هناك تحولات تطرأ في العراق، لكن يبدو أن الرئيس بوش عاجز عن مواكبتها، بتحول ديناميكي في السياسات. فإدارته تخشى من مواجهة جدّية تؤدّي إلى فك ارتباط القوى الشيعية المهيمنة على الحكومة، كما تخشى تقديم دعم حقيقي واسع للقوى السنّية، وهي لا تضمن ولاءها في المستقبل، هذا التردد في التضحية بحلفاء حاليين من أجل حلفاء جدد غير موثوقين، سببه الجوهري الرغبة الدفينة في البقاء في العراق إلى أمد غير محدد، وإدامة وصاية استعمارية ووجود قواعد عسكرية هي الأكبر خارج الولايات المتحدّة.
يستعيد الرئيس الأميركي وفي وجه المطالبين بالانسحاب، سيناريو فيتنام والانسحاب غير المشرّف، كما يستعيد المجازر الكمبودية وصورا أخرى، ومآسيَ يفترض أنها نتجت عن الهروب السريع للقوات الأميركية تحت ضغط الرأي العام والمعارضة. في المقابل، يطرح الرئيس الاميركي الصورة الزاهية للتجربتين اليابانية والألمانية وتطورهما الديمقراطي وازدهارهما تحت وصاية القوات الأميركية.
يغنينا الرد، الذي قدمته أصوات كثيرة في الولايات المتحدّة على هذه الاسقاطات التاريخية، عن مناقشتها، والحاصل أن الرغبة الأساسية ببقاء عسكري وسياسي بعيد الأمد تمنع إحداث تغيير في السياسات يفضي الى نتائج حاسمة. وهذه المراوحة مسؤولة إلى حدّ كبير عن إدامة الجحيم العراقي الراهن. وعلى سبيل المثال هناك ما يكفي من التقارير التي تؤكّد أن قوات الشرطة العراقية ليست صالحة أبدا لممارسة دور أمني وطني، فالوحدات المختلفة هي أقرب لميلشيات ترتبط مباشرة بمرجعيات حزبية وطائفية تقرر سلوكها، وحظّ السكان يتقرر بانتماء القادة الميدانيين وأعضاء هذه الوحدات إلى الطائفة نفسها، وقد أمكن إنجاز عمليات تطهير طائفي تحت سمع وبصر قوات الشرطة هذه، ولم تلق آذانا صاغية تلك الدعوات المطالبة بحلّ قوات الشرطة بالكامل، وإعادة بنائها على أسس جديدة واستدعاء الضباط المحترفين من الجيش والشرطة في الزمن السابق، وينطبق الأمر نفسه بدرجة معينة على الجيش، حيث يكمن الحلّ في عودة واسعة لضبّاط الجيش القديم، كما يقترح علاّوي وآخرون.
ليس للأميركان فضل كبير في انتفاضة الأنبار التي تمخضت عن تشكيل مجلس عشائري بذراع عسكرية، تمكن من محاربة القاعدة وتحرير الأنبار وبناء أمن ذاتي من أبناء المنطقة ذات التكوين العشائري العربي السنّي والتي عانت من ارهاب القاعدة، لكن اغتيال الشيخ ستار أبو ريشة رئيس مجلس صحوة الأنبار وجّه لهم ضربة مؤلمة - وقد دارت شكوك حول وقوف معسكر المالكي وراء مقتله- علما أن الاغتيال جاء بعد عشرة أيام فقط من المصافحة الشهيرة بين ابو ريشة وبوش، لكن القاعدة – إذا صحّ بيانها- بددت الشكوك بإعلانها رسميا تبنّي العملية.
التحول الواضح في موقف القوى السنّية، أكان من جمهور المدن أو مجموعات المقاومة، أو العشائر نضج على نار وعي جديد بمصالحهم، بعد تضحيات وخسائر كارثية. فقد كانت القاعدة تقوم بالتفجيرات الانتحارية الوحشية التي تستهدف الشيعة، ثم تتركهم نهبا للانتقام من الميليشات حتى كادت بغداد تخلو من مناطق تعايش بين الطائفتين. ورغم خطابها الطائفي الأرعن كانت القاعدة تتواطأ بتلقي الدعم الإيراني الذي يهدف بصورة مزدوجة إلى ضرب الأميركان وتعميق صدامهم مع السنّة من جهة، وتبرير سياسة التطهير الطائفي من جهة أخرى.
مع تصاعد احتمالات المواجهة بين الأميركان وإيران، بدأ السنّة يشعرون أنهم عمليا يقاتلون فقط نيابة عن إيران، بينما الخطر الداهم والمباشر عليهم يأتي منها، ومن أتباعها، فنشأ لديهم تفكير جديد باتباع تكتيكات تترجم مصالحهم في ضوء الواقع القائم، وعلى ذلك تحددت لهم أولويات جديدة أولها: إخراج القاعدة وإنهاء هيمنتها وتحقيق الأمن الذاتي، وثانيها: الدخول في مفاوضات مع الأميركان على قاعدة تغيير العملية السياسية مقابل وقف المقاومة، وثالثها: الامتناع عن أسلوب الثأر الطائفي والاستعداد للمشاركة، شرط إعادة التوازن إلى مؤسسات الدولة وضمان وحدة العراق وعروبته.
المراجع
جريدة الغد
التصانيف
صحافة جريدة الغد جميل النمري