نحن بأمس الحاجة إلى إدارة مناقشة وطنية مستقلة وعلمية ومسؤولة نحو أفضل الممارسات التي يمكن أن تدير دفة الإعلام الأردني نحوها، وتحديداً في مجال تطبيقات الإعلام الجديد وأهمها الصحافة الإلكترونية، هناك شعور عام متنام منذ أكثر من ثلاث سنوات حول فوضى ممارسات بعض المواقع الإلكترونية وصولاً إلى رداءة بعض المحتوى الإعلامي للأثير الإذاعي والفضاء التلفزيوني المرخص محلياً.
المساءلة الذاتية والتنظيم
من الواضح أن المشهد يعبر عن حالة من الفراغ المعرفي والمهني واستمرار هذا الفراغ يدين أولاً أجيالا من المؤسسات الرسمية التي تركت هذا الفراغ يتسع ما فتح المجال أمام من هب ودب للتجريب وممارسة هواية خطيرة تحولت إلى لعبة سياسية مع الوقت ما حوَّل هذا المجال الإعلامي الواعد إلى أداة لإدارة الصراعات الصغيرة والكبيرة وأداة للابتزاز، وهذا الفراغ المعرفي والمهني يدين ثانياً المجتمع الإعلامي ومؤسساته المستقلة التي لم تبادر إلى وقت قريب بحماية حق المجتمع الأردني بمعرفة عادلة ونزيهة وبقيم مهنية من خلال التطبيقات التكنولوجية الجديدة كما يحدث في بلاد العالم الأخرى.
التزمت الحكومات الأردنية على مدى عدة سنوات بعدم التدخل في تنظيم المحتوى الإعلامي على الإنترنت، وعلى الرغم من قرار محكمة التمييز الأخير، الذي أدخل المواقع الإلكترونية ضمن تعريف المطبوعة الصحافية، فإن القرار لم يوفر الآلية أو الإرادة للتدخل الرسمي في تنظيم المحتوى الإعلامي على الإنترنت في الوقت الذي بقي فيه أصحاب بعض هذه المواقع يرددون مقولة غير دقيقة حول استحالة إمكانية التدخل وهم عادة ما قصدوا الإمكانية التكنولوجية، بحجة أن بعض المواقع مسجلة أو مستضافة من قبل شركات أجنبية.
تفيد المسوحات العالمية لآليات إدارة المحتوى الإعلامي على الإنترنت بصعوبة فرض قيود على المحتوى، إلا أن هذه الصعوبة ليست مستحيلة تكنولوجياً أو قانونياً حيث تقسم دول العالم إلى ثلاث مجموعات في هذا المجال وهي، مجموعة لا تُخضع المحتوى الإعلامي والعام على الإنترنت لأي رقابة أو تنظيم قانوني لكنه عملياً قد يخضع للتحكم التكنولوجي في أي لحظة، ومجموعة تُخضع المحتوى الإعلامي تحت رقابة جزئية استناداً إلى تشريعات خاصة، وأخيراً مجموعة تخضع الإنترنت تحت الرقابة التامة.
وبين هذه المجموعات العريضة توجد بلدان حائرة وما تزال تشهد حالة من الفوضى وعدم القدرة على الحسم، بينما سعت دول أخرى لنمط ناعم من التدخل فيما يسمى (التنظيم الخفيف للمحتوى الإعلامي على الإنترنت) ومنها استراليا التي أوكلت مهمة تنظيم هذا المحتوى وتحديداً غير الملائم لـ (المنظم الوطني المستقل للإذاعة والتلفزيون والاتصالات اللاسلكية) الذي يتولى استلام الشكاوى حول المحتوى غير الملائم، وللمنظم سلطة حصرية على المحتوى المستضاف داخل الحدود الأسترالية فقط.
المسألة الأخرى التي طالت أمد حالة الفراغ المعرفي والمهني والتنظيمي وحولتها إلى حالة من فوضى هي التعلل بالتنظيم الذاتي الذي لم يحدث ولم نتقدم نحوه ولو خطوة واحدة، نتيجة الفراغ المعرفي والمهني بماهية التنظيم الذاتي وشروط الأهلية التي تقود إليه، فالشرط الأساسي للتنظيم الذاتي هو نضوج مهني يقود إلى المساءلة الذاتية.
وحدها وسائل الإعلام التي قطعت أشواطاً من السباق في التحصيل المهني وأنشأت أجيالا من الإعلاميين المحترفين والمؤهلين على قيم مهنية عالية هي القادرة على التنظيم الذاتي ولا يمكن أن تتصور في أي بلد من العالم جماعات أتت بها الصدفة أو بفعل المصالح الريعية والعلاقات الزبونية الطارئة ولا تملك التأهيل أن تقوم بمهمة التنظيم الذاتي.
يبدأ هذا النمط من التنظيم بالمساءلة الذاتية أي بإخضاع الأطر المؤسسية والمهنية والمنتج الإعلامي لمسطرة القيم المهنية والأخلاقية الصارمة بالالتزام الجاد الأول والأخير بالحقيقة والولاء للمجتمع والالتزام بمنظومة واسعة ودقيقة من معايير النزاهة والإنصاف والتوازن، هذه المساءلة الذاتية هي التي أنضجت التنظيم الذاتي في تجارب الإصلاح الإعلامي الجديد وفي الديمقراطيات العريقة، ويمكن الرجوع إلى تقرير المنظمة المادة (19) الصادر في عام 2005م (الحرية والمساءلة: الحفاظ على حرية التعبير عن طريق التنظيم الذاتي للإعلام) والذي يعرض أفضل الممارسات في التنظيم الذاتي من دول جنوب شرق أوروبا من أجل تحسين المعايير الإعلامية وإرساء تقاليد المساءلة الإعلامية الذاتية والمساءلة الإعلامية العامة.
المساءلة حول المسؤولية والقيم المهنية
دفع النضال الفكري والثقافي ثمنا باهظا في سبيل الحرية الإعلامية في القرنين السابع عشر والثامن عشر، ما فتح الباب واسعا أمام إعادة صياغة التحولات الكبرى في العالم من ميلاد الديمقراطيات وحقوق الإنسان إلى التحولات الاقتصادية الكبرى، ولكن الحرية وحدها لا تحمي الحرية ؛ ما أوجد الحاجة إلى الاشتغال على تطوير قيم المهنية واعتبارها أساس الحرية ، فكما ان الحرية في التاريخ والمجتمع والطبيعة لا تليق إلا بالأحرار الذين يصونون قيم الحرية فهي كذلك في الحريات الإعلامية التي رُبطت بالقيم المهنية والمسؤولية الاجتماعية.
سمة المسؤوليـة الاجتماعيـة للصحافـة استقرت بعد عقود من الانفلات في ضبط معايير النشر والصحافـة في الغرب، حينما كانت توصف الأفكار بالسلع التي تتنافس في السوق، ومع ان الرئيس الأميركي توماس جيفرسون الذي كان متسامحاً لدرجـة كبيرة مع الصحافـة ورفض إصدار أي تشريع يقيدها، قد وصفها آنذاك بأنها "الصفحات القذرة التي تروج للعهر الفكري بالأكاذيب".
قضيـة المسؤوليـة الاجتماعيـة للصحافـة إحدى قضايا الاتصال الجماهيري القديمـة التي أخذ النقاش حولها يتجدد في العالم، وقد احتلت هذه القضية الواجهـة في الولايات المتحدة في نهايـة عقد الأربعينيات وشهدت الساحات الإعلامية والثقافيـة الغربيـة حوارات واسعـة حولها لم تنتهِ بعد، أنتجت ما سمي بنظريـة المسؤوليـة الاجتماعيـة للإعلام، إلا ان هذا الإطار المعرفي طالما تعرض للنقد والتشويه الذي استخدم مرة أداة لقمع وسائل الإعلام باسم المجتمع ومرة ثانيـة استخدم أداة لاغتيال الحقيقـة وتشويهها باسم تلك المسؤوليـة، وتحت وطأة التعلل بالضمير الاجتماعي.
بالفعل عملت التكنولوجيا على حسم معركة الآنية والسرعة والتقصي الإخباري لمصلحة البث المباشر والصحافة الالكترونية. لكن الوفرة التي جاءت بها تكنولوجيا الاتصال حولت صراع الوسائل من التنافس الحاد جريا وراء المعلومات أي الأخبار إلى التنافس المحموم وراء الأفكار التي تفسر الأخبار وعادة تتميز بهذه المهمة الصحافة أكثر من غيرها وفق الخصائص الفنية لطبيعة عمل الصحافة إلى جانب الخصائص الاجتماعية والنفسية التي تنظم علاقتها مع المتلقي وبالتالي تتفق وظيفة تقديم الرأي مع الصحافة أكثر من غيرها من الوسائل. في حين تميل معادلة الوفرة والندرة بين الأفكار والمعلومات لمصلحة الأفكار الأقل وفرة والأكثر ندرة،على حساب الأخبار الأكثر وفرة بفعل تكنولوجيا الوسائل الجديدة. وأدخلت مسألة حماية الحقيقة والمجتمع من جهة مقابل حماية الحرية في حلبة نقاش حاد جديد، هذا الجدل يفضي نحو إعادة صياغة منظور المسؤولية الاجتماعية للإعلام الجديد من خلال إعادة اكتشاف مفهوم الموضوعية وحراسة الحقيقة بعيدا عن الإلزام الإيديولوجي وأشكال إلزام السلطة المختلفة وبالاشتغال على المهنية وتوطين قيمها في مواجهة نمط من الإكراه الثقافي والإعلامي تتيحه وسائل الإعلام الجديد.
ومع استمرار هذا الجدل تبقى المشكلة الحقيقية في صحافة المجتمعات التي تمر بعمليات تحديث سياسي صعب وغير ميسر حال الكثير من تجارب الدول النامية، حيث يعمل تراجع الحريات في وسائل الإعلام التقليدية لحساب الوسائل الجديدة المفتقدة للمهنية أحيانا على إعادة بناء أشكال مخترعة من السيطرة تعمل على عرقلة تقدم الصحافة وإعاقة مهمتها الجديدة القديمة في حماية الحقيقة وتفسيرها.
نهاية الفوضى وبداية الإصلاح
لا يمكن الاستمرار في استخدام عنوان "التنظيم الذاتي" من دون مضمون حقيقي وانجازات جادة تقود إليه، ولا يمكن الاستمرار في ترديد مقولة أن المهنية ستلتهم الرداءة وأن التصحيح الذاتي قادم، وفي نفس الوقت يفترض انحيازنا للحريات الإعلامية وبناء الأردن الديمقراطي وحماية الخيارات الوطنية للدولة الأردنية إلى عدم الذهاب بعيداً في التعبئة لتدخل رسمي مباشر في الإعلام الالكتروني.
إنهاء الفوضى والتجاوزات التي أوجدتها بعض المواقع الإلكترونية وبعض وسائل الإعلام الأخرى يحتاج إلى تدخل ناعم من قبل المؤسسات المستقلة في رعاية التنظيم الذاتي عبر خطوات جريئة وجادة، لأن الخلفية التي أوجدت هذه الأوضاع هي خلفيات سياسية في الأساس.
يجب أن نعترف بحقيقة أن المجتمع الإعلامي في الإعلام الإلكتروني ما يزال إلى هذا الوقت مجتمعا صغيرا ويوصف بضعف المهنية الإعلامية وتواضع الوعي القانوني وإدراك حدود التكنولوجيا، وما يزال هناك إرباك في الفصل بين الصحافة الإلكترونية وبين الإعلام الاجتماعي والمواقع الشخصية؛ فالكثير من المواقع الأردنية التي تعرف نفسها بصحافة الكترونية هي في الحقيقة لا تتجاوز المواقع الشخصية والمدونات، ولهذه الاعتبارات وغيرها فإن هذا المجتمع عاجز عن التنظيم الذاتي بمفهومه الواسع أي أنه يحتاج إلى رعاية للوصول إلى الحد الأدنى من هذا التنظيم.
ولأن الصحافة الإلكترونية وتطبيقات الإعلام الجديد بشكل عام هي إعلام المستقبل بالفعل، فإننا بحاجة إلى مبادرة وطنية جادة ومسؤولة يرعاها المجتمع الإعلامي ومؤسسات المجتمع المدني والمركز الوطني لحقوق الإنسان والحكومة لوضع تصور شامل لإصلاح الإعلام الأردني وإدراك ما فاتنا في تنمية صناعة الإعلام الإلكتروني وتطبيقات الإعلام الجديد؛ فالمسألة أخطر من المناكفات الآنية وصناعة اللعنات والاغتيال المعنوي للأفراد والمؤسسات وتشويه الوظيفة الرقابية للإعلام - على أهمية كل ما سبق -
فالمحتوى الإعلامي على شبكة الإنترنت يعد اليوم هو المصدر الأساس للاستثمار والاقتصاد وهو نافذة أولى للتعليم والتعلم وأداة حساسة وخطيرة لبناء الديمقراطية والتحولات السياسية ولا يمكن أن يترك هكذا ينمو كحقل من نبت شيطاني، وهنا يمكن مناقشة بعض الأفكار الأولية:
أولاً: الحاجة إلى مؤسسة مستقلة (الهيئة الأردنية لتنظيم قطاع الإعلام) تتولى المهام التنظيمية التنفيذية والإطار المرجعي لكافة المؤسسات وتلغى بموجبها المؤسسات التنظيمية الحالية على أن تتجاوز صيغة المجلس الأعلى للإعلام، وتمثل في إدارتها المؤسسات والقطاعات الإعلامية والمجتمع ويمكن الاستفادة في هذا الشأن من تجارب عالمية من أعرق الديمقراطيات في العالم مثل ممارسات اللجنة الفديرالية للاتصالات في الولايات المتحدة، والمجلس الإعلامي في فرنسا والمجلس الوطني للإعلام في ماليزيا. ثانياً: الحاجة إلى تعديل قانون نقابة الصحفيين الأردنيين بما يتيح لها أن تتقدم نحو الأمام في قيادة أطر التنظيم الذاتي للمجتمع الإعلامي.
ثالثاً: تأسيس "السجل الوطني للصحافة الإلكترونية" في نقابة الصحفيين الأردنيين، بحيث يطلب من كل الأشخاص والمؤسسات ممن يريدون أن يطلقوا مواقع الكترونية تحمل صفة الصحافة الإلكترونية التسجيل في "السجل الوطني للصحافة الإلكترونية" حيث تقوم النقابة بإصدار التعليمات الخاصة بهذا السجل الذي يجب أن يهدف إلى اشهار للهوية الإعلامية وتوفير أدوات للضبط الأخلاقي المهني. رابعاً: تقوم الحكومة بإصدار تعليمات واضحة حول التعامل مع الصحافة الإلكترونية في مجال التغطية الإعلامية والدعوات والإعلان الحكومي وفق محددات "السجل الوطني للصحافة الإلكترونية" الذي تنظمه نقابة الصحفيين.
خامساً: تقوم النقابات وغرف الصناعة والتجارة ومؤسسات المجتمع المدني بإصدار تعليمات تطلب من المؤسسات التابعة لها الالتزام بالسجل الوطني للصحافة الإلكترونية في التعامل مع هذه الوسائل.
سادساً: تطلق نقابة الصحفيين المرصد الوطني لتنمية مهنية الصحافة الإلكترونية وتشكل لجنة مستقلة دائمة لتلقي الشكاوى حول تجاوزات الصحافة الإلكترونية حيث يقوم المرصد بإصدار تقارير ربعية عن أحوال الصحافة الإلكترونية.
بقلم: د.باسم الطويسي
المراجع
sahafi.jo
التصانيف
صحافة د.باسم الطويسي العلوم الاجتماعية