتكساً
معنوياً فلن يزيد الإنسان التزين بجواهر التقدم المادي قيمة.
والتقدم
المادي نستطيع أن نمثله بزينة المرأة، فالمرأة الفاضلة لو أنها أصبحت عاطلة عن كل الزينة
الخارجية من مجوهرات وأدوات الزينة كلها فإنها ستظل امرأة فاضلة، بينما المرأة الفاسدة
لو تزينت بكل جواهر الأرض ستظل امرأة فاسدة، وإذا جاء إنسان عاقل ليختار، سيختار المرأة
الفاضلة التي تلبس "الخيش"، ولن يختار المرأة الفاسدة التي تزينت بالجواهر.
ولكن حينما تتزين المرأة الفاضلة بالجواهر والزينة ستكون في أبهى جمالها الأنثوي وجمالها
الإنساني.
فتصبح
الزينة الخارجية إذن زينة إضافية، لا تمثل جوهراً. وإذا عطلت منها المرأة فلا يؤثر
ذلك في جوهرها، وستظل فاضلة، بينما المرأة الفاسدة ستظل فاسدة، مهما تكاثرت عليها الحلي
وغطتها الزينة.
والمجتمع
البشري هكذا -إذا كان تقياً- لا يضيره كثيراً إذا كان مازال في أطواره الأولى نحو التقدم
المادي، فهو يظل مجتمعاً راقياً متحضراً؛ فمجتمع الصحابة كان مجتمعاً متحضراً مع ما
كان ينقصه من التقدم المادي لا يختلف في ذلك عن المجتمع الإسلامي في القرن الرابع الهجري،
حيث كانت الحضارة الإسلامية في قمتها وفي عظمتها، فكلاهما كان مجتمعاً متحضراً. ولعل
مجتمع الصحابة كان أفضل بنص حديث رسول الله ﷺ: "خير القرون قرني ثم الذين يلونهم..."،
لأن حظه من التقوى كان أعظم وأرفع.
أما
المجتمعات الجاهلية المعاصرة التي وصلت إلى قمة التقدم المادي فهي مجتمعات متخلفة رغم
كل ما وصلت إليه.
لا شك
أن الخلافة هي التقدم الإنساني التقي معنوياً ومادياً.
"ولكن الاسلام -كما أسلفنا- لا يحتقر
المادة، ولا يحتقر الإبداع المادي، إنما هو يجعل هذا اللون من التقدم -في ظل منهج الله-
نعمة من نعم الله على عباده، يبشرهم به جزاء على طاعته:
﴿ فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ
كَانَ غَفَّارًا ۞ يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَارًا ۞ وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوَالٍ
وَبَنِينَ وَيَجْعَلْ لَكُمْ جَنَّاتٍ وَيَجْعَلْ لَكُمْ أَنْهَارًا ﴾ [نوح:
10-12].
﴿ وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُوا
وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ وَلَكِنْ
كَذَّبُوا فَأَخَذْنَاهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ ﴾ [الأعراف: 96].
المهم هو القاعدة التي يقوم عليها التقدم
الصناعي، والقيم التي تسود المجتمع، والتي يتألف من مجموعها خصائص الحضارة "الإنسانية".."
ولذلك
نستطيع أن نقول إن هناك تقدما إيمانيا، وهناك تقدم حقير وهابط. فإذا كان التقدم -إذا
جاز التعبير- إيمانياً تقياً، أي يجمع بين التقدم المعنوي والتقدم المادي، أو بين الرقي
المعنوي والرقي المادي، أو بين الكمال المعنوي والكمال المادي كان ذلك نعمة يعيشها
الإنسان، ويكرمه الله عز وجل بها، ويجزيه بها على طاعته وتقواه.
أما
إذا كان التقدم مادياً فحسب خالياً من الروح، فهو مرهون بلعنة الله عز وجل كما يقرر
القرآن:
﴿ حَتَّى
إِذَا أَخَذَتِ الْأَرْضُ زُخْرُفَهَا وَازَّيَّنَتْ وَظَنَّ أَهْلُهَا أَنَّهُمْ قَادِرُونَ
عَلَيْهَا أَتَاهَا أَمْرُنَا لَيْلًا أَوْ نَهَارًا فَجَعَلْنَاهَا حَصِيدًا كَأَنْ
لَمْ تَغْنَ بِالْأَمْسِ ﴾ [يونس: 24]..
تحدثنا
في الجزء الأول من هذا الفصل عن مقومات الحضارة في التصور الإسلامي، وكان آخر مقوم
ذكرناه هو مقوم الخلافة عن الله في الأرض، وكيف أنها تعني التقدم الإنساني التقي معنوياً
ومادياً.
ولا
شك أن مقومات الحضارة هي هذه المقومات الستة كما تحدث عنها الأستاذ سيد.
وكنا
قد قدمنا قبلها حديثاً عن مقومات الرقي. وقلنا أنها: العلم، والتحرر، والتوافق الذي
يؤدى إلى سعادة الإنسان.
والتوافق
الذي فصلناه هو توافق بين ما أعطى الله عز وجل للإنسان من طاقات، وبين الهدف الذي خلق
من أجله. والتوافق أيضاً بين قوانين وناموس الكون والحياة، وبين قدرات الإنسان. والتوافق
أيضاً بين الجانب المعنوي وكيف يتآلف ويتكامل مع الجانب المادي، فلا يضاده ولا يعاديه.
ولا
شك أن مقوم العلم يضيف إيحاء مهما جدا ً؛ وهو أنه يستحيل أن يكون أي إنسان أو أي مجتمع
متحضراً وهو يجهل الحقيقة الأولى التي يقوم عليها هذا الوجود. وهذه أولى مقومات الحضارة،
أن يتفق ما يعلم الإنسان أو المجتمع مع الحقيقة الواقعة. فإذا لم يدرك الحقيقة الواقعة
على صورتها الصحيحة فهو جاهل. فلا شك أن عدم العلم بالله، وعدم الإحاطة بصفات الله
سبحانه وتعالى وأسمائه، وحقيقة معنى الألوهية، وموضع الإنسان من هذه الألوهية، والدور
الذي خلق من أجله، وطبيعة العلاقة بين هذا الوجود وبين هذا الكون.. كل هذه الأمور إذا
جهلها إنسان ما، أو جهلها مجتمع ما، فهو لا شك إنسان متخلف، أو مجتمع متخلف، ونستطيع
أن نحكم عليه بذلك من خلال هذه القضية وحدها.
فعدم
إدراك الحقيقة الكبرى التي تفرض نفسها على العقل، وتفرض نفسها على كل شيء، بحيث -كما
يقول القرآن- ﴿ أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ ﴾ [فصلت:
53].. فالله هو الشهيد، وهو الدليل على ذاته سبحانه وتعالى. فليس شيء يدل عليه بقدر
ما تدل عليه الفطرة. والكيان الإنساني يحس أن الله حقيقة عظمى، تفرض نفسها على العقل
وعلى الفطرة الإنسانية. فحينما يجهل إنسان ما، أو مجتمع ما، أو تجهل حضارة ما -أو ما
تسمي نفسها حضارة- هذه الحقيقة الأولى التي هي القاعدة التي يقوم عليها هذا الوجود
كله.. فلا شك أنها تفقد منذ اللحظة الأولى معنى الحضارة حيث تكون قابعة في زوايا الجهل
ومتخلفة إلى درجة الجهل بالحقيقة الظاهرة الكبرى والعظمى، والتي يترتب عليها أيضاً
بقية مقومات الحضارة كلها كما شرحها الأستاذ سيد.
فلا
شك أن هذا المقوم من مقومات الرقى، وهو العلم، نقصد به ابتداءً العلم بالحقيقة العظمى،
والحقيقة الأولى، والبديهية التي ينبغي أن يدركها أي إنسان يستعمل عقله وفطرته، ويستعمل
دلائل الوجود الإلهي والعظمة الإلهية. فإذا تجاهلها وأقام حياته على قاعدة أخرى فهو
ابتداءً قد انتقل من العلم إلى الجهل، وانتقل من أن يكون متحضراً إلى التخلف.
أما
ما نريد أن نتحدث عنه الآن فهو موضوع جديد، رغم ما يبدو أنه بديهي، وأنه معنى مفهوم
ابتداءً، أو مفهوم بالضرورة من ناحية التلقي عن الله.. لكنه معنى يمكن أن نقول عنه
أنه جديد من خلال آثاره النفسية التي تفرض نفسها علينا حينما نتحدث عنه.
يقول
الأستاذ سيد رحمه الله: "وبعد.. فإن
قاعدة انطلاق المجتمع الإسلامي، وطبيعة تكوينه العضوي، تجعلان منه مجتمعاً فريداً لا
تنطبق عليه أية من النظريات التي تفسر قيام المجتمعات الجاهلية وطبيعة تكوينها العضوي.."
هذه
القاعدة -التي يكرر الحديث عنها أكثر من مرة- هي أن المجتمع الإنساني الإسلامي ينطلق
من مصدر خارج عن الوجود البشري، وخارج عن الوجود الأرضي. وأن الإنسان قد جاءه هذا الإسلام،
أو جاءته هذه التكاليف، وجاءته هذه العقيدة، وجاءه هذا الدين من مصدر خارجي عنه، فليس
هو من اجتهاد الإنسان، وليس من توقعات الإنسان. وإنما جاءه هذا الأمر من مصدر أعلى..
من مصدر خارجي. بينما كل المجتمعات الجاهلية تنبثق من داخلها، وتتلقى من اجتهادها،
وتعيش في إطارها الخاص المحلي البشري الأرضي. ومن ثم فهي تختلف اختلافا جذريا عن المجتمعات
الإسلامية.
المجتمع
الإسلامي -ابتداء- مجتمع يتحرك من خلال التلقي من الخارج.. من مصدر خارجي.
ولا
شك أن هذه القضية ينبني عليها أشياء كثيرة:
ينبني
عليها أولا: أن هذا المصدر الخارجي يفرض هذه الحقيقة على الإنسان -نوع الإنسان- كله.
فهو ليس اختيارا من الإنسان، وليس هناك مجال للاختلاف عليه، لأنه جاء من الخارج. والبشر
حينما يتلقون بعضهم من بعض، ويكون الفكر صادرا من البشر، يكون الاختلاف على هذا الفكر
البشري أمرا طبيعيا.
ولكن
حينما يكون التلقي من أعلى، والمصدر الله، تتساوى البشرية كلها أمام هذا المصدر وأمام
هذا التلقي. هذه هي القضية الأولى.. وهي قضية أن هذا المجتمع المسلم يتلقى فكره ويتلقى
تكليفه من مصدر أعلى، خارج عن الإنسان، وخارج عن المجتمع البشري كله. وهذا يعطيه تفردا
عن بقية الأفكار الأخرى، وبقية التصورات الأخرى...
ثانيا:
أن ما يفرضه هذا المصدر الخارجي يصبح ملزما لكل البشر. لأن الفرق بين البشر في مجموعهم،
وبين خالقهم فارق يعطي الحق لله عز وجل أن يلزم عباده، ويلزم مخلوقاته بما يرى، وبما
يقرر لهم، فيصبح هذا المصدر الإلهي الآتي من أعلى يحمل في طياته الإلزام الطبيعي، وليس
الإلزام المصطنع، ولا الإلزام الكريه. وإنما هو أمر طبيعي جدا أن يخضع الناس لإلههم..
أن يخضعوا لمن خلقهم.. أن يخضع المخلوقون لمن منحهم نعمة الوجود ونعمة الصيانة ونعمة
الرعاية ونعمة القدرات، والنعم كلها التي أتاحها الله لهم. فيصبح هذا المصدر بطبيعته
ملزما، ولا يجد البشر فيه أي نوع من التململ ولا الكبر، ولا الإحساس بالحق في أن يختاروا
أو يرفضوا.
ولا
شك أن قوة الإلزام هذه هي التي تفرض على البشرية ضرورة الطاعة لله عز وجل. وهي التي
تجعل الذين يرفضون نعمة الله ويرفضون طاعة الله متمردين على الله، ويستحقون من ثم غضب
الله عليهم ولعنته وعذابه الخالد يوم القيامة. لأنهم رفضوا واستكبروا عن أمر لا يحق
لهم أن يرفضوه أو أن يستكبروا عليه، وليس لديهم أي مقومات لهذا الاستكبار. فإذا رفض
إنسان ما تصورا آتيا من إنسان مثله فهذا أمر مفهوم، ومقومات الاستكبار هنا موجودة،
فكلاهما بشر، فلماذا أطيعه؟ ولماذا أخضع له؟
ولكن
حينما يكون الأمر بيني وبين الله تنمحي كل مقومات الكبر، وكل مقومات الذاتية، وكل مقومات
الاستكبار. فالله هو الذي أوجد بيده هذا الإنسان ابتداء.. أوجد عقله.. وأوجد إرادته..
وأوجد حياته.. فالإنسان لا يجد في نفسه أي سبب يدفعه إلى الاستكبار، فالحقيقة والواقع
يمنعان أن يستكبر إنسان ما على الله، أو أن يخطر بباله هذا.
ولكننا
نرى العكس في الجاهلية.. نراهم يقبلون أن يكون بعضهم أرباب بعض، ويقبلون أن يذلوا لبشر
مثلهم، ويجدون هذا منطقيا، ويرفضون ولاية الله وسلطان الله.. فيقلبون الأمر قلبا كاملا،
ويجادلون في هذا ويستكبرون.
ولا
شك أن هذا هو الذي يجعلهم يستحقون بجدارة غضب الله ولعنته، لأنهم في الوقت الذي يفتقدون
فيه كل مقومات الاستكبار يستكبرون، وفي الوضع الذي تتوفر فيه مقومات الاستكبار يخضعون
ويذلون. فهم يسيرون ضد الحقيقة وضد البداهة وضد الفطرة، وضد كل ما يصطلح عليه من مفاهيم
العقل، أو الفكر، أو مقاييس الأمور.
وبذلك
تصبح الخاصية الأولى في الحضارة الإسلامية وفي الحياة الإسلامية أنها تُتلقى من مصدر
أعلى خارجي عنها. وهذا المصدر الأعلى الخارج عنها يفرض عليها بطبيعة صفاته وخصائصه
الخضوع الراضي لهذا المصدر. بينما أي فكر آخر، أو أي مذهب آخر ينتج وينبثق من الوجود
البشري فإنه لا يحمل هذا المقوم. وبذلك يكون الإلزام قوة ذاتية موجودة في دين الله.
فالذي يرفض؛ يرفض عن إصرار، وعن استكبار، وعن محاداة لله، وعن تمرد، فهم يبارزون الله
بالمعاصي.. فمبارزة الله عز وجل بالمعاصي كمن شهر سيفه وقوته وجبروته في مواجهة الله
عز وجل.. يبارزه وهو المخلوق الهزيل الذي لا يملك من أمر نفسه شيئا، ويظن أنه قادر
أن يواجه الله، وأن يقف أمام الله ﴿ وَإِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَحْدَهُ اشْمَأَزَّتْ
قُلُوبُ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ وَإِذَا ذُكِرَ الَّذِينَ مِنْ دُونِهِ
إِذَا هُمْ يَسْتَبْشِرُونَ ﴾ [الزمر: 45].
ولا
شك أن هذا يجعل جزاء جريمة الكبر على الله، وجريمة الرفض لمنهج الله، وجريمة الرفض
لهذا المصدر الأعلى مفهوما جدا؛ فالذي يرتكب هذه الجريمة يسير عكس التيار الكوني كله،
ويستحق تماما هذا المصير.
ثالثا:
إن هذا الدين الذي جاء من عند الله يفرض فرضا ذاتيا على الإنسان أن يتحرك به إذا اعتنقه.
فهذا الدين وهذه العقيدة من طبيعتها أنها لا تترك الإنسان خاملا. فلا يمكن أن يتلقى
إنسان ما هذا الدين، ولا يمكن أن تدخل هذه العقيدة قلب إنسان ما ويظل ساكنا. لا بد
أن ينطلق.. لا بد أن يتحرك.. لا بد أن يدعو إلى هذا الحق.. لا بد أن يقيم، أو يحاول
إقامة المجتمع في حياته على أساس هذه العقيدة. هذا كله من طبيعة هذا الدين؛ أنه لا
يترك إنسانا خامدا، ولا يسمح له بأن يعيش ساكنا، وإنما هو -بطبيعته- لا بد أن يطلق
طاقات هذا الإنسان ومشاعره وقلبه وحركته لكي يتحرك لإقامة هذا الدين.
وبذلك
ندرك أن من معالم هذه العقيدة الحركة، وأن الإنسان الذي لا يتحرك بهذا الدين، ولا تحركه
هذه العقيدة وهو يزعم أنه قد اعتنقها فإنه يكون كاذبا في زعمه ذلك، لأن من طبيعة هذه
العقيدة أنها تحرك من اعتنقها وآمن بها. فإذا لم يتحرك فهي إذن غير موجودة.
وهذا
الأمر -أيضا- يعطي معلما واضحا للمؤمنين؛ سواء في معرفتهم لأنفسهم وميزان الإيمان في
قلوبهم، أو في معرفتهم للآخرين الذين يدّعون الإيمان أو يدّعون الإسلام. فالحركة من
طبيعة هذه العقيدة، والحركة من طبيعة الفرد الذي يؤمن بهذا الدين. وبذلك تصبح الحركة
بهذه العقيدة حركة ضرورية؛ بمعنى أنها حركة ذاتية وطبيعية.
نقرأ
ما يقوله الأستاذ سيد في هذا الأمر "فإن قاعدة
انطلاق المجتمع الإسلامي، وطبيعة تكوينه العضوي، تجعلان منه مجتمعاً فريداً لا تنطبق
عليه أية من النظريات التي تفسر قيام المجتمعات الجاهلية وطبيعة تكوينها العضوي.."
وحينما
نستعرض النظريات التي تفسر قيام المجتمعات الإنسانية نجدها كلها باطلة، وكلها تقيم
حياة الإنسان على مقومات بشرية وتصورات بشرية، وحتى إذا أقامتها على تصورات غيبية فهي
تصورات غيبية ضالة لا تتصل بالحق ولا ترتبط به.
ولذلك
لا تنطبق على المجتمع الإسلامي أية نظرية؛ سواء من النظريات الغيبية الضالة، أو من
النظريات المادية أو البشرية التي يحاول فلاسفتها أن يقيموا أو يفسروا المجتمعات على
ضوئها.
يقول:
"المجتمع الإسلامي
وليد الحركة، والحركة فيه مستمرة، وهي التي تعين أقدار الأشخاص فيه وقيمهم، ومن ثم
تحدد وظائفهم فيه ومراكزهم.
والحركة التي يتولد عنها هذا المجتمع ابتداء
حركة آتية من خارج النطاق الأرضي، ومن خارج المحيط البشري.. إنها تتمثل في عقيدة آتية
من الله للبشر، تنشئ لهم تصوراً خاصاً للوجود والحياة والتاريخ والقيم والغايات، وتحدد
لهم منهجاً للعمل يترجم هذا التصور.. الدفعة الأولى التي تطلق الحركة ليست منبثقة من
نفوس الناس ولا من مادة الكون.. إنها -كما قلنا- آتية لهم من خارج النطاق الأرضي، ومن
خارج المحيط البشري.. وهذا هو المميز الأول لطبيعة المجتمع الإسلامي وتركيبه.
إنه ينطلق من عنصر خارج عن محيط الإنسان
وعن محيط الكون المادي."
هذا
المعني يعطي للإنسان المسلم شعورا بالعزة.. شعورا بالطمأنينة.. شعورا بالأحقية.. شعورا
بالأمن، وأنه ليس مرتبطا بشيء من الأرض كما يرتبط الناس، وإنما هو مرتبط بالقوة العظمى
التي خلقت هذا الكون كله. فهو ينطلق من هذه العقيدة التي جاءته من الخارج. فالدفعة
الأولى التي تطلق الحركة في نفوس المسلمين وفي نفوس المجتمع المسلم والجماعة المسلمة
ليست منبثقة من نفوسهم.. فهم لم يختاروها، ولم يصنعوها، ولم يفكروا فيها، وإنما جاءتهم
من خارج النطاق الأرضي ومن خارج المحيط البشري.
يقول:
"وبهذا العنصر
القدري الغيبي الذي لم يكن أحد من البشر يتوقعه، أو يحسب حسابه، ودون أن يكون للإنسان
يد فيه -في ابتداء الأمر-.."
هذا
العنصر القدري الغيبي الذي لم يختره الإنسان، وإنما كان الله سبحانه وتعالى هو الذي
قدره، وهو الذي اختار من ينـزّل عليه هذا الوحي، وهو الذي اختار الرسول أو النبي الذي
حمله هذا التكليف، واختار الأرض التي سيقوم عليها هذا الدين، واختار القوم الذين سيكلفهم
به، واختار الزمان الذي يتحقق فيه هذه الأمر.. الله سبحانه هو الذي يصنع كل هذا. وهو
قدر غيبي ليس للإنسان يد فيه، حتى إذا كان الإنسان يتوقعه كما كان بعض الناس قبل مجيء
النبي ﷺ يتوقعون ظهور نبي.. فهم إنما كان يتوقعون ذلك بما بقي لهم من علم عن
الرسل السابقين.. ولكنهم لم يكونوا يعرفون متى بالضبط، لا اليوم ولا التاريخ، ولا يعرفون
الشخص الذي سيبعث، ولكنهم يعرفون فقط مواصفات عامة، علامات وأمارات فيمن سيبعثه الله
ليخلص العالم مما غرق فيه من الأهواء والضلالات والظلم والجورـ.
هذا
العنصر -دائما- عنصر قدري وغيبي؛ سواء كان هذا مرتبطاً بساعة الوحي ونزوله، أو مرتبطاً
بشخص الرسول الذي سيبعث، أو مرتبطاً بالقوم الذين يهيئهم الله ليتلقوا هذه الرسالة،
أو بالمكان أو بالزمان.
وهذا
العنصر القدري الغيبي ينطبق -أيضا- على أي مجتمع، أو أي تجمع مسلم. فهو ينبت وينشأ
بقدر غيبي من الله يقول: "بهذا العنصر
القدري الغيبي الذي لم يكن أحد من البشر يتوقعه، أو يحسب حسابه، ودون أن يكون للإنسان
يد فيه -في ابتداء الأمر- تبدأ أولى خطوات الحركة في قيام المجتمع الإسلامي.."
القدر
هو الذي يدفع، وهو الذي يحرك، والحركة الأولى هي حركة قدرية.. الله الذي يختار، والله
الذي يملأ قلب أي إنسان بهذا الحق، والله الذي يدفع الإنسان هذا ليبدأ الحركة.
يقول:
"ويبدأ معها
عمل "الإنسان" أيضاً. إنسان يؤمن بهذه العقيدة الآتية له من ذلك المصدر الغيبي،
الجارية بقدر الله وحده. وحين يؤمن هذا الإنسان الواحد بهذه العقيدة يبدأ وجود المجتمع
الإسلامي (حكماً).. إن الإنسان الواحد لن يتلقى هذه العقيدة وينطوي على نفسه.. إنه
سينطلق بها.. هذه طبيعتها.. طبيعة الحركة الحية.. إن القوة العليا التي دفعت بها إلى
هذا القلب تعلم أنها ستتجاوزه حتماً! إن الدفعة الحية التي وصلت بها هذه العقيدة إلى
هذا القلب ستمضي في طريقها قدماً."
فالحركة
صفة ذاتية لهذه العقيدة، وإذا دخلت دخولا صحيحا إلى قلب إنسان فهي تحركه وتدفعه دفعا.
وحينما يؤمن إنسان واحد بهذه العقيدة فإنه يكون ممثلا لنقطة البداية، ويكون هو المجتمع
المسلم (حكما)، بحيث نقول: إن المجتمع المسلم ابتدأ كما يعبر الأستاذ محمد قطب في أحد
كتبه فيقول: إن المد الإسلامي يبدأ من قلب مسلم.
فبمجرد
أن تسكن هذه العقيدة في قلب يبدأ المد الإسلامي الذي قد ينتهي إلى آخر حدود الأرض.
ولكنه يبدأ من قلب حي، كما بدأ في قلب الرسول ﷺ بعد أن تلقى هذه الدفعة الغيبية من الله
عز وجل، وحينها بدأ المجتمع الإسلامي يتحقق، وبدأ المد الإسلامي بعد ذلك على مدى هذه
الأعوام القليلة التي عاشها رسول الله ﷺ.
فالقاعدة
التي يقوم عليها المجتمع الإسلامي قاعدة فريدة، وهي أنه يقوم على عقيدة جاءته من خارج
النطاق الأرضي، ومن خارج المحيط البشري، فهي تطلق حركة ليست منبثقة من نفوس الناس،
ولا من مادة الكون، وهي بطبيعتها تلزم الإنسان الذي يتلقاها بالحركة والعمل بها.
وهي
حين تقوم في قلب إنسان تعني أن المجتمع المسلم قد قام، ومن هنا يبدأ المد الإسلامي.
ولا
شك أن هذا يختلف عن أي مذهب أو فكر بشري. فالفكر البشري ليس آتيا من الخالق، وإنما
هو صناعة بشرية متكلفة. ثم إنه قائم على الهوى البشري والجهل البشري والقصور البشري،
ثم هو أيضا ليس ملزما للناس أن يطبقوه، لأن المصدر الذي أنشأه لا يملك سلطة على البشر،
وإنما هو بشر كبقية البشر، فمن حقهم أن يرفضوا أو يوافقوا. ثم أنه يمكن أن يتغير مع
الأهواء ويتغير مع المصالح ويتغير مع الزمن حينما يضيق به الناس أو يفشل في تحقيق رغباتهم،
فيضطر الناس أن يبحثوا عن شيء آخر يناسبهم.
هذه
الأمور كلها لا توجد في منهج الله، ولا العقيدة التي جاءت من عند الله. فهي جاءت من
عند العليم الخبير.. من عند الله صاحب السلطان الحقيقي على هذا الوجود. وجاءت إلى البشر
الذين هم خلق الله الخاضع بطبيعته لخالقه، والذي ينبغي أن يسلم نفسه لمن خلقه بيديه،
كما أن طبيعة هذه العقيدة وهذا المنهج أنه لا يتغير مع مصالح الناس ولا مع أهوائهم..
فالفارق كبير.
ثم إن
هذه العقيدة بطبيعتها تدفع الإنسان إلى العمل وإلى الحركة، بينما المذاهب البشرية يمكن
جدا ألا تدفع أصحابها إلى الحركة ولا إلى العمل، فتظل قابعة في زوايا العقل وزوايا
القلب، ولا تحرك أصحابها. لكن هذه العقيدة الإسلامية بطبيعتها هي التي تدفع الناس،
أو تدفع صاحبها -إذا كان صادقا- إلى الحركة.
"إن الدفعة الحية التي وصلت بها هذه
العقيدة إلى هذا القلب ستمضي في طريقها قدماً."
هذا
قدر غالب لا يملك أحد أن يقف في وجهه.. ﴿ مَا كَانَ عَلَى النَّبِيِّ مِنْ حَرَجٍ فِيمَا
فَرَضَ اللَّهُ لَهُ سُنَّةَ اللَّهِ فِي الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلُ وَكَانَ أَمْرُ
اللَّهِ قَدَرًا مَقْدُورًا ﴾ [الأحزاب: 38].
يقول
"وحين يبلغ
المؤمنون بهذه العقيدة ثلاثة نفر، فإن هذه العقيدة ذاتها تقول لهم: أنتم الآن مجتمع،
مجتمع إسلامي مستقل، منفصل عن المجتمع الجاهلي الذي لا يدين لهذه العقيدة، ولا تسود
فيه قيمها الأساسية -القيم التي أسلفنا الإشارة إليها- وهنا يكون المجتمع الإسلامي
قد وُجِدَ (فعلاً)!"
وهذا
يعطي لهؤلاء الثلاثة وصفا خاصا ووضعا متفردا.. هم ثلاثة.. وهم قليل.. ولكنهم من خلال
تأييد الله عز وجل، ومن خلال اعتراف الله سبحانه وتعالى بهم، ومن خلال اعتماد الله
لهم كممثلين لدينه في الأرض، وممثلين لأوليائه في الأرض، فإن هؤلاء الثلاثة في حقيقة
الأمر يكونون هم المصطفين الأخيار الذين اصطفاهم الله من بين هذه البشرية ليكونوا هم
البداية المباركة لما يريده الله عز وجل منهم. ثلاثة.. وهم قلة، ولكنهم في الحقيقة
مستندين إلى قدرة الله، ومستمدين وجودهم الشرعي من الله عز وجل. بينما الجاهلية التي
تموج بها الأرض نبت شيطاني لا يتمتع بالاعتراف الإلهي، ولا يتمتع بالحقائق الإلهية،
ولا الرعاية الإلهية.
فحقَّ
لهؤلاء الثلاثة أن يشعروا بولاية الله عز وجل، وأن يفرحوا بولاية الله ورضاه عنهم.
وهذا يعطيهم قوة في مواجهة البشر كما حدث من أنبياء الله عز وجل.. نوح وهود، وكل الأنبياء..
كانوا يقفون وحدهم فرادى ليواجهوا البشرية كلها. وهذا لا يحدث أبدا إلا حينما يكون
هذا الفرد مرتبطاً ارتباطا حقيقا بقوة حقيقية. فلا يمكن لبشر ضعيف غير مستند لقوة حقيقية
أن يجازف بنفسه إلا أن يكون مجنونا، إما إذا كان عاقلا فلا يمكن أبدا أن يقف ليواجه
البشرية ويتحداها، ويستعجل النـزال معها، إلا أن يكون نبيا، أو يكون مؤمنا قد وصل يقينه
بالله أن يحس أن قوة الله معه. وهذه في ذاتها معجزة.. كما يقول العلماء عن معجزة هود
-عليه السلام- إنها كانت فقط في هذا الموقف الذي وقفه وحده متحديا الجاهلية من حوله
ليقول لهم ﴿ فَكِيدُونِي جَمِيعًا ثُمَّ لَا تُنْظِرُونِ ﴾ [هود: 55].
يقول
"والثلاثة يصبحون
عشرة، والعشرة يصبحون مائة، والمائة يصبحون ألفاً، والألف يصبحون اثنى عشر ألفاً، ويبرز
ويتقرر وجود المجتمع الإسلامي!"
ثم ينتقل
الأستاذ سيد إلى نقطة أخرى، نستطيع أن نسميها "سيكولوجية البناء الإسلامي"..
يقول
"وفي الطريق
تكون المعركة قد قامت بين المجتمع الوليد الذي انفصل بعقيدته وتصوره، وانفصل بقيمه
واعتباراته، وانفصل بوجوده وكينونته، عن المجتمع الجاهلي -الذي أخذ منه أفراده-.."
فالبناء
النفسي للجماعة المسلمة يبدأ لحظة الإحساس بالمفاصلة الشعورية الكاملة بينها وبين المجتمع
الذي كانت جزءا منه قبل ذلك، فهذا المجتمع الوليد الذي يمثله فرد.. أو ثلاثة أفراد
قد انفصل بعمومه.. لم ينفصل بجزء منه.. وإنما انفصل بقلبه وعقله وحركته ومشاعره وخواطره
وقوانينه.. فكل شيء قد تغير فجأة في هذا الإنسان. فالإنسان الجاهلي حينما يتلقى دين
الله ويؤمن به، فإنه ينتقل بكليته إلى عالم جديد، يختلف اختلافا جذريا في المضمون والشكل
والإحساس والمشاعر بصورة واضحة عما كان فيه. وهذه هي بداية التكوين الجديد للإنسان
المسلم؛ فهو يحس منذ لحظة تلقيه الحقيقة الإيمانية -حقيقة لا إله إلا الله- أنه إنسان
جديد جدة كاملة.. ويشعر أنه قد ولد ولادة جديدة كاملة.. لم يولد ولادة جسمانية وإنما
ولد ولادة معنوية، جعلته كيانا جديدا في كل شيء. فإذا نظر إلى ماضيه فإنه يتعجب؛ كيف
كان يفكر؟ كيف كان يحس؟ كيف كان يعيش؟ كيف كان يزن الأمور؟ لأنه قد صار إنسانا جديدا
كلية. وهذا هو البناء النفسي الذي تحدثه هذه الشهادة المباركة.. شهادة ألا إله إلا
الله.. فتقذف في قلب الإنسان شحنة من نور الله عز وجل، تضيء اليقين والثبات في قلبه
وجنبات نفسه، وجنبات الوجود كله من حوله فتغيره إلى شخص آخر.
وحين
لا يحس الإنسان بهذه الدفعة الحية، وبهذه الإشراقة، وبهذا التغيير الهائل.. فإن تلقيه
لهذه الدفعة يكون تلقيا خامدا، أو ناقصا، أو مزيفا، أو قل فيه ما شئت.
فالإنسان
الجاهلي حينما ينير الله بصيرته فيعرف الحق ويدخله لا شك أنه يشعر بالفرحة، ويشعر بهذه
الومضة الرائعة التي غيرته تغييرا كاملا. وهذا ما نلاحظه في إيمان الصحابة الأوائل،
كما نلاحظه في أنفسنا حينما عُرض علينا هذا الحق فآمنا به، وتغيرنا تماما، وأصبح ما
كنا نحبه نكرهه، وأصبح ما كنا نعشقه نتقزز منه، وأصبح ما كنا نكرهه نحبه.. وهكذا تغيرت
الأمور تغيرا كاملا بصورة غير مفهومة، إلا أن يكون تفسيرها الوحيد أن هناك حياة قد
دخلت نفوسنا بصورة جديدة.. ﴿ أَوَمَنْ كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ
نُورًا يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَنْ مَثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ
مِنْهَا ﴾ [الأنعام: 122].
فالتكوين
النفسي.. أو سيكولوجية البناء الإسلامي المتفرد هو الذي يصنع صناعة لا يصنعها دين آخر
في الحياة البشرية. فكل المذاهب التي تنبثق من اجتهادات البشر قد تغير أجزاء من الإنسان،
لكنها لا تغير الإنسان كله، ولا تخلق فيه روحا جديدة كاملة الجدة، إنما نجد الإنسان
يتغير في جانب من جوانبه.. جانب مادي.. وتبقى حياته بعد ذلك هي هي. فالشيوعي الذي يكفر
بكل إله، والرأسمالي الذي يدعي أنه يؤمن بعقيدة.. كلاهما في حياته الواقعية لا يختلف
عن الآخر. وكذلك الهندي الذي يعبد البقر، والوثني الذي يعبد الوثن.. لا تحس أن حياتهم
العملية -دون أن تعرف انتماءاتهم- تختلف بعضها عن بعض.
لكن
لا شك أن الفارق هائل جدا بين الإنسان الجاهلي في عمومه والإنسان المسلم.
هذا
البناء النفسي، والسيكولوجية النفسية، هي أيضا أحد معالم ومقاييس ومعايير الإيمان الحقيقي.
فالإنسان يستطيع أن يعرف نفسه؛ هل آمن بهذا الحق أم لم يؤمن؟ ويستطيع أن يعرف الناسُ
هل زعمه هذا صادق أم كاذب.. من خلال مشاعره، ومن خلال كلماته، ومن خلال حركته، ومن
خلال سلوكه.. ﴿ وَلَتَعْرِفَنَّهُمْ فِي لَحْنِ الْقَوْلِ ﴾ [محمد: 30]. فكأن الإنسان
المنافق، والإنسان المسلم يظهران من لحن القول؛ من كلمة ينطقها أي منهما تستطيع أن
تدرك أن هذه الكلمة لا يمكن أن تصدر من قلب مؤمن، أو أن هذه الكلمة لا تصدر إلا من
قلب مؤمن.
لا شك
أن التكوين النفسي الذي تصنعه قضية لا إله إلا الله، والذي يصنعه هذا التصور الذي جاء
من خارج الأرض ومن خارج هذا الكون له آثاره النفسية العميقة التي تكوّن الإنسان المسلم
المتفرد.
يقول
"وفي الطريق
تكون المعركة قد قامت بين المجتمع الوليد الذي انفصل بعقيدته وتصوره، وانفصل بقيمه
واعتباراته، وانفصل بوجوده وكينونته، عن المجتمع الجاهلي -الذي أخذ منه أفراده- وتكون
الحركة من نقطة الانطلاق إلى نقطة الوجود البارز المستقل قد ميزت كل فرد من أفراد هذا
المجتمع، وأعطته وزنه ومكانه في هذا المجتمع -حسب الميزان والاعتبار الإسلامي- ويكون
وزنه هذا معترفاً له به من المجتمع دون أن يزكي نفسه أو يعلن عنه، بل إن عقيدته وقيمه
السائدة في نفسه وفي مجتمعه لتضغط عليه يومئذ ليواري نفسه عن الأنظار المتطلعة إليه
في البيئة!"
تكون
الحركة من نقطة الانطلاق، والتي هي نقطة التلقي من مصدر خارج عن هذا الوجود والأرض،
ومن المصدر الرباني الذي ليس كمثله شيء.. تكون هذه الحركة من نقطة الانطلاق إلى نقطة
الوجود البارز المستقل في الأرض.. البارز والمستقل عن المجتمع الذي كان فيه.
"ويكون وزنه هذا معترفا له به من المجتمع،
دون أن يزكي نفسه، أو يعلن عنه. بل إن عقيدته وقيمه السائدة في نفسه وفي مجتمعه لتضغط
عليه يومئذ ليواري نفسه عن الأنظار المتطلعة إليه في البيئة!"
وهذا
أيضا معلم آخر في التكوين النفسي لأفراد المجتمع الإسلامي، وطريقة تكوينه.
والفرد
الذي برز إلى الوجود خلال بروز المجتمع الإسلامي، من نقطة الانطلاق التي انطلق منها
ثم الحركة التي يعيشها، هي التي تعطي كل فرد -من خلال عمله.. ومن خلال سلوكه.. ومن
خلال وزن الإيمان الذي يحمله- هي التي تعطيه وزنه في المجتمع حسب الميزان والاعتبار
الإسلامي.
فوزن
كل إنسان في هذا المجتمع الوليد يتحدد من خلال حركته، ومن خلال ارتباطه بهذا الحق،
دون أن يزكي نفسه. بل إن هذه العقيدة تدعوه أن يتوارى عن الأنظار المتطلعة إليه.
وهكذا
يكون وزن كل فرد وزن مبارك.. لأن الذي يعطيه وزنه هو الله عز وجل من خلال التقوى..
التي من ركائزها: إنكار الذات. ولذلك نقول دائما: إن تضخم الذات، والتطلع إلى الوجود
والحضور، والرغبة في أن يكون للإنسان مكان ونصيب من الظهور والعلو، مهما كان هذا العلو
صغيرا أو كبيرا.. أمر يتنافى ابتداءً مع طبيعة هذه العقيدة، التي لا تريد من أفرادها
أن يتطلعوا إلى أمر من أمور الدنيا، ولا أن يزكوا أنفسهم.. ﴿ بَلِ اللَّهُ يُزَكِّي
مَنْ يَشَاءُ ﴾ [النساء: 49].. وأنهم حين يفعلون ذلك يرتفعون ويأخذون أكثر مما كانوا
يتصورون ويأملون.
أما
هؤلاء الذين يقررون لأنفسهم أهدافا وطموحات، ويحاولون أن يفرضوها على المجتمع بالحق
وبالباطل، تغذيهم في ذلك نزعة البروز والرغبة في الظهور، فهؤلاء ينـزلون وإن حاولوا
الصعود. وكلما حاولوا أن يرتفعوا بهذه الوسائل غير المشروعة، والتي لا يقرها دين الله
يخفضهم الله ويذلهم.
ولذلك
نحذر دائما من تضخم الذات..
وتضخم
الذات له ألوان كثيرة جدا، ويحتاج إلى بحث مستفيض، لكي نتحدث عن مظاهره، وألوان هذا
البروز، والمداخل المدسوسة والخفية والمعلنة لهذا التضخم، وآثار هذا التضخم في الواقع..
وهذا موضوع يحتاج من كل منا أن يدرسه، ويحتاج من كل إنسان أن يوضحه للآخر.
فلا
شك أن سيكولوجية البناء الإسلامي قائمة على التقوى، وعلى التجرد. والتضخم ينافي هذا
التجرد.. لأنه يضع -مع ابتغاء وجه الله- وجه النفس، ووجه المخلوقين. وهذا شرك خفي نعوذ
بالله منه، والذي يحاول أن يرتفع بنفسه عن غير طريق الأسباب المشروعة التي شرعها الله
فإنه يهبط بنفسه إلى الدرك الأسفل.
والمسلم
المتجرد لا يكون له في هذه الدنيا هدف إلا إرضاء الله عز وجل. وكل ما يضاد هذا الهدف
فإنه يحاول أن يبتعد عنه.
فهذا
الوزن.. وزن مبارك فعلا. ولذلك نجد المجتمع المسلم لا يُبرِز الله فيه إلا أفرادا مباركين
فعلا، قد أقاموا حياتهم ابتغاء وجه الله عز وجل. أما الذي يريد أن يفرض نفسه بأساليبه
البشرية على الآخرين فإنه في الحقيقة لا يحوز رضاهم ولا إقناعهم، وسيسقط في النهاية.
وصدق رسول الله ﷺ حين يقول: "مَنِ الْتَمَسَ رِضَى اللَّهِ
بِسَخَطِ النَّاسِ رَضِيَ الله تعالى عَنْهُ وَأَرْضَى النَّاسَ عَنْهُ وَمَنِ الْتَمَسَ
رِضَا النَّاسِ بِسَخَطِ اللَّهِ سَخَطَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَأَسْخَطَ عليه الناس".
يقول
"ولكن
"الحركة" التي هي طابع العقيدة الإسلامية، وطابع هذا المجتمع الذي انبثق
منها، لا تدع أحداً يتوارى! إن كل فرد من أفراد هذا المجتمع لا بد أن يتحرك! الحركة
في عقيدته، والحركة في دمه، والحركة في مجتمعه، وفي تكوين هذا المجتمع العضوي.. إن
الجاهلية من حوله، وبقية من رواسبها في نفسه وفي نفوس من حوله، والمعركة مستمرة، والجهاد
ماض إلى يوم القيامة.
على إيقاعات الحركة، وفي أثناء الحركة،
يتحدد وضع كل فرد في هذا المجتمع، وتتحدد وظيفته، ويتم التكوين العضوي لهذا المجتمع
بالتناسق بين مجموعة أفراده ومجموعة وظائفه."
وهكذا
يأخذ كل فرد حقه صافيا بفضل الله عز وجل، وببركة هذا المنهج.. فالإنسان لا بد أن يتحرك،
ومن خلال الحركة يتبين الدور الذي يستحقه، والدور الذي يستطيع أن يقوم به. ومن ثم يكون
أنفع لهذا الدين وأنفع للناس، ولهذه الجماعة فمن يصرف جهده كله وطاقته كلها لله عز
وجل.. يضعه الله على رأس أو قمة هذه المنظومة لكي ينفعها.
أما
الذي لا يعطي جهده كله، وطاقته كلها، ووقته كله، وكل ما يملك لله رب العالمين.. ولا
يجعل ذلك كله خاضعا لتنمية الحق في نفسه وتنمية الحق في مجتمعه، فإنه سيظل بعيدا عن
أماكن القيادة، وبعيدا عن جوانب الفائدة في جماعته، وبعيدا أيضا عن الحبال التي تشده
إلى الثبات في وقت المحن ووقت الفتن.
وهذه
المسألة مهمة جدا.. فليست القضية قضية شخصية.. وليست القضية أن تكون ناجيا.. وإنما
حين يُقصِّر الإنسان في استغلال وقته استغلالا صحيحا، وحين يُقصِّر في استغلال طاقته
استغلالا صحيحا، وحين يُقصِّر في استغلال الوقت والجهد والمال والعقل استغلالاً يبتغي
به وجه الله، فإن مضرة هذا تقع على نفسه وعلى الجماعة وعلى أولاده وعلى البشرية كلها.
هو
-أولا وآخرا- تقصير في حق الله عز وجل.. حينما تبخل بجهدك الذي أعطاه الله لك، وتبخل
بعقلك وبمالك وبوقتك وبصحتك على الله، وتعطيها لطموحاتك الشخصية، ولمزاجك الشخصي، ولشهوتك
ولذاتك.. فهذا تقصير في حق الله الذي منّ عليك بكل هذا، ثم أنت بعد ذلك تصرفه في غير
مكانه الذي يريد الله عز وجل.
فالقضية
أكبر من أن تكون مجرد نشاط، أو مجرد اجتهاد.. المسألة مسألة عبودية لله عز وجل..
لكي
تكون عابدا حقا لا بد ألا يكون في نفسك شيء لغير الله عز وجل.. لا بد أن يكون وقتك
موظفا لله.. مالك موظف لله.. بيتك موظف لله.. أولادك موظفون لله.. حياتك موظفة لله..
مشاعرك موظفة لله. والإنسان الذي لا يفعل ذلك عليه أن يعلم أنه بمقدار خموله وكسله
وقصوره يكون مقصراً في حق الغاية التي خلق من أجلها.. ومقصراً في حق الله عز وجل..
وهذه قضية لا يختلف عليها مؤمنان قط، ولا بد أن يعلمها الناس. ومن خلال هذا البذل المجرد
لله يأخذ الأفراد أماكنهم في سلم الجماعة المسلمة، لأن الجماعة المسلمة ستختار كل من
يفرض بتقواه وبجهده وبإخلاصه وبعلمه مكانه ليستفيد منه المجتمع المسلم.
فالمجتمع
المسلم يختلف عن المجتمع الجاهلي في أن الوصول للمقامات العليا لا يأتي بتزكية النفس،
ولا يأتي بالكذب، وبالإعلانات، ولا يأتي بالمحسوبيات، ولا يأتي بالأهواء، ولا يأتي
بالاختيارات العشوائية القائمة على الهوى..
المواقع
والمراكز في داخل المجتمع المسلم تؤخذ عن جدارة من خلال بركة الالتزام بهذا الحق، ومن
خلال تزكية الله لهذا الفرد أو ذاك. حينما يتقي الله ويتجرد يرتفع من القاع إلى القمة
بتقواه. لذلك رأينا عمر -وقد دخل الإسلام في السنة السادسة- يسبق كل من سبقوه إلا أبا
بكر.. سبق سعد بن أبي وقاص، وعبد الرحمن بن عوف، والزبير بن العوام، وسبق.. وسبق..
كل هؤلاء سبقهم عمر، لأنه كان يأخذ كل شيء بقوة. فحينما دخل الإسلام دخل بقوته.
فلا
شك أن القضية ليست قضية قِدَم في الجماعة، ولا قضية سن، ولا قضية مستوى ثقافي، ولا
مستوى اقتصادي.. وإنما هو مستوى التقوى.
مستوى
التقوى في القلب هو الذي يدفع صاحبه إلى أن يعيش من أجل الله عز وجل في كل لحظة، ويستخدم
كل طاقاته من أجل بناء نفسه بناءً إسلاميا، ورفع هذا المجتمع.. وكذلك لكي يحقق عبوديته
كاملة لله عز وجل. وبغير هذا لا يأخذ إنسان ما مكانا غير الذي يستحقه في الواقع الإسلامي
مهما حاول أن يرتفع. فالمجتمع المسلم لا يقبل الزيف، ولا يقبل الخبث. وإنما يميز نفسه
باستمرار، وينفي خبثه باستمرار ﴿ مَا كَانَ اللَّهُ لِيَذَرَ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى
مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ حَتَّى يَمِيزَ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ وَمَا كَانَ اللَّهُ
لِيُطْلِعَكُمْ عَلَى الْغَيْبِ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَجْتَبِي مِنْ رُسُلِهِ مَنْ يَشَاءُ
﴾ [آل عمران: 179].. فالله عز وجل هو الذي يجتبي، وهو الذي يرفع. وأي إنسان منا يحاول
أن يتطلع إلى مكان في الجماعة أو دور في الجماعة دون أن يتجرد لله ويسقط هذه الرغبة
فلن ينال هذا المكان، وإذا ناله فلن يعان عليه، ولن يبارك الله له فيه. والجماعة المسلمة
لا تعطي لفرد مكانا لا يستحقه، ولا تجامله أبدا في هذا الأمر. وإذا كان لدى الإنسان
طموح فليطمح في التقوى، وليطمح فيما عند الله، ولا يطمح فيما عند الناس، حتى لو كان
مكانا في الجماعة.. وحتى لو كان نصر هذا الدين نفسه.. فلا بد أن يكون الأمر متجردا
لله.
"على إيقاعات الحركة، وفي أثناء الحركة،
يتحدد وضع كل فرد في هذا المجتمع، وتتحدد وظيفته، ويتم التكوين العضوي لهذا المجتمع
بالتناسق بين مجموعة أفراده ومجموعة وظائفه."
والتناسق
بين مجموعة أفراده ومجموعة وظائفه أيضا قضية مهمة، لأن مجموعة وظائف المجتمع المسلم
متفردة. لا بد أن يصاغ الأفراد ليكونوا متناسقين مع أهداف المجتمع. فإذا كان من وظائف
المجتمع توحيد الله، والعبودية لله، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، واستعمار الأرض
من أجل إقامة الحق، فلا بد أن يكون الأفراد أيضا مهيئين لهذه الأهداف، ولا يكونون بعيدين
عنها.. فالذي يعمل داخل المجتمع المسلم ليكوِّن نفسه اقتصاديا، يجب أن يكون هدفه هذا
متناسقا مع حركة المجتمع المسلم ووظائفه. فالمجتمع المسلم يحقق للأفراد ما يريدون،
ولكن من خلال وظائف المجتمع المسلم، ولا بد أن يحدث تناسق بين تكوين الأفراد في مجموعه
وفي أشخاصه وبين أهداف ووظائف المجتمع الذي ينشؤون فيه. فإذا سار إنسان داخل المجتمع
بأهداف غير تلك الأهداف التي يريدها الله، فإنه لن يحقق ما يريد، وإن حقق فلا ثواب
له، كذلك الرجل الذي دخل المعركة مع رسول الله ﷺ، وأبلى بلاء هائلا، وظن المسلمون أنه في
قمة الشهداء، فإذا برسول الله ﷺ يقول لهم (هو في النار).. ويتعجب الصحابة
لذلك، ولكن ذلك يظهر بعد قليل، حينما زادت عليه جراحاته، فوضع سيفه بين ثدييه واتكأ
عليه حتى قتل نفسه.. فجاء الصحابي الذي شاهد فعله ذاك بنفسه يقول: أشهد ألا إله إلا
الله وأنك رسول الله، لقد رأيت الرجل الذي قلت أنه في النار والذي تعجبنا لقولك فيه،
وجدته قد فعل كذا وكذا..
فهذا
رجل دخل المعركة وقاتل وجرح، وأبلى بلاء حسنا، ولعل الإسلام قد انتفع بسببه.. ولكنه
في النار. فليست العبرة بشكل العمل، إنما العبرة بالنيات. فلا بد أن تتكافأ وظيفة الأفراد
وأهدافهم، وتتناسق مع وظيفة المجتمع وأهدافه. فالإنسان الذي يريد أن ينجح كتاجر ينجح
لكي يثري المجتمع المسلم، ولكي يقوي الجماعة المسلمة.. وهكذا.. فإذا كان هذا هدفه يبارك
الله في ماله، ويرفع من قدره.. كما كان عثمان -رضي الله عنه- يجهز جيش العسرة من ماله،
ويتنازل عن قافلة بها سبعمائة جمل لينفقها كلها في سبيل الله، فلا يدخل "جيبه"
منها شيئا.. هؤلاء كانوا أعظم الاقتصاديين، وكانوا وجهاء الطبقة الاقتصادية في المجتمع
المسلم الأول. وهكذا كان الزبير بن العوام وعبد الرحمن بن عوف.. كانوا ينفقون من الأموال
أكثر مما يضعون في خزائنهم، ولكنهم كانوا يتاجرون ويعملون. ولذلك كان الله عز وجل يجعلهم
خزانة المجتمع المسلم، يدفعون من أموالهم ما يدفع ضرورات المجتمع، وما يبعد حاجات المجتمع.
ولكن
الذي يستغل المجتمع المسلم لكي يثرى هو بنفسه فهذا إنسان شقي وليس سعيدا. فلا بد أن
يحدث تناسق بين مجموعة الأفراد وأهدافهم وسعيهم، وبين مجموعة وظائف المجتمع المسلم
وما يريد.
يقول
"هذه النشأة،
وهذا التكوين، خاصيتان من خصائص المجتمع الإسلامي تُميزانه، تُميزان وجوده وتركيبه،
وتُميزان طابعه وشكله، وتُميزان نظامه والاجراءات التنفيذية لهذا النظام أيضاً.."
وهذا
ينطبق على كل صغيرة وكبيرة في المجتمع المسلم؛ من أول اختيار الإمام، ثم طريقة اختيار
أهل الحل والعقد، وطريقة الشورى، واختيار عمال الأمصار، وشكل التعامل بين الولاة والأئمة
وعامة الرعية، ووضع المرأة، ومفهوم التعليم، ومفهوم الرياضة، ومفهوم التوسع.. كل شيء
سنجده مختلفا تماما؛ في الصغيرة والكبيرة. وسنجد أن الإسلام يظلل حركة المسلم في كل
لحظة.. فحينما اختصم عمر بن الخطاب مع أحد الناس، فاحتكما لأحد الصحابة كي يقضي بينهما،
وعندما دخلا عليه قال الصحابي المحكَّم: اقعد يا أمير المؤمنين على هذه الوسادة، فقال
له عمر: هذا أول الجور، ومنعه عمر بن الخطاب من أن يحكم كقاضي طوال حياة عمر.. هذه
نفسية أمير المؤمنين، وهذه طريقة الإسلام في أنه يقلب الموازين من الانحطاط إلى هذه
الرفعة، فيقرر ببساطة شديدة هذا الأمر، ويقف عمر وهذا الذي يختصمه.. والرجل المحكَّم
يريد أن يكرمه لأنه الخليفة، فيأبى هذا التكريم، لأنه ليس في موضعه، فالقاضي ينبغي
أن يسوي بين المتخاصمين.. فأخطأ هذا الخطأ غير المقصود.. ولكن هذا الخطأ حرمه من أن
يكون قاضيا في عهد عمر كله.. فهذا القاضي لم يأخذ مكانه في المجتمع المسلم، لأن توجهه
لم يتماش ولم يتناسق مع أهداف المجتمع المسلم.
فأي
فرد لا يسير بصدق متحر الحق فليعرف أنه لن يأخذ مكانه أبدا، ولن يمكِّنه الله، بل سيخذله
الله في كل خطوة يريدها في غير الاتجاه الصحيح. فليحذر كل إنسان من تضخم ذاته. وليحذر
كل إنسان أن يعمل عملا لا يبتغي به وجه الله. وليحذر كل إنسان أن تكون طموحاته دنيوية،
وليعمل عملاً خالصا ابتغاء وجه الله، ولا يضيق بكلمة توجيه، ولا بكلمة تصحيح، ولا يضيق
بأي شيء مادام مقصوده وجه الله عز وجل.
فلنحذر
هذا التضخم الذي يفسد على الإنسان حياته..
يقول
"هذه النشأة،
وهذا التكوين، خاصيتان من خصائص المجتمع الإسلامي تُميزانه، تُميزان وجوده وتركيبه،
وتُميزان طابعه وشكله، وتُميزان نظامه والإجراءات التنفيذية لهـذا النظام أيضاً، وتجعلان
هذه الملامح كلها مستقلة، لا تعالج بمفهومات اجتماعية أجنبية عنها، ولا تدرس وفق منهج
غريب عن طبيعتها، ولا تنفذ بإجراءات مستمدة من نظام آخر!"
في المجتمع
المسلم كان يكفي شهادة اثنين من العدول لتنظم أشياء كثيرة جدا من العقود والمعاملات.
أما الآن فيحتاج الأمر إلى إجراءات طويلة جدا، تضيع الوقت والجهد، وترهق الأعصاب. ذلك
لأن الأمانة قد ارتفعت وضاعت. والناس لم يعودوا صادقين أو أتقياء. ولذلك لا بد أن يكون
كل شيء مكتوبا، ومن عدة نسخ، وموقع من عدة موظفين، ومختوم بختم الدولة.. ورغم ذلك كله
لا يضمنون أيضا العدل، ولا يضمنون أيضا الأمانة، وإذا شاءوا تلاعبوا بكل هذه الأمور.
لكن في المجتمع المسلم كان يكفي أن يشهد اثنان على أمر لكي يمضي.. سواء كان زواجا،
أو طلاقا، أو تجارة.. أو أي شيء.. وفي بعض الأحيان كانت الكلمة تكفي حينما يتعامل المسلمون
مع بعضهم.. لأن الأمانة موجودة في القلب، وليست في الأوراق. فالإجراءات في المجتمع
المسلم إجراءات تختلف تماما في كل صغيرة وكبيرة عنها في المجتمع الجاهلي؛ في الشكل
والروح والهدف. فينبغي دائما أن نعلم أن المجتمع المسلم يتميز تميزا كاملا ومطلقا عن
المجتمع الجاهلي. ولذلك ينبغي ألا يعالج هذا المجتمع بمفهومات أجنبية عنه، ولا وفق
منهج غريب عن طبيعته، ولا أن تنفذ فيه اجراءات مستمدة من نظام آخر غير مطبق فيه.. فلا
بد أن تكون هذه الاجراءات متمشية مع طبيعة هذا المجتمع وعقيدته وأهدافه.
ثم يقول
الأستاذ سيد رحمه الله: "إن المجتمع
الإسلامي -كما يبدو من تعريفنا المستقل للحضارة- ليس مجرد صورة تاريخية، يبحث عنها
في ذكريات الماضي، إنما هو طُلْبة الحاضر وأمل المستقبل. إنه هدف يمكن أن تستشرفه البشرية
كلها اليوم وغداً، لترتفع به من وهدة الجاهلية التي تتردى فيها، سواء في هذه الجاهلية
الأمم المتقدمة صناعياً واقتصادياً والأمم المتخلفة أيضاً."
فالمجتمع
الإسلامي مجتمع مطلوب أن يكون موجودا باستمرار، وأن يكون هو الأمل للبشرية. فالبشرية
-دائما- تأمل السعادة والطمأنينة والكفاية والأمن والتحابب والتعاضد.. ولن يكون ذلك
إلا في المجتمع الإسلامي. فالمجتمع المسلم ليس صورة تاريخيه مضت، وليس ذكريات عن الماضي
تُذكر للمتعة.. ولكنه طُلْبة الحاضر وأمل المستقبل.
إن هذا
الإسلام وهذا المجتمع المسلم يمكن أن يتحقق في كل مكان، وفي كل بيئة، ومع كل تطور وكل
مرحلة.
يقول
"إن تلك القيم
التي أشرنا إليها إجمالاً هي قيم إنسانية، لم تبلغها الإنسانية إلا في فترة "الحضارة
الإسلامية". ويجب أن ننبه إلى ما نعنيه بمصطلح "الحضارة الإسلامية"..
إنها الحضارة التي توافرت فيها تلك القيم، وليست هي كل تقدم صناعي أو اقتصادي أو علمي
مع تخلف القيم عنه وهذه القيم ليست "مثالية خيالية" إنما هي قيم واقعية عملية،
يمكن تحقيقها بالجهد البشري -في ظل المفهومات الإسلامية الصحيحة-، يمكن تحقيقها في
كل بيئة بغض النظر عن نوع الحياة السائدة فيها، وعن تقدمها الصناعي والاقتصادي والعلمي..
فهي لا تعارض -بل تشجع بالمنطق العقيدي ذاته- التقدم في كافة حقول الخلافة، ولكنها
في الوقت ذاته لا تقف مكتوفة اليدين في البلاد التي لم تتقدم في هذه الحقول بعد. إن
الحضارة يمكن أن تقوم في كل مكان وفي كل بيئة.. تقوم بهذه القيم. أما أشكالها المادية
التي تتخذها فلا حد لها، لأنها في كل بيئة تستخدم المقدرات الموجودة بها فعلاً وتنميها."
والواقعية
قضية تحدثنا عنها قبل ذلك. والإسلام لا يتعامل مع الأماني الخيالية، ولا ينضغط تحت
متطلبات الواقع، وإنما هو -دائما- يحاول أن يرفع الواقع إلى المثال، من خلال قدراته
وإمكانياته الحقيقية المتاحة.
هذا
الدين وهذه العقيدة وهذه القيم تعضد وتشجع التقدم في كافة حقول النشاط الإنساني. ولكنها
في الوقت ذاته لا تقف مكتوفة اليدين إذا لم تكن متقدمة في هذه الحقول بعد. فهذه القيم
الإنسانية ليست مرتبطة بمستوى تقدم معين، ولا بمستوى إنساني معين من الناحية المادية،
أو من الناحية الاقتصادية والعلمية.
فأي
مجتمع -من مجتمعات الرعي والبدو، إلى مجتمعات التكنولوجيا الرفيعة- أي مجتمع من هذه
المجتمعات يستطيع أن يقيم هذه القيم الإيمانية فيها بصرف النظر عن مستوى مرحلة الحضارة
المادية التي يكون عليها هذا المجتمع.
إن الحضارة
تقوم في كل مكان وفي كل بيئة. تقوم بهذه القيم. فالمهم أن تقوم هذه القيم. أما مستوى
المجتمع من ناحية أشكال الحضارة فيختلف باختلاف أشكالها المادية التي تتخذها، وهي لا
حد لها، لأن كل بيئة تستخدم المقدرات الموجودة بها فعلا، وتنميها.
فالإسلام
-بقيمه الرفيعة- يلتقي مع الإنسان، ومع أي مجتمع، من النقطة التي يقف عندها.. ليقرر
قيمه أولا، لأن هذه هي الأسس الإنسانية التي يقوم عليها المجتمع الإنساني، ثم يأخذ
هذا المجتمع صعدا إلى الآفاق العليا، من النقطة التي يلتقي فيها مع هذا المجتمع. ومن
ثَم تختلف أشكال الحضارة الإسلامية. فالمجتمعات الإسلامية يمكن أن تختلف في أشكالها
الحضارية، ولكنها لا تختلف في قيمها الإنسانية.
يقول
"المجتمع الإسلامي
إذن -من ناحية شكله وحجمه ونوع الحياة السائدة فيه- ليس صورة تاريخية ثابتة.."
فالمجتمع
الأول في عهد رسول الله ﷺ، وعهد الخلافة الراشدة، هو مجتمع إسلامي.
ولكن ليس مطلوبا من المجتمعات التالية أن تكون صورة "كربونية" مطابقة تماما
لهذا المجتمع، بحيث يصبح هذا المجتمع صورة تاريخية ثابته لا يجوز مخالفتها في الشكل
الحضاري.. وإنما الذي لا يجوز هو مخالفتها في الأسس الثابتة التي قامت عليها.. ولكن
يمكن أن يختلف عنها في الأشكال الحضارية.
يقول
"لكن وجوده
وحضارته يرتكنان إلى قيم تاريخية ثابتة.. وحين نقول: "تاريخية" لا نعني إلا
أن هذه القيم قد عرفت في تاريخ معين.. وإلا فهي ليست من صنع التاريخ، ولا علاقة لها
بالزمن في طبيعتها.. إنها حقيقة جاءت إلى البشرية من مصدر رباني.. من وراء الواقع البشري.
ومن وراء الوجود المادي أيضاً."
هذه
القيم الإنسانية عُرفت مع خلق آدم. فهي قيم ثابتة. ويستطيع المجتمع الإنساني في تطوره
أن يستصحب هذه القيم باستمرار، ويغير من شكله الحضاري أيضا باستمرار. وهنا يدخل مفهوم
الثابت والمتطور في الحياة البشرية.
هناك
أشياء ثابته لا تتغير (عقيدة المجتمع، قيمه، أخلاقه، أخوته، أهدافه.. وهكذا). ولكن
يمكن أن يختلف شكل الحضارة؛ من حياة الغابة، إلى الحياة في ناطحات السحاب. والإنسان
الذي يدير سفينة الفضاء هو نفس الإنسان -بقيمه وموازينه- الذي كان يعيش في الغابة شبه
عار حينما لم يكن هناك نسيج ولا ملابس. الخُلُق هو الخلق، والعقيدة هي هي، والأخوة
هي هي، والمشاعر والشعائر والشرائع كذلك. ولكن الاختلاف يكون في الشكل الخارجي للحضارة.
يقول
"والحضارة الإسلامية
يمكن أن تتخذ أشكالاً متنوعة في تركيبها المادي والتشكيلي، ولكن الأصول والقيم التي
تقوم عليها ثابتة، لأنها هي مقومات هذه الحضارة: العبودية لله وحده. والتجمع على آصرة
العقيدة فيه. واستعلاء إنسانية الإنسان على المادة. وسيادة القيم الإنسانية التي تنمي
إنسانية الإنسان لا حيوانيته.. وحرمة الأسرة. والخلافة في الأرض على عهد الله وشرطه..
وتحكيم منهج الله وشريعته وحدها في شؤون هذه الخلافة..."
هذه
الأمور الستة التي تكلمنا عنها قبل ذلك، والتي هي مقومات الحضارة.
"إن "أشكال" الحضارة الإسلامية
التي تقوم على هذه الأسس الثابتة، تتأثر بدرجة التقدم الصناعي والاقتصادي والعلمي،
لأنها تستخدم الموجود منها فعلاً في كل بيئة.. ومن ثمَّ لا بد أن تختلف أشكالها.. لا
بد أن تختلف لتضمن المرونة الكافية لدخول كافة البيئات والمستويات في الإطار الإسلامي.."
فالمسلم،
والرواد المسلمون لا يقفون مترددين أمام شكل من أشكال الحضارة، لأنهم يستطيعون أن يستغلوا
هذه الحضارة، ويصيغوها في القالب الإسلامي. وهذا جانب من المنهج الإسلامي.. منهج المرونة،
والقدرة على التشكُّل، للتعامل مع أي مجتمع في أي مرحلة من مراحله، بحيث لا تتناقض
ولا تخرج عن الأسس الثابتة.
فالإسلام
والمنهج الإسلامي يستطيع أن يصبغ الشكل الحضاري المتقدم بالروح الإسلامية. ويستخدم
كل منجزات الحضارة، بحيث تخدم الغاية العظمى؛ وهي العبودية لله، وينقي أشكال هذه الحضارة
من كل موروثات التصور القديم الباطل، ويرفعها لكي تخدم الغرض الجديد.
هذه
المرونة لا بد أن تكون معلومة. لأن كثيرا مما تركته بعض المذاهب المنتسبة للإسلام؛
مثل الصوفية، والسلفية المنحرفة، أوهمت الناس أن الإسلام لا يقبل بالمنجزات الحضارية
الجديدة، وأنه لا يقبل الطائرة ولا السيارة، ولا يقبل كذا وكذا.. بحيث تصور الناس أن
الإسلام يعادي التقدم المادي، ويعادي التسهيلات التكنولوجية.. وهذا التصور باطل.
فالمسلم
لا يغير من طبيعة الإسلام حتى يتفق مع أشكال الحضارة الجديدة التي يواجهها، أو التي
يصل إليها. لكن هذا التواؤم مع أشكال الحضارة الجديدة هو من طبيعة العقيدة الإسلامية،
فهي تعطي المجتمع الإسلامي المرونة الكافية ليتشكل بأشكال متعددة، ولكن يكون ملتزما
-في نفس الوقت- بالأصول الثابتة فنحن لن نتنازل عن الإسلام كي نأخذ بأشكال الحضارة
الجديدة، ولسنا متجمدين حتى نرفضها.. إنما نحن نعرف أن هناك أصولا ثابتة، ثم بعد ذلك
تتعدد الأشكال الحضارية فوق الأرض الثابتة، لتصبح هذه الأشكال الحضارية حضارة إسلامية،
تمتص رحيقها من التربة الإسلامية الثابتة الواضحة.
يقول
"لكن المرونة
ليست هي التميع.. والفرق بينهما بعيد جداً!"
وكثير
من المنهزمين يأخذون هذه المرونة على حساب الأصول الثابتة. ويميعون في التاريخ الإسلامي
وفي الحركة الإسلامية، ويقولون إن الإسلام لا يناقض الحرية، فيوسعون دائرة الحرية حتى
يمسوا القيم الثابتة.
يقولون
إن المرأة مكرمة في المجتمع المسلم، وأنها مساوية للرجل من ناحية القيمة، ومن ناحية
العبودية لله، ومن ناحية التكليف.. ثم يوسعون هذا الأمر ليسووا بينهما في الوظائف،
ولكي يجعلوها حرة في كل شيء.. وهذا نوع من التميُّع.
الإسلام
يدعو إلى الشورى.. ثم يغيرون أمر الشورى إلى أن تصبح ديموقراطية؛ الأغلبية هي التي
تحكم، حتى وإن كانت على الباطل.
في أمر
المواصلات والمدارس.. يقولون إن الإسلام ليس معقدا.. الإسلام فطري.. لماذا نعمل مواصلات
خاصة للرجال وأخرى للنساء؟ لماذا نعمل مدارس خاصة للرجال وأخرى للنساء؟ ويوسعون هذه
المرونة المحكومة بالقيم الثابتة، فيفقدونها القيم الثابتة، ويميعونها.
هناك
فرق كبير بين هذا وبين المرونة التي تجعل المجتمع المسلم قادرا على أن يقبل أي تغيير
وتشكيل من الأشكال الخارجية للحضارة، دون أن يفقد ذرة واحدة من قيمه الثابتة. وحينما
يفعل ذلك تصبح هذه الأشكال الحضارية أشكالاً مباركة وأشكالاً طيبة.
يقول
"لقد كان الإسلام
ينشئ الحضارة في أواسط إفريقيا بين العراة.. لأنه بمجرد وجوده هناك تُكتسى الأجسام
العارية ويدخل الناس فـي حضارة اللباس التي يتضمنها التوجيه الإسلامي المباشر.."
يدخل
الإسلام فيستر عوراتهم، وهذه هي الحضارة. بينما الجاهلية تدعو إلى الانتكاس، وإلى الحيوانية..
حيث لا لباس ولا ستر للعورات.. بينما يكون أول شيء يعمله الإسلام حين يدخل أي بيئة
جاهلية أن تُكسى العورات، والعورات هنا ليست فقط في شكل العورة، وإنما في شكل الملبس،
وشكل الكلمات والحركات، والعلاقة بين الرجل والمرأة، وبين عالم الرجال وعالم النساء،
وأشكال النكاح.. كل هذا يدخل في الحضارة الإسلامية التي ترفع الناس من التشبه بالحيوان
إلى أن يصبحوا أناسا يحرصون على القيم الإيمانية.
يقول
"ويبدأ الناس
في الخروج كذلك من الخمول البليد إلى نشاط العمل الموجه لاستغلال كنوز الكون المادي.."
كذلك
الإسلام.. يدعو دائما إلى العمل، وإلى الحركة.. بعد أن كان العرب ينشدون أشعارا ويشربون
الخمر ويتقاتلون فقط.. أصبح العرب بعد ذلك سادة العالم، وهم الذين وضعوا أسس الحضارة
حينما أخذوا بالمنهج الإسلامي في جوانب الحياة كلها، وساهموا مساهمة رئيسية في كل ما
تقوم عليه الحضارة المادية المعاصرة، والتقدم العلمي المعاصر.
اكتشفوا
أنفسهم، وخرجوا من ذلك الخمول والانحطاط، فأصبح هناك علماء وكيميائيون وعلماء فلك ورياضيات
وطب، وأصبح.. وأصبح.. وامتلأت الحياة الإسلامية حركة ونشاطا، بعد أن كان العربي يميل
إلى الخمول وإلى البعد عن الطموحات العالية.
يقول
"ويخرجون كذلك
من طور القبيلة -أو العشيرة- إلى طور الأمة.."
هذا
الضيق الذي كانوا يعيشون بداخله.. "القبيلة".. القبيلة هذه بكل عناصرها الضيقة..
مكانا.. وزمانا وتقاليد.
فالقبيلة
كانت هي محبس الإنسان.. تستعبده داخلها، ولا يستطيع الإنسان أن ينطلق خارجها، فلا يستطيع
أن ينتقل من قبيلة إلى قبيلة.. وإلا يصبح هذا انحطاطا وفضيحة، ويُسمى بالصعلوك الذي
لا قبيلة له.. وفي نفس الوقت إذا كان فردا منضما إلى قبيلة استعبدته:
وهل أنا إلا من غزية إن غوت
|
غويت وإن ترشد غزية أرشد
|
فإذا أراد أحد أن يتمرد على القبيلة، لعدم رضائه
عن ممارستها، يصبح صعلوكا، وتطرده كل قبائل العرب.
والإسلام
نقل هؤلاء من طور القبيلة والعشيرة إلى طور الأمة. فصارت كلها أمة واحدة، تقوم على
عقيدة واحدة، بصرف النظر عن الجنس أو اللغة أو اللون، أو أي شيء آخر.
فينتقل
الإنسان بالإسلام من هذا الضيق الذي كان يعيش فيه؛ ضيق القبيلة والمكان، إلى سعة الأرض
كلها، بل سعة الكون كله.. فينساح في الأرض كلها، بلا حدود من جنس أو لون أو أرض أو
لغة. وكما رأينا أن الأمة الإسلامية قد جمعت بين دفتيها من طرف المحيط الأطلسي إلى
أسوار الصين، ومن أسوار فيينا وبحر البلطيق شمالا إلى منابع النيل جنوبا.
ولم
يشعر المسلم وهو ينتقل في هذه الرقعة الهائلة أنه غريب أو ضيف، أو أنه مستهجن.. ولم
يشعر للحظة واحدة أنه قد فارق قومه أو فارق أهله، بل هو -في كل مكان ومع كل قوم- يشعر
أن هؤلاء أهله.
وكان
الرجل ينتقل من الغرب إلى الشرق، فيجد مكانته في المكان الجديد، فإذا كان الرجل رجل
علم يصبح إماما في العلم، وإذا كان يستحق القضاء ينصّب في القضاء، بصرف النظر عن موطنه،
ولا شك أن الإسلام أخرج البشرية من عبادة العباد إلى عبادة الله وحده، ومن جور الأديان
إلى عدل الإسلام، ومن ضيق الدنيا إلى سعة الدنيا والآخرة.
فلا
شك أنه حينما كان الإسلام يدخل أي أرض، كان ينشئ الحضارة بكل معانيها.
يقول
"وينتقلون من
عبادة الطوطم المنعزلة إلى عبادة رب العالمين.."
ولا
شك أن هذا أكبر رقي يصنعه الإسلام، حين يخلع الإنسان وينقذه من وهدة الضلال، ومن وهدة
العبادة لكل شيء حقير، إلى أن يعبد الله الحق، المستحق للعبادة وحده، والذي يجد الإنسان
معه سبحانه كرامته وحريته.
لكن
في الجاهلية؛ يعبد الإنسان كل ما هو دونه.. يعبد الأحجار، يعبد إنسانا مثله، يعبد الحشرات،
يعبد الكواكب، يعبد الأشجار، يعبد الأوهام والأساطير.. ويعبد كل شيء.
ويأتي
الإسلام لكي يأخذ بيد الإنسان وعقله وقلبه إلى هذه القمة السامقة من التحرر من كل هذه
الأوهام والأساطير، ومن كل هذه الأغلال والقيود. لكي يكون إنسانا حرا، يعبد الله وحده،
ويكون سيدا في الأرض في نفس الوقت.
يقول
"فما هي الحضارة
إن لم تكن هي هذا؟ إنها حضارة هذه البيئة، التي تعتمد على إمكانياتها القائمة فعلاً..
فأما حين يدخل الإسلام في بيئة أخرى فإنه ينشئ -بقيمه الثابتة- شكلاً آخر من أشكال
الحضارة يستخدم فيه موجودات هذه البيئة وإمكانياتها الفعلية وينميها."
فسواء
دخل الإسلام إلى مجتمع القبائل البدائية في أواسط أفريقيا، أو دخل أعلى المجتمعات تكنولوجيا
في أمريكا أو أوربا، فإن المسلم لا يشعر أنه متخلف.. بل على العكس، يشعر أنه سيد قادم
من عالم آخر، ليعلم الناس كيف يرتقون بإنسانيتهم، ويستخدمون في نفس الوقت كل ما أنجزوه،
أو ما أنعم الله به عليهم من مقومات الحضارة والتقدم. يشعر أنه جاء لينظف هذه المجتمعات،
ويطهرها، ويغيرها، ويستغل هذا التقدم والتسهيلات لكي يوفر الوقت والجهد لتعبيد الناس
لله، وليس لمجرد المرح والمتعة الجسدية أو النفسية فقط.
وبذلك
يصبح الإسلام دائما هو مصدر الحضارة. ليس هو الذي يأخذ الحضارة، وإنما هو الذي يعطي
الحضارة.
يقول
"وهكذا لا يتوقف
قيام الحضارة -بطريقة الإسلام ومنهجه- على درجة معينة من التقدم الصناعي والاقتصادي
والعلمي. وإنْ كانت الحضارة حين تقوم تستخدم هذا التقدم -عند وجوده- وتدفعه إلى الأمام
دفعاً، وترفع أهدافه. كما إنها تنشئه إنشاءً حين لا يكون.. وتكفل نموه واطراده.."
فقيام
الحضارة -بمفهومها الإسلامي- لا يتوقف على درجة معينة من التقدم الصناعي أو الاقتصادي
أو العلمي، وإن كانت هذه الحضارة حين تقوم تستخدم هذا التقدم، وتدفعه إلى الأمام، وترفع
أهدافه، كما أنها تنشئه إن لم يكن موجودا، وتكفل نموه واطراده. ولكنها تظل في كل حال
قائمة على أصولها المستقلة، على تميزها الكامل، حينما تقوم على تلك القيم الحضارية
التي أوردناها قبل ذلك. فهي لا تتنازل عنها أمام أي عرض من أعراض التقدم المادي والأشكال
الحضارية.
لا بد
أن تكون هذه القيم قائمة ثابتة، ثم بعد ذلك تأتي الأشكال الحضارية لتخضع لهذه القيم،
وتصطبغ بصبغتها، وتتشكل بروحها. وإلا فلا يجوز للقائمين على هذا المجتمع المسلم أن
يقبلوها، مهما كانت المكاسب المادية والمكاسب الشكلية الحضارية. فهم يرفضون هذه الأشكال
الحضارية إذا كانت تعارض أو تعطل أي نمو ونماء في الجانب الإيماني والجانب المعنوي.
يقول
"ولكنها تظل
في كل حال قائمة على أصولها المستقلة. ويبقى للمجتمع الإسلامي طابعه الخاص، وتركيبه
العضوي، الناشئان عن نقطة انطلاقه الأولى، التي يتميز بها من كل مجتمعات الجاهلية..
﴿ صِبْغَةَ اللَّهِ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ صِبْغَةً ﴾ [البقرة: 138].."
فنقطة
الانطلاق الأولى هي أنها تصدر عن مصدر خارج عن الأرض، وخارج عن الكون المادي.. مصدر
علوي.. مصدر إلهي رباني. وأنها تنطلق من هذا المنطلق لتحقق شكلا معينا وروحا معينة
ووجودا معينا، تتميز به عن كل المجتمعات الجاهلية التي تنطلق من مصادر أرضية وتتشكل
حياتها بالأهواء البشرية وبالتخلف البشري.
ومن
ثم يصبح الإسلام هو الحضارة كما بَيَّنا، وتصبح المجتمعات الجاهلية هي المجتمعات المتخلفة..
فهي مجتمعات متخلفة ابتداءً لجهلها الواضح بالحقيقة العظمى والأولى، ونهاية بانحطاطها
النفسي والسلوكي والعقلي وحتى التنظيمي.
فنحن
نرى أنه رغم التقدم الهائل في علوم الإدارة -مثلا- لكننا نجد ممارسة الجاهلية للإدارة
نفسها ممارسة منحطة جدا، تتدخل فيها المؤامرات والمحسوبية والأهواء والخداع، ومحاولة
استغلال الآخرين وتحطيمهم، فالإدارة شيء وممارستها شيء آخر.
فالواقع
أنها مجتمعات متخلفة معنويا وماديا، وإن تزينت بزينة التقدم المادي. وهي زينة عارضة،
لا تقلل من انحطاطها ولا تخلّفها. ولا ينقص ذلك المجتمع المسلم إذا كان عاطلاً من هذه
الزينة، وإن كانت العقيدة الإسلامية تدعو وتلح على اتخاذ هذه الزينة بشروطها التي لا
بد منها؛ وهي الالتزام بالقيم الإيمانية والإسلامية.
وحينما
تأخذ الحضارة الإسلامية هذين المقومين: "المقوم المادي والتكنولوجي"،
"والمقوم المعنوي والنفسي" فحينها تكون في أقصى صورها وفي قمة كمالها.
وكما
قلنا: إن الإسلام هو تحقيق الكمال المعنوي والمادي والسلوكي.. والحضارة هي تحقيق الكمال
المعنوي والمادي والسلوكي. ومن ثم نخرج بمعادلة واضحة "أن الإسلام هو الحضارة"
﴿ صِبْغَةَ
اللَّهِ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ صِبْغَةً ﴾ [البقرة: 138].